في مصر لازال الاحتفال الرسمي بالعيد الوطني هو يوم ٢٣ يوليو أي في ذكري قيام الضباط الأحرار بانقلاب ثوري على النظام الملكي القائم وأسسوا لنظام جمهوري جديد جعل من 23 يوليو ثورة.
ومع مرور الوقت اكتفينا بالاحتفال بيوم ٢٣ يوليو كمرادف لعيدنا القومي ونسينا أهم ما أنتجه هذا اليوم وهو تأسيس الجمهورية في ١٨ يونيو ١٩٥٣ أي قبل ٧٠ عاما من الآن.
والحقيقة أن كثير من دول العالم تربط عيدها الوطني بتحول سياسي كبير، فتركيا لا تعتبر تاريخ وصول أتاتورك للسلطة (رغم أهميته الكبيرة في تاريخها المعاصر) هو يوم عيدها الوطني إنما تاريخ تأسيس الجمهورية في شهر أكتوبر قبل مائة عام.
صحيح أن فرنسا تحتفل بيومها الوطني في ذكري ثورتها في 14 يوليو 1789، وليس يوم إعلان الجمهورية في 22 سبتمبر 1792 رغم أنها تعتبر أول جمهورية في العالم منذ الجمهورية الرومانية القديمة، إلا أن ذلك قد يعود إلي إلغاء الجمهورية على يد نابليون بونابرت وتأسيس الإمبراطورية في 1804، حيث ظلت فرنسا تتأرجح بين جمهوريات وملكيات حتى الجمهورية الثالثة التي تأسست في الفترة من عام 1870 حتى عام 1940 وهي الفترة التي يمكن فيها القول أن الجمهورية قد ترسخت في فرنسا وتنقلت من نظم مختلفة ما بين الجمهورية الرابعة التي وضع دستورها في أكتوبر 1946 وحتى تأسيس الجنرال ديجول للجمهورية الخامسة في 1958 وأسست للنظام الرئاسي الذي لازال يحكم فرنسا حتى الآن.
ومع ذلك ظلت منظومة القيم والمبادئ التي ينطلق منها النظام السياسي هي مبادئ الجمهورية ولا تجد سياسي فرنسي يمكن أن يتجاهل مبادئ الجمهورية بل يعلن حين يتخذ تيار أو سياسي موقف متطرف فيكون الرد أو الاتهام إنه يهدد مبادئ الجمهورية التي يقوم عليها النظام السياسي، وأصبحت مبادئ الجمهورية في الحرية والمساواة والإخاء هي الشعار المرفوع في كل المؤسسات الفرنسية وهي القيم العليا الحاكمة.
صحيح أن فرنسا مثل كثير من نظم العالم لا تطبق بشكل كامل في الواقع هذه المبادئ، وكثيرا ما نجد انتهاكات في الممارسة العملية، ولكن يظل وجود بوصلة حاكمة عامل ردع دستوري وقانوني لأي انتهاكات وهو أمر يختلف تماما عن نظم تكون نقطة الانطلاق فيها هي عدم احترام أي مبادئ وتصبح الجمهورية مجرد شعار على الورق أو فقرة في نشيد الصباح.
والحقيقة أن مصر التي أعلنت جمهوريتها في مثل هذا الشهر قبل 70 عاما مثلت الأساس التوافقي “الصامت” الذي بني عليه النظام السياسي وكل المشاريع الحزبية والسياسية التي عرفتها البلاد شرعيتها، فستجد هناك خلاف حتى الآن حول تقييم 23 يوليو وما إذا كانت انقلاب أم ثورة، كما لازال هناك كثيرون يتذكرون كيف كانت عودة الوفد للحياة السياسية قائمة في جانب كبير منها على مواجهة إرث ثورة يوليو وخاصة فيما يتعلق بقرارات التأميم والتوجه الاشتراكي والتخلي عن الديمقراطية وعدم احترام الحريات العامة. وبعيدا عن أن البعض لم يكن مؤمن لا بالديمقراطية ولا الليبرالية واختار “الرايجه” في الهجوم على يوليو والثأر من تجربتها، ومع ذلك ظل هناك تيار واسع يري أخطاء يوليو ويؤمن بأنها لا يجب أن تمثل إطارا مرجعيا للنظام السياسي القائم ويعتبر أنها أحدثت قطيعة مع تجربة ليبرالية وليده كان يمكن أن تطور.
والحقيقة أن هؤلاء حتى لو كان لديهم حنين شكلي للملكية إلا أنهم جميعا يعتبرون الجمهورية أساس النظام القائم الذي حصلوا من خلاله على شرعيتهم ويعرفون جيدا أن الملكية تمثل ذكري وتاريخ مضي وأن خلافهم مع ثورة يوليو لا ينسحب على النظام الجمهوري الذي تلتزم بمبادئه كل الأحزاب والقوي السياسية المدنية المصرية.
ورغم أن جمهوريتنا في مصر منسية ولا يذكرها الحكام وأغلب المحكومين إلا أن مبادئها وقفت أمام مشروعين سياسيين مثلا نقيض “لمبادئها الكامنة”: الأول مشروع التوريث الذي استفز كثيرين واعتبر عكس معني وجود الجمهورية والمضامين التي رفعتها في مصر وأي مكان في العالم، والثاني مشروع التمكين الإخواني الذي حمل مشروع ديني أممي مناقض لمبادئ الجمهورية في الحفاظ على الدولة الوطنية، ودفع التيارات السياسية أن تتحد في مواجهه مشروع الإخوان مستنده ولو ضمنا على مبادئ وخبرة النظام الجمهوري.
الجمهورية في مصر صامته لأنها تحمل مبادئ “غير مفعله” وشهدت خبرات ونظم سياسية أساءت لمبادئها وجارت عليها وجعلت البعض يحن لملكية لن تعود ولملك لن يحكم، في حين أن المطلوب هو أن تحول الجمهورية الصامتة إلي جمهورية فعل وإلي مبادئ عليا فهي التي حققت الاستقلال الوطني وقضت على الاستعمار ووضعت دول الجنوب نظريا في مكان متساوي مع باقي دول العالم، وهي التي دون أن تتكلم رفضت التوريث والحكم الديني، ولكنها في نفس الوقت غاب عنها الديمقراطية وعرفت نظم نكلت بمبادئها وغيبت العدالة ودولة القانون، وجعلت الكثيرين يتمنون عودة كل من واجهتهم الجمهورية في بدايتها ليحكموا مرة أخري، في حين سيبقي الحل في الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية واعتبارها مصدر الشرعية والاحتفال الوطني.