في نهاية شهر يونيو/حزيران، أظهر البيت الأبيض ترحيبه برئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، خلال زيارته للولايات المتحدة في أعلى مستوى من البروتوكول الدبلوماسي، الذي تتفق عليه الولايات المتحدة مع القادة الزائرين، من بين ذلك الترحيب اللافت، أُقيمت مأدبة عشاء رسمية على شرف الضيف الزائر، وعقد لقاء بينه وبين رؤساء كبريات الشركات الأمريكية.

 

كما ألقى مودي خطابًا في جلسة مشتركة لمجلسي الشيوخ، ووجه كلمات إلى الأمريكيين من أصول هندية، ولكن وراء الاحتفالات المخطط لها بعناية، بحسب ما تقول “بي بي سي“، أجريت مناقشات يمكنها ليس فقط أن تضخ طاقة جديدة في العلاقات الهندية الأمريكية، ولكن أيضًا “سيكون لها تأثير على النظام العالمي”.

فمنطقة المحيطين الهندي والهادئ هي المكان الذي من المحتمل أن تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى نفوذ الهند أكثر من أي مكان آخر في الوقت الحالي. ولطالما نظرت الولايات المتحدة إلى الهند على أنها قوة موازنة لنفوذ الصين المتنامي في المنطقة.

 

الهند كقوة متعاظمة النفوذ

“لقد أصبحت الدبلوماسية الهندية أكثر حزمًا في إبراز موقف الهند القائل إن هذه هي لحظة البلد على المسرح العالمي. وهناك سبب وجيه لذلك، إذ أن الهند هي واحدة من عدد قليل من النقاط الاقتصادية المضيئة في العالم في الوقت الحالي، والجغرافيا السياسية في صالحها أيضًا”، تضيف هيئة الإذاعة البريطانية.

وتريد معظم دول العالم بديلاً صناعيًا للصين، والهند لديها أيضًا سوق ضخمة مع طبقة وسطى متنامية. وهذا يجعلها خيارًا جيدًا للدول والشركات العالمية التي تنتهج سياسة “الصين زائد واحد”، أي نقل جزء من عملياتها داخل الصين إلى إحدى الأسواق الناشئة الآسيوية الأخرى.

الآن، تعد الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للهند حيث تبلغ قيمة التجارة بين البلدين 130 مليار دولار. لكن المحللين يقولون إنه لا تزال هناك إمكانات هائلة غير مستغلة، فهناك خلافات كبيرة بين البلدين حول التعريفات الجمركية وضوابط الصادرات.

ووقعت الهند اتفاقية تجارة حرة مع أستراليا ودبي وتناقش التوصل إلى صفقات مماثلة مع دول أخرى بما في ذلك كندا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.

كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والهند معقدة دائمًا حيث شهدت عقودًا من عدم الثقة تلتها عملية إعادة بناء الثقة وصعود التوتر بينهما بين الحين والآخر.

لكن يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن مصمم على جعل العلاقات الهندية الأمريكية تزداد متانةً، على الرغم من أن البعض في بلاده يشكك في سجل الهند في مجال حقوق الإنسان في عهد مودي.

وهنا تحديدًا، يبرز الاهتمام الخليجي بـ”النموذج الهندي”.

 

نموذج الهند الذي يسعى إليه قادة الخليج

يُظهر هذا النموذج أنه يمكن لأي بلد أن ينجح في الجمع بين عدم الانحياز الدبلوماسي والعلاقات الحميمة مع جميع الاقتصادات الكبرى في العالم.

“يمكن القول إن الهند كانت تتبع نسخة من السياسة منذ حصولها على الاستقلال قبل أكثر من 75 عامًا. لكنها قامت بتنقيحها في السنوات الأخيرة”، يشير جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومقره واشنطن، في تحليله لمجلة Defense One.

إذ يرى أن زيارة رئيس الوزراء الهندي لواشنطن علامة أخرى على نجاح “نموذج الهند”. ويضيف “سيراقب حكام الشرق الأوسط عن كثب ليروا كيف تم ذلك بالضبط”.

والسبب أنه “توحد معظم دول الشرق الأوسط شعورًا بأنها بينما تحتاج إلى علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، فإن الأخيرة لا تحترمها: تنتقد الحكومة الأمريكية قبضتها -أي دول الخليج- الثقيلة في السياسة الداخلية وتخمن استراتيجياتها الأمنية. تضغط عليهم في قضايا كبيرة وصغيرة لفتح أنظمتهم المالية أمام رقابة الحكومة الأمريكية، وتعديل كتبهم المدرسية، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل”.

لذا كان شعور قادة دول الخليج كما لو أنهم يعاملون في كثير من الأحيان على أنهم دول تابعة. وبالتالي فإنهم “متعطشون لتحقيق إحساسهم الخاص بالوكالة. وهو ما فعلته الهند بالضبط، حيث أوضحت بهدوء عندما تتماشى مصالحها مع الولايات المتحدة وعندما لا تتماشى معها”.

فقد عززت الهند تعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة، وزادت المشاورات الثنائية واستبدلت أسلحة الحقبة السوفيتية بالتكنولوجيا الأمريكية الحديثة. ومع ذلك، شعرت الهند بالقلق من مفهوم العمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة وقالت إنها لن تفعل ذلك إلا تحت رعاية الأمم المتحدة، وفق ما يلفت إليه ألترمان.

وبهذا، من الناحية العملية، تمكنت الهند في الوقت نفسه من الاقتراب من الولايات المتحدة وحلفائها بينما ظلت غير منحازة بشكل واضح.

وتسعى التجمعات التي تقودها الولايات المتحدة مثل “الرباعية” (والتي تشمل اليابان وأستراليا) و”I2U2″ (التي تشمل الإمارات وإسرائيل) إلى بناء أنماط من التعاون التي تربط الهند ببعض أقرب شركاء أمريكا.

 

الاحتياج الأمريكي كوسيلة لانتزاع بعض الاستقلالية

ومع ذلك، في قضايا مثل إدانة روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، لم تنضم الهند إلى تلك القائمة ورفضت إدانة موسكو. وبالمثل، تبني الهند دفاعاتها ضد الصين، فيما تتجنب بجدية النشاط الذي قد يثير استعداء جارتها اللدود.

ويعتبر ألترمان أن نقطة الانعطاف في العلاقات بين الولايات المتحدة والهند كانت اختبار الهند لخمسة أجهزة نووية في عام 1998. “وبينما كانت النتيجة المباشرة العقوبات الأمريكية، كانت النتيجة طويلة المدى هي جهود إدارة بوش لاحتضان الهند، التي واصلها خلفاء بوش”.

والدليل -بحسب الخبير في شؤون الشرق الأوسط- على النجاح هو الطريقة التي تواصل بها الولايات المتحدة الثناء على الهند باعتبارها أكبر ديمقراطية في العالم على الرغم من المقاربات غير الليبرالية الصارخة تجاه الأقليات الدينية في الهند.

في مقال نُشر مؤخرًا في مجلة “فورين أفيرز“، يجادل آشلي تيليس، زميل أول في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، بأن شراكة الولايات المتحدة مع الهند غير متوازنة إلى حد كبير.

وكتب أن الهند “لا تحمل أي ولاء فطري تجاه الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي وتحتفظ بنفور دائم تجاه المشاركة في الدفاع المشترك. إنها تسعى إلى الحصول على تقنيات متقدمة من الولايات المتحدة لتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية وبالتالي تسهيل صعودها كقوة عظمى قادرة على موازنة الصين بشكل مستقل، لكنها لا تفترض أن المساعدة الأمريكية تفرض أي التزامات أخرى على نفسها”.

ومع ذلك، فقد خلُصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى أنها بحاجة إلى الهند، وسوف تجعل العلاقة على أفضل ما يرام. “هذا هو بالضبط الاستنتاج الذي يود المسؤولون في الرياض وأبو ظبي والقاهرة -وغيرهم- أن تتوصل إليه واشنطن بشأنهم”، يوضح ألترمان.

ويتابع “إنهم يرغبون في أن يرحب الرئيس الأمريكي بحكامهم دون محاضرات أو شروط مسبقة. إنهم يرغبون في قبول الولايات المتحدة تصميمهم على الخروج من منافسة القوة العظمى وهم يشاهدون عالمًا أحادي القطب يستسلم لعالم أكثر تعددًا قُطبيًا. إنهم يرغبون في زيادة تطوير علاقاتهم الاقتصادية الكبيرة مع الصين، والتحوط من التخلي الاستراتيجي للولايات المتحدة من خلال الحفاظ على العلاقات مع روسيا، والمساومة مع الولايات المتحدة من موقع القوة”.

وبالتالي، قد يرى البعض أن الطريق إلى علاقة أفضل مع الولايات المتحدة ليس خطًا مستقيمًا. وبدلاً من ذلك “قد يؤدي الانكماش الحاد في العلاقات أو حتى حدوث أزمة مع واشنطن إلى إعادة تقييم الولايات المتحدة لأهمية هذه الدول بالنسبة للأمن العالمي”.

رغم ذلك، قد يجادل البعض بأن الهند نموذج ضعيف لهذه الدول. فهي لا تطلب أي ضامن خارجي للأمن، كما أن عدد سكانها الكبير واقتصادها وموقعها يجعلها قوة موازنة استراتيجية محتملة للصين. بالإضافة إلى أنه لديها عدد متزايد من المغتربين في الولايات المتحدة الذين يشاركون سياسيًا بشكل متزايد وجذاب في كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

لكن ألترمان يرى أنه بغض النظر عن ذلك “الهند رائدة في تحقيق كيفية عمل عالم متعدد الأقطاب. من خلال احتضانها لإطار بريكس، ودبلوماسيتها الحاذقة بشكل متزايد في جميع أنحاء الشرق الأوسط وبقية العالم، فإنها توفر شرعية جديدة لفكرة عدم الانحياز، وتوضح بالضبط كيف يمكن تنفيذ مثل هذه السياسة”.

وبريكس هي منظمة تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وتحاول أن تُمثل إطارًا موازيًا للمنظمات المالية الغربية. وقد سعت كلا من مصر والسعودية والإمارات إلى الانضمام لها.

 

هندسة غرب آسيا الأمنية برعاية أمريكية

في أعقاب زيارة مودي إلى واشنطن، اتجه مباشرة إلى القاهرة كأول زيارة له منذ توليه منصبه عام 2014. وقد تنامت علاقات البلدين بشكل وثيق خلال السنوات الماضية، وارتفع معها التبادل التجاري.

ويأتي تنامي العلاقات الهندية مع دول الخليج العربي ومصر، ضمن النهج الأمريكي لربط المنطقة الهندية بالشرق الأوسط “بهدف خلق علاقة استراتيجية حول المنطقة الأوروبية الآسيوية، من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى المحيطين الهندي والهادئ”، بحسب الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، محمد سليمان.

ويرى سليمان أن الواقع الحالي دعم إطار عمل للتحالف المستمر وغير المسبوق بين الهند وإسرائيل والدول العربية السنية (الإمارات والسعودية ومصر) لتحقيق التوازن بين القوى الأوروبية والآسيوية الصاعدة في المنطقة، والتحضير لتحوّل أمريكي نحو المحيطين الهندي والهادئ.

ففي مايو/أيار الماضي، سافر مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، إلى السعودية للقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد آل نهيان، ومستشار الأمن القومي الهندي، أجيت دوفال. والهدف: زيادة ربط منطقة الشرق الأوسط بالهند.

يضيف سليمان “كان الصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الهندي الباكستاني عقبتين رئيسيتين. ولكن نظرًا لأن العالم ينجرف نحو نظام متعدد الأقطاب، فإن البراجماتية هي السائدة والعلاقات القديمة التي ليس لها هدف استراتيجي آخذة في النفاد؛ مما مهد الطريق لاتفاقات أبراهام في عام 2020 والمزيد من العلاقات القائمة على الاهتمامات المشتركة بين الهند والسعودية والإمارات ومصر”.

في عام 2022، ارتفعت التجارة الثنائية بين الهند والسعودية إلى 42.86 مليار دولار أمريكي، مما جعل الرياض رابع أكبر شريك تجاري لدلهي، ودلهي كثاني أكبر شريك تجاري للرياض. وفي نفس العام، دخلت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات العربية والهند حيز التنفيذ.

كما اهتم كلا من صندوق الاستثمارات العامة السعودي وشركة أرامكو، بالهند كجزء من خطة استراتيجية أوسع لتحويل أرامكو من شركة نفطية إلى تكتل صناعي عالمي، وجعل صندوق الاستثمارات العامة أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم.

ويعتبر سليمان أن العلاقة القوية الحالية بين المملكة والهند تشير إلى خروج الرياض عن استراتيجيتها طويلة الأمد المتمثلة في الميل نحو باكستان في جنوب آسيا. و”يمكن أن يُعزى هذا التحول إلى المقاربات البراجماتية التي اعتمدها أكبر اقتصادين في المنطقة، وأهميتهما الاستراتيجية والاقتصادية العالمية المتزايدة”.

وعلى هذا، يبني الاجتماع الرباعي بين الهند والسعودية والولايات المتحدة والإمارات على تنسيق I2U2 (الذي يضم الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات). ويمثل خطوة قوية نحو هندسة غرب آسيا التي تعيد وضع الولايات المتحدة كموازن خارجي بدلاً من الضامن الأمني ​​الوحيد للمنطقة.

“يقرّب هذا الإطار الاستراتيجي أيضًا بين دلهي وواشنطن ويخلق المزيد من التآزر الاستراتيجي. على هذا النحو، أنا أعارض بشدة فكرة أن العلاقات بين الولايات المتحدة والهند تتعلق حصريًا بمواجهة الصين”، يُعلّق سليمان.

وإحدى الآليات الرئيسية لهذا التكامل المتصور لغرب آسيا هي شبكة من السكك الحديدية بين دول الخليج والدول العربية، مع ربط الهند عبر الطرق البحرية من الموانئ القريبة.

وبينما يلعب الشرق الأوسط دورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي، ليس فقط كمصدر للطاقة، ولكن أيضًا كمركز حيوي للتجارة البحرية بين أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلا إن البنية التحتية التي تربط الدول العربية غير كافية حاليًا.

ويمكن لشبكة النقل المقترحة، بالتعاون مع الهند ودول الخليج، تحسين الترابط  بين الاقتصادات الإقليمية. ومع مرور الطرق البرية للهند عبر باكستان وأفغانستان، يعتبر الاتصال البحري مع الشرق الأوسط أولوية استراتيجية لنيودلهي.

ولهذا، فإن ربط الهند بالخليج ومصر، على الرغم من مشاكل القاهرة الاقتصادية، هو “آخر قطعة من اللغز بالنسبة لبناء هندسة غرب آسيا”، بتعبير الباحث في معهد الشرق الأوسط.

وهنا، تعكس المبادرة السعودية – الهندية – الأمريكية – الإماراتية حقيقة أن الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط ​​إلى المحيط الهندي تعمل على حماية مصالحها الاقتصادية والأمنية من خلال إنشاء شبكة تجارية ودفاعية. فيما قررت الولايات المتحدة المساعدة والتأثير في هذا المسعى استعدادًا لنظام عالمي جديد.