لا يخفى على أي من المهتمين بالشأن العام أهمية وجود القانون في المجتمع، وبالتالي أهمية أن يكون العلم القانوني ذا جدوى فاعلة داخل المجتمعات بأسرها، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بلغة قانونية متقنة في غالبية الدساتير بمعنى “سيادة القانون”، وعلو دولة القانون، وسمو شأنها والذي يميز مدى تقدم المجتمعات عن بعضها البعض، وهو ما يمكننا اختصاره بمقولة مدى احترام الحكام والمحكومين للقوانين، واعتبارها هي السياج العام لكافة العلاقات المجتمعية.

ومن هنا، تبدو أهمية وجود علم قانوني متقدم ومساير لما توصلت إليه غالبية المجتمعات تقدما، إذ أن تطوير العلم القانوني يجعل من العاملين به والقائمين عليه ذوا شأن وصفة صالحة لسيادة المجتمعات، وألا يكون البديل المتمثل في تخلف العلم، وهو ما يعني ضآلة المعرفة لدى العاملين بالحقول القانونية “محامون – قضاة” وهو الأمر الذي يكون له بالغ الخطورة والأثر على فكرة سيادة القانون ذاتها، وعلى مدى قدرة القانون على التحقق داخل المجتمع.

وإذا كان الأداء المهني والأكاديمي المتمكن في العمل القانوني هو الركيزة الأساسية؛ لتحقيق النتائج المطلوبة من استرجاع الحقوق، والدفاع عن دولة القانون، وإقرار الأحكام المنشودة والمستهدفة، فإن مخرجات التعليم القانوني الجامعي إذا لم تكن على ذات المستوى؛ فإنها قد لا تساعد على أداء متميز في العمل القانوني، وإذا كان يصل عدد الخريجين من كليات الحقوق إلى الآلاف، إلا أن مخرجات التعليم القانوني ليست على المستوى المطلوب، فقد لاحظت أن كمية المعرفة القانونية متدنية، فضلا عن قلة أو سطحية الثقافة العامة ذات الصلة بالعلوم المساعدة للقانون، إضافة إلى أن المقررات الدراسية في كليات القانون، وأساليب تعليمها، لا تزال في معظمها تقليدية؛ حيث لا تزال كلياتنا القانونية تدرس علم القانون بالمناهج، والأساليب ذاتها التي لم تتغير منذ ما يقارب المائة عام.

وحيث إنه الأصل في القانون، كونه علما متطورا ومرنا لا يقف عن حد، فإنه يجب أن تكون دراسته أو سبل تعليمه تتفق وأصول ذلك العلم ولا تقف عن حد ما هي عليه الآن، فإن ذلك لا يكون محفزا جيدا لتطوير العمل بالقانون.

وإذا ما نظرنا إلى طرق تدريس القانون في كليات الحقوق منذ نشأتها، نجد أنها لم تلمس تغيرا ملحوظا سواء في المناهج أو في طريقة التدريس ذاتها، فلم تزل عند الحد الذي كانت عليه منذ خمسين عاما مضت، اللهم تغيرات أغلبها شكلية، أو بسيطة لا يمكن أن تنتج عاملا بالمجال القانوني، بما يتوافق مع المستوى المطلوب.

واذكر في أحد المؤتمرات الحقوقية، أن صادفت بمقابلة أحد الأساتذة بجامعة هارفارد الأمريكية – وهي من أهم جامعات العالم – وكان فلسطيني الأصل، وكان المؤتمر معنى الدساتير وسيادة القانون، وفي أحد الحوارات الجانبية ذكر لي أن أصعب امتحانا مر به كان امتحان إجازة العمل بالمحاماة بأمريكا، حيث يسبق ذلك دراسة لمدة عامين بعد الدراسة الجامعية، يعقبها امتحانات شفهية وتحريرية، تدور في كيفية التحليل القانوني، ومدى القدرة على التعامل مع العملاء، والنقد القانوني البناء، ومدى القدرة على مناقشة الأدلة والخصوم والمحكمة، ذلك كله مع مراعاة القدرة على الإلمام بالمعارف الأخرى، وأهمها علم النفس والمنطق.

لكن لدينا في مصر يقف الأمر عند حد التخرج من كليات الحقوق، ونحن نعلم مدى ما حل بها بعد أن باتت ملاذا للطلاب المتأخرين في الدرجات من الثانوية العامة، وأن ما يدور بها من سبل تعليمية لا يرقى إلى مصاف الكليات في غالبية الدول، ولو عدنا إلى أساس كليات القانون والحقوق، فنجد أنها في غالبية دول العالم لا يكون فيها التدريس بشكل عام طوال السنوات، بل يجب أن يكون هناك تخصصات داخلية، بما يسمح بأن يكون الخريج من داخل تلك الأقسام أعلى جودة في المواد العلمية والتحصيل المعرفي، فعندك على سبيل المثال تجد في دولة الجزائر هناك كلية القانون والإدارة، والقانون والسياسة، بما يعني أن هناك تخصصات دقيقة داخلية، بما يسمح بتأسيس حقيقي لمن يرغب في العمل بالحقل القانوني، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل أنه هناك  دراسة تكميلية وتأهيلية لمن يرغب في العمل بمجال المحاماة، أو في الدخول إلى الوظيفة القضائية.

الأمر ليس بالهين أيها السادة، فالقانون هو أساس المجتمعات، وهو القاطرة التي يجب أن يقف خلفها كافة التصرفات سواء كانت فردية أو رسمية، وبالتالي يجب العناية بمن يعمل بهذا المجال العناية التي تليق بأن يكون هناك في الأفق البعيد تأسيس فعلي لدولة القانون، فما المانع مثلا في أن تتم إعادة النظر في سبل الدراسة القانوني في كليات الحقوق، وما المانع بأن يتم تطوير تلك الكليات، وتقسيمها على أقسام تتناسب واحتياجات سوق العمل، ولكن لا أقول ما المانع، بل أقول يجب أن تكون هناك دراسات تكميلية قبل اللحاق بالعمل بالمحاماة، أو بالعمل بالوظيفة القضائية على اختلاف مسمياتها، ويجب أيضا عدم إلحاق أي طالب، أي من تلك الوظائف إلا بعد إجازة لدراسة أكثر تخصص تعادل الدراسات العليا، ولكنها تكون مخصصة للعمل القضائي “مدني – جنائي – إداري” أو بالعمل بمهنة المحاماة بما يقتضيه ذلك من دراسات متعلقة بجودة اللغة أو بالمنطق التحليلي أو بالاقتصاد أو بعلم النفس أو بالتحليل القانوني ذاته، ولا يغيب عن الذهن التطور التكنولوجي والمعارف التكنولويجية، لما لها من أثر بالغ على التعليم والعمل القانوني، وهذا ما سوف يكون له الأثر البالغ على تقدم المسار القانوني بشكل عام.

وفي النهاية لا يجب السكوت على الحالة التي عليها التعليم بشكل عام، ولا يجب السكوت على ما وصلت لها  كليات الحقوق من تدهور مستوى الخريجين إلى الحد الذي لا يجيدون فيه مجرد الكتابة بلغة عربية سليمة، ولا يجيدون معايير النطق المنضبط للألفاظ، وهو الأمر الذي يدفع إلى سوق العمل بخريجين أقل من المستوى المطلوب إلا من رحم ربي، والأمر موكولا إلى كل أولي الأمر في الدولة المصرية، التي لا يجب أن تكون على هذه الشاكلة رحمة بتاريخها