فشلت إسرائيل أن تخضع مخيم جنين الصغير في مساحته المكتظ بسكانه لإرادة قوتها الباطشة.
هذه حقيقة يصعب إنكارها.
لم يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” أمامه، وهو يتابع حركة انسحاب قواته، غير أن يتوعد بجولة أخرى، أو أن قواته سوف تعود لتضرب من جديد.
كان ذلك اعترافا ضمنيا بفشل العملية العسكرية، التي خطط لها الجيش الإسرائيلي منذ عام كامل، روجعت تفاصيلها مرة بعد أخرى وفق ما يستجد من معلومات استخباراتية، وشارك في تنفيذها ألف ضابط وجندي من النخبة العسكرية عالية التدريب مع طائرات تراقب وتقصف، وجرافات تهدم البيوت على رأس ساكنيها.
لماذا فشلت العملية العسكرية الإسرائيلية رغم فوارق التدريب، والتسليح وأعداد المقاتلين أنفسهم في إنجاز أهدافها المعلنة وغير المعلنة؟
لا صداع جنين في رأس إسرائيل توقف.. ولا المقاومة في المخيم صفيت.
ما حدث بالضبط، أن إسرائيل حاولت ببطش مفرط الانتقام من المخيم نفسه، وهو عقدة مستحكمة.
خططت لسلسلة من العمليات الجراحية في بنية أزقة وبيوت المخيم؛ حتى يمكن لقواتها أن تدخله وتخرج منه بسلام كلما أرادت ذلك.
بترويع السلاح هجرت قسريا أربعة آلاف فلسطيني في مشاهد أعادت إلى الذاكرة نكبة (1948).
حاصرت آلاف آخرين بلا ماء ولا كهرباء.
منعت سيارات الإسعاف، من أداء واجبها في نقل المصابين إلى المستشفيات الحكومية، وقصفت المستشفيات نفسها.
كان ذلك عدوانا وحشيا على القانون الدولي الإنساني، وجد في الغرب من يسانده باعتباره دفاعا عن أمن إسرائيل!
بهذه الذريعة المتهافتة، سوغت الولايات المتحدة وبريطانيا ارتكاب جرائم حرب ضد مدنيين مسالمين!
الأغرب أن بلدا ديمقراطيا عريقا مثل، فرنسا طلب بنفس التوقيت الاستعانة بالخبرة الإسرائيلية في قمع الاحتجاجات، حسبما نشرت الصحافة الإسرائيلية نقلا عن مصادر أمنية.
كان ذلك مشهدا سرياليا في معالجة الأزمات.
غاب عن المسؤولين الأمنيين الفرنسيين، إذا صحت المعلومات الإسرائيلية، أن الوضع في بلدهم يختلف، طبيعة الاحتجاجات ودواعيها.. تبعاتها ومعالجتها، عما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ما يحدث هنا صدام محتم من أجل التحرر الوطني، لا أزمة اجتماعية تفاقمت أسبابها وتحتاج إلى مقاربات جديدة.
كأي قضية تحرر وطني، فإنها مسألة وجودية، أن نكون أو لا نكون.
طالما هناك احتلال، فإن المقاومة حق طبيعي ومشروع وفق القوانين الدولية.
إذا ما اقتلعت إسرائيل مخيم جنين كله، فإن المقاومة لن تقتلع وسوف تنتقل جذوتها إلى أماكن أخرى.
في اليوم الثاني من العملية العسكرية، جرت عملية انتقام دهسا وطعنا بتل أبيب.
من موقع الحدث، دعا وزير الأمن القومي “إيتمار بن غفير” الإسرائيليين إلى حمل السلاح.
الدعوة نفسها، تبناها ونفذها بنفسه في أوساط المستوطنين.
إذا ما ساد هذا المنطق، فإنها نهاية الدولة، ونهاية أية ادعاءات تلحقها بالحداثة والقانون.
الجدير بالالتفات، أن هناك في إسرائيل يسارا ويمينا، ويمينا متطرفا، إجماع على عملية جنين، رأي واحد يذهب إلى ضرورة اجتثاث أية حقوق فلسطينية، وأية مقاومة فلسطينية رهانا على بطش السلاح وحده.
إذا ما استمر الاحتلال في التقتيل والتنكيل وبناء المستوطنات، وإلغاء أية حقوق للفلسطينيين وإلغاء وجودهم الإنساني نفسه، فإن المقاومة الخيار الوحيد.
كانت هذه رسالة مصير من قلب الأحداث الدامية في الأراضي المحتلة.
نحن أمام حالة إقصاء كاملة لأية فرصة ما لتسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
بتصريح لا لبس فيه نفى “نتانياهو” أية احتمال لما يسمى بـ”حل الدولتين” متعهدا أن تفعل حكومته كل ما تقدر عليه من أجل ألا تقوم قائمة لـ”دولة فلسطينية”، حتى لو كانت ناقصة السيادة وممزقة جغرافيا!
هذه ليست عبارة متفلتة، تناقض الالتزام الدولي، بقدر ما هي تعبير عن تخطيط استراتيجي يعمل على تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وبناء مستوطنات جديدة فوق أراضي الضفة الغربية.
إذا ما استبعد “حل الدولتين” بأثر الإجراءات الإسرائيلية على الأرض، وإذا ما كان مستحيلا تقبل حل الدولة الواحدة، دولة كل مواطنيها، فإننا أمام خزان بارود سوف ينفجر في الإقليم كله.
نحن أمام “سلام بلا أرض” على ما حذر المفكر الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد” إثر توقيع اتفاقية أوسلو.
لا سلام ولو بالخداع.. سقطت كل الادعاءات والأكاذيب.
سقطت “اتفاقية أوسلو” تماما ونهائيا، تبقت منها سلطة فلسطينية أقصى ما تستطيعه إصدار بيانات التضامن مع الشعب الفلسطيني، كلما تعرض لاعتداء!
أثناء اجتياح جنين صرحت، أنها أوقفت كافة أشكال الاتصال الأمني مع إسرائيل، غير أن الاحتلال نفى أن ذلك قد حدث فعلا!
السلطة باتت عبئا على القضية الفلسطينية.
المدخل الوحيد الصحيح لمواجهة الموقف أن تتحلل من “أوسلو”، وتحل نفسها حتى تعود القضية إلى أصلها: شعب تحت الاحتلال يطلب التحرر الوطني والمقاومة المسلحة من حقوقه المشروعة.
بنظرة أخرى على الإقليم، تفاعلاته ومستقبله، فإن إسرائيل دولة مزعزعة للاستقرار.
هذا هو التوصيف الصحيح لطبيعتها وأدوارها.
الاتجاه العام في الإقليم يميل إلى التهدئة، فيما تسعى وحدها للتصعيد.
التهدئة الإقليمية ضدها، والتصعيد لصالحها.
بعودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا طويت صفحة من التوتر بين البلدين، وانفسحت فرص جدية؛ لتسوية الأزمات المتراكمة بالوسائل السلمية.
وإذا ما مضت إيران خطوات أوسع؛ لتطبيع العلاقات مع العالم العربي بعد المصالحة مع السعودية، فإنه يمكن الرهان على بناء إقليم جديد أكثر استعدادا؛ للتعاون وخفض مستويات التوتر بين دوله.
عودة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وطهران مسألة وقت.
هناك من يعتقد أن الضوء الأخضر الأمريكي الممنوح لإسرائيل في التمدد الاستيطاني، واستخدام القوة الباطشة ضد جنين من ضمن صفقة، تستبعد توجيه ضربة عسكرية ضد القدرات النووية الإيرانية مقابل إطلاق يد إسرائيل في الاستيطان.
بقوة الحقائق، فإن العمل العسكري ضد إيران كلفته باهظة على الاستراتيجية الأمريكية المستغرقة في المستنقع الأوكراني، والمسكونة بالهواجس الصينية في المحيطين الهادي والهندي، كما أن إسرائيل لا تتحمل فتح جبهات قتال مفتوحة مع إيران وأنصارها.
الضعف العربي يغري بمزيد من التنكيل بالفلسطينيين، والطموح في نفس الوقت للمضي قدما في عقد اتفاقات تطبيع مجانية جديدة.
إذا ما مضت سيناريوهات العصف بما تبقى من حقوق فلسطينية، وإذلال العالم العربي، فإن احتمالات الانفجار في الإقليم واردة، ونشوب حروب عربية إسرائيلية جديدة غير مستبعدة.
أمام الحقائق العارية، تتأكد رسائل المصير، إذا لم يحمل العالم العربي قضيته؛ فإن أحدا لن يدافع عنها بالنيابة.
إذا ما ترك الفلسطينيون وحدهم في العراء السياسي؛ فإن كل عربي سوف يدفع الثمن فادحا من أمنه ومستقبله.
في جنين، اكتسبت المقاومة روحا جديدة، أثبتت أن بوسعها أن تتحدى وتصمد أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
الصمود في حد ذاته انتصار.
لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من اختراق قلب المخيم الفلسطيني الفقير، تقدم ببطء شديد في أزقته الضيقة؛ خشية كمائن المقاومة.
هذه رسالة ثقة لا يصح أن تضيع في ركام الحوادث.
في الساعات الأخيرة للاجتياح، تبدت مفاجأة حين بدت فصائل المقاومة مستعدة ومتأهبة، ولديها خطط مسبقة متفق عليها؛ لمواجهة مثل هذه الاجتياحات، للاشتباك وإلحاق الخسائر بالعدو.
نحن نتحدث عن ثلاثمائة مقاتل على أقصى تقدير بأسلحة لا تقارن بما لدى الإسرائيليين.
كانت تلك رسالة مصير إضافية، أن الفلسطينيين لن يكونوا صيدا سهلا لآلة القمع الإسرائيلية، حتى لو قاتلوا بالأظافر.
إنها رسالة عكسية، لما تعهد به “نتانياهو” من أن “السجن أو القبر مصير من يتحدى إسرائيل”.
مجددا، نجحت جنين في تأكيد حق المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة، بقدر ما أبدته من إرادة قتال واستعداد للموت بلا وجل.
لا رهبة من سجن ولا خشية من قبر.