أعطت فرنسا جنسيتها لجانب من المهاجرين الأجانب الذين عاشوا على أرضها فترات طويلة، وأعطتها أيضا لأعداد أكبر من أبناء هؤلاء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث، وأصبحوا جميعا على الورق مواطنين فرنسيين.

والحقيقة، أن أحد الدلالات الهامة للاحتجاجات الواسعة التي شهدتها فرنسا الأسبوع الماضي؛ تكمن في أن جانبا كبيرا من شباب الضواحي، ممن ولدوا في فرنسا ويحملون جنسيتها لم تعاملهم الدولة كفرنسيين “حقيقيين”، وأن التمييز بين الفرنسيين من أصول مهاجرة وعربية، وبين الفرنسيين البيض بات ملمح أساسي من ملامح منظومة الحكم والخطاب السائد.

وقد شهدت فرنسا الأسبوع الماضي احتجاجات واسعة، وعمليات عنف شملت كثيرا من المدن، والأحياء عقب جريمة القتل العمد التي اقترفها أحد رجال الشرطة بحق أحد شباب الضواحي، وهو الفرنسي من أصل جزائري نائل الذي يبلغ من العمر 17عاما.

وقد وصفت صحيفة “اللوموند” الفرنسية (الأكثر رصانة في معالجة اضطرابات الضواحي الأخيرة) حصيلة هذه الاحتجاجات، بأنها “غير مسبوقة” مقارنة بكل الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا منذ ثورة الطلاب في ٦٨، فقد ألقي القبض على حوالي ٤ آلاف شخص، وتم حرق ٥ آلاف سيارة عامة وخاصة، وما يقرب من ألف اعتداء على مبانٍ مختلفة، واستهداف ٢٥٠ قسم شرطة بالحرق أو محاولة الحرق أو التحطيم، وأصيب ٧٠٠ رجل شرطة، وتعرض أحدهم للإصابة بطلق ناري، وحرقت ألف حاوية قمامة.

والمؤكد، أن هذه الاحتجاجات عكست أزمة مركبة، جانب منها له طابع اقتصادي، وجانب آخر أكبر يتعلق بالتهميش الاجتماعي والثقافي، وأصبح واضحا أن هناك فارق كبير في تعامل مؤسسات الدولة، وخاصة الشرطة مع الفرنسيين من أصول مهاجرة وعربية، وبين تعاملها مع باقي الفرنسيين من أصحاب البشرة البيضاء، وهو ما لا يعترف به كثيرون.

والحقيقة، أن النقاش الذي دار في فرنسا طوال الأسبوع الماضي سياسيا وإعلاميا، أوضح أن هناك تيار واسع من النخب السياسية، وخاصة تيارات اليمين المتطرف التي تمثل ثاني أكبر حزب في البرلمان، اختزلت ما جرى في حوادث العنف، وتجاهلت تماما السبب الرئيسي وراء هذه الحوادث؛ وهو جريمة القتل العمد العنصرية التي راح ضحيتها شاب صغير.

فرواية الفرنسيين من أصول مهاجرة تقول إن المؤسسات الفرنسية في مجملها عنصرية، والشرطة تستهدف المهاجرين، سواء حملوا الجنسية الفرنسية أو كانوا مقيمين شرعيين، وتميز بينهم وبين الفرنسيين البيض، وأن المؤسسة الحاكمة دفعتهم للعيش في الضواحي مهمشين يعانون من التمييز في الوظائف والبطالة؛ بسبب لون بشرتهم أو أسمائهم حتى لو حملوا الجنسية الفرنسية، فهم مواطنون درجة ثانية ولا يعتبرهم كثير من الفرنسيين مواطنين مثلهم.

أما رواية الفرنسيين ذوو البشرة البيضاء فكثير منهم يعتبر ولو ضمنا، إن هؤلاء “الفرنسيين المهاجرين” غير قابلين للاندماج؛ بسبب خلفيتهم الثقافية والدينية، وأن الجريمة والعنف متأصلان فيهم، ولا يقبلون مناقشة أي جوانب سلبية تتعلق بتطرف العلمانية الفرنسية، مقارنة بباقي النماذج العلمانية الأوربية.

إن فرنسا تكاد البلد الوحيد في العالم التي تعتبر العلمانية مهددة، إذا قرر طلاب في مدرسة الصلاة داخل مدرستهم أو أعلنت سلسلة مطاعم إنها تقدم لحما حلالا، أو ارتدت شابات الحجاب، حتى وصل الأمر أن أصبحت فرنسا هي البلد الوحيد في أوروبا، والعالم التي رفضت توقف مباريات الكرة دقيقة؛ لإفطار بعض اللاعبين المسلمين.

تجريه فرنسا السياسية ونموذجها العلماني الذي لا يقبل التنوع، ولا يحترم الخصوصيات الثقافية، استبعد قطاعا واسعا من الفرنسيين المهاجرين، وخلق لديهم حالة نفور بحق النموذج السائد ورموزه ومؤسساته، وجعل فرص صعود الفرنسيين من أصول مهاجرة في السلم الاجتماعي والوظيفي محدودة.

ويكفي النظر إلى وجوه قيادات الشرطة، والإدارة في فرنسا عقب جريمة قتل الصبي نائل؛ لنجد أننا نحتاج لعدسة مكبرة، لكي تشاهد فرنسيا واحدا من أصول عربية بين قيادات الصف الأول في الشرطة، أو أي وزارة أخرى، فعلى عكس ما شهده العالم عقب مقتل أمريكي من أصول إفريقية على يد الشرطة، وكيف أن كثيرا من قيادات الصف الأول وجدناهم في الشرطة، والحكم من بين الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية.

وقد شهدت فرنسا تضامن مع عمدة أحد المدن، تعرض منزله وأسرته لاعتداء، وتمثل في ذهاب رئيسة الوزراء ومعها وزير الداخلية وعمدة باريس، ومسئولون كبار لم يوجد بينهم شخص واحد من أصول مهاجرة، أو له بشرة غير بيضاء.

الفرنسيون من أصحاب البشرة البيضاء تضامنوا مع العمدة الذي تعرض منزله للاعتداء، وذهبوا له في حين لم يذهب مسؤول واحد لأهل نائل، ولم يزوروا أمه، ويكفي أن في أمريكا استقبل الرئيس بايدن في البيت الأبيض أسرة الشباب الأمريكي من أصول إفريقية الذي قتلته الشرطة، وهو فارق هائل مقارنة بما جرى في فرنسا.

الجرائم تحدث في كل دول العالم، ودولة القانون مهمتها تحقيق العدالة ومحاسبة المخطئ، مهما كان موقعه، وفرنسا بالقطع دولة قانون، ولكن مشكلتها أنها أسست لنموذج يميز في الواقع والممارسة بين الفرنسيين؛ حتى لو أعطوهم جميعا على الورق نفس الحقوق، فهو يعطي السلطة للفرنسيين ذوا البشرة البيضاء الذين صاغوا خطابا سائدا قائما على التمييز، فدافع بالحق والباطل عن الشرطة، وبرر أي جريمة يقوم بها أفرادها، خاصة لو كان الضحية فرنسي من أصول مهاجرة، في نفس القوت تعمق خطاب الرفض والانغلاق والتطرف، والتصالح مع العنف لدى كثير من شباب الضواحي الذين يحملون الجنسية الفرنسية.

ويبقي الحل، ليس فقط في تطبيق القانون على الجميع ومحاسبة الشرطي المتهم بجريمة القتل العمد، ومعه كل من مارس العنف والتخريب، إنما أيضا مراجعة جوانب الخلل في النموذج الفرنسي وخاصة تعامله مع الفرنسيين من أصول مهاجرة وعربية.