في طريقك إلى العمل الحقوقي في مصر، لا بد أن تختار القبيلة التي ستنتمي إليها؛ لأن ذلك سيحدد مصيرك كاختيار القسم الأدبي والعلمي في الثانوية العامة، الاختيارات المتاحة حاليا، إما أن تكون حقوقي دولجي، وهذا الاختيار يسهل لك الوصول إلى مقعد بالتعيين في أحد المجالس القومية، أو المجالس النيابية، لكنك ستظل في سباق طوال الوقت لإرضاء السلطة، هذا السباق الذي لن تستطيع المواصلة فيه، فدائما هناك أجيال جديدة تمتلك الشغف للوصول، هؤلاء المشتاقون قادرون على تقديم كل التنازلات بطيب خاطر، فليس لديهم ما يخسرونه، لن تستطيع مجاراتهم، حينها ستكون واحدا من خيل الحكومة المحالة للتقاعد.

الاختيار الثاني: أن تكون حقوقي ثورجي وهذا الاختيار سيساعدك بسهولة؛ للحصول على جائزة دولية في يوم ما، وسيفتح لك الباب؛ لعلاقات جيدة للحصول على تمويل لعملك الحقوقي الذى لن يتخطى مقر مؤسستك، وموقعك الإلكتروني المحجوب، كما أنه سيكون اختيارا، يؤهلك إلى دخول السجن في حالة أنك لاتمتلك علاقات كافية لتحميك.

في الاختيارين، سيكون مطلوب منك مواصلة السعي؛ لإثبات دولجيتك بتأييد النظام أو ثوريتك بمعاداته، وسيستنزف ذلك كل وقتك وطاقتك ومجهودك، وسيلتهم ذلك من موضوعيتك وحيادك ومصداقيتك.

الخبر السيئ هو، أن الخيارات الأخرى غير متاحة حاليا، وربما تكون مستحيلة في ظل تمسك الجميع بمقولة نزار قباني.

“اختاري الحب أو اللاعب فجبن ألا تختاري” فإما أن تحب السلطة أو تعاديها.

تضييق الخناق على العمل العام، وبخاصة العمل الحقوقي في مصر لم يكن سببه الوحيد تدخلات السلطة، لكن حرص البعض على تصنيف الفاعلين في العمل العام والحقوقي إلى معسكرين،  يعمل كل منهم في وادٍ، ويحصن جزيرته بكل أسلحة وصم الآخر، لإجبار الجميع على الانضمام له أو لخصمه، يضيق الخناق على الراغبين في العمل العام، فالخيارات المتاحة هي إما أن تنضم لمعسكر الدولجية أو الثورجية.

لاعتبارات تاريخية لها علاقة ببداية العمل الحقوقي في مصر، حيث كان العمل الحقوقي، هو المتنفس الوحيد للنشطاء السياسيين، تداخلت الحدود بين ماهو سياسي، وماهو حقوقي، هذا الخلط الذى استمر بدرجات متفاوتة متأثرا بعوامل كثيرة أهمها، فتح المجال للعمل الميداني، والتواصل مع الناس على أرض الواقع؛ من خلال الأنشطة التي يتفاعل فيها الحقوقيون مع أصحاب الحقوق، وهنا كانت تذوب المساحات بين المعسكرين من خلال العمل المشترك، وتظهر حاجة كل الأطراف للعمل سويا من أجل المصلحة العامة.

بالرغم أن العمل الحقوقي في جوهره، هو المطالبة بالحقوق والدفاع عنها في مواجهة كافة الأطراف، ومنهم السلطة، إلا أن العمل الحقوقي لا بد أن ينأى بنفسه عن الانبطاح، والانسحاق أمام السلطة أو الصراع معها.

البعض يعتبر راديكاليته في مواجهة السلطة؛ سببا للتعالي على كل من لا يتبنى مواقفه بمنطق “من ليس معنا فهو ضدنا” ،ويتمادى في ذلك؛ ليخلق جيتو مغلق له لا يضم إلا من يعلن العداء للسلطة في أكثر اللحظات التي تكشر السلطة عن أنيابها، وتعلن عداءها لمن لا يسبح بحمدها، في سلوك أشبه مايكون بسياسة الأرض المحروقة، الانتصار أو هدم المعبد كمافعل شمشون الجبار.

وفي المقابل، تستقطب السلطة “الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ”  ناقصي الموهبة والمهارات؛  ليتصارعوا على رضاها من خلال تقديم فروض الولاء والطاعة،

في خضم ذلك، تثور الكثير من القضايا الحقوقية التي يريد الكثيرون الاشتباك معها، والتفاعل معها، سواء بطرح الرأي أو بتقديم مبادرات أو بالتفاعل الإيجابي، لكن الانقسام الحاد بين الثورجية والدولجية يجبر قطاع كبير من الحقوقيين على الإحجام؛ خوفا من مزايدة الطرفين وإصرارهم على ضم الآخرين إلى معسكرهم أو وصمه.

من حق الناس اختيار مواقفهم لا جدال في ذلك، لكن تجذير  الخلاف بين العاملين في مجال واحد له علاقة بالدفاع عن حقوق وحريات، ومصالح مشتركة للجميع من أجل المزايدة وتحقيق مصالح ضيقة؛ خطر على الجميع، فالقضايا واحدة ويمكن للعاملين في الحقل الحقوقي العمل معا، وتقريب وجهات النظر؛ لتحقيق مكاسب مشتركة.

فتضافر جهود الجميع في قضايانا الحقوقية؛ يجعل الوصول إلى مكتسبات أسرع، وهناك الكثير من تلك القضايا لا تختلف حولها المطالب أو الاستراتيجيات أو حتى الأدوات.

التباين والتنوع مطلوب، لكن الصراع والوصم وتبادل الاتهامات والتحريض؛ يجرنا إلى معارك صفرية حتى في القضايا محل الاتفاق بين الجميع.

كان مؤتمر المناخ في شرم الشيخ صورة واضحة لصراع القبيلتين على اللاشيء، وخروج الجميع بخفي حنين، فيما عدا المكتسبات الشخصية للبعض، فالبعض يفضل المعارك الصفرية، في حين أن قليلا من التفاهم والتواصل كان كفيلا بتقريب المسافات؛ لتحقيق مكاسب للقضايا الحقوقية.

من أمثلة المعارك الصفرية أيضا، ما حدث في أغسطس ٢٠١٩؛ حيث كان من المفروض انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة؛ لمناهضة التعذيب في مصر، لكن بفضل تنظيم حملة مناهضة؛ لإقامة المؤتمر تم الغاؤه، في واحدة من  المعارك الصفرية في حرب   النظام السياسي الحالي مع  بعض المنظمات الحقوقية، تلك الحرب التي بدأت بعد تأميم العمل الحقوقي ومطاردة الحقوقيين المصريين، وإغلاق بعض المنظمات واتهام النشطاء ومنع بعضهم من السفر، ووضع البعض على قوائم الترقب للوصول    ،ومصادرة أموال البعض.

الأمر الذي جعل بعض المنظمات ترد بحالة لدد في الخصومة،  تجلت في  اعتبار الضغط؛ لإلغاء أي فاعلية أممية تقام في مصر؛ انتصار على النظام، حتى لو كانت هذه الفاعلية من شأنها تحريك الماء الراكد؛ لتحسين حالة حقوق الإنسان في مصر، ووضع قضية كقضية، مناهضة التعذيب كأولوية تستحق المناقشة، وطرحها؛ للخروج بأي توصيات أو التزامات يلتزم بها النظام الحالي.

مما يجعلنا أمام وضع كارثي، تتجمد فيه أي إمكانية للمضي قدما في ملفات حقوق الإنسان، ظنا من البعض أن ذلك سيكون أداة ضغط على النظام الذي لاتجدي معه هذه الطريقة؛ لتكون النتيجة هي صفر لكل الأطراف.

في النهاية علينا أن نتجاوز النظرة الطفولية للآخرين كأعداء، فالدولجية مهما كان خطابهم مبتذلا، وتأييدهم مبالغ فيه، وانبطاحهم فج، فتأييدهم في النهاية لنظام سياسي مصري، وليس سلطة احتلال .

والثورجية مهما كان خطابهم راديكالي، يتسم بالرعونة فهم ليسوا جواسيس أو عملاء أو خونة، وهم مواطنون مصريون يعملون لمصلحة وطنهم من وجهة نظرهم .

كنت أظن أن الحوار الوطني سيوفر مساحة للجميع؛ للتواصل من أجل عمل تعاوني حول القضايا المشتركة، لتقريب مساحات الخلاف؛ وليكون بداية لنهاية حرب داحس والغبراء بين الطرفين، لكنه حتى الآن لم يحقق ذلك وظني أنه لن يحققه.