عندما طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، القوى السياسية بإقامة حوار وطني في إفطار الأسرة المصرية في رمضان قبل الماضي، كانت تلك الدعوة مهمة للتواصل بين الحاكم والمحكوم، الأول، يمثله موالاة من أحزاب وقوى سياسية وشخصيات عامة، والثاني، مثلتها الحركة المدنية بأحزبها الأحد عشر، وكذلك حزبي التجمع والوفد. بهذا الشكل المعتبر، قامت بنية مجلس الأمناء الذي تضمن شخصيات عديدة من أطياف حزبية وسياسية ومستقلة، عبرت عن تلك التشكيلة التي ما فتت أن التقت زهاء 24 مرة بعدها انطلق الحوار الوطني، وخلال تلك المرات الـ 24، قامت علاقات تفاهم وود بين تلك الشخصيات، ومدت جسور كانت قد تقطعت لفترة؛ بسبب الإنغلاق الذي شاب المجال العام قبل بدء الحوار بأشهر عديدة.
من هنا، كانت أحد سمات الحوار الإيجابية، والتي من خلالها تماهت فيه الوجوه، حتى أنه في بعض الأحيان تبدلت الأدوار، فأصبح المنتمي إلى الموالاة بالمجلس من أكثر من ينادي بالإفراج عن المحبوسين احتياطيًا، وسجناء الرأي، وأصبح المنتمي للمعارضة داخل مجلس الأمناء من أكثر المتمسكين، بألا يشارك في الحوار الوطني ممارس عنف أو داعٍ له.
واحد من الأسباب المهمة التي كانت دافعًا لممارسة دور معتبر لأعضاء مجلس الأمناء، هو الثقة التي أولها له الناس في قيادة عملية الحوار الذي يفترض أن تقوم به مؤسسات أخرى، لكنه أوكل له وحده، فكان محلا وعلى قدر الثقة بالقيام بهذا العمل، بسبب النتيجة التي انتهى إليها بجمع أطياف الشعب المصري السياسية. على النحو الذي جرى في حفل افتتاح الحوار يوم 3، مايو الماضي.
بعبارة أخرى، فإن النظم المتمدينة والراسخة في الممارسة الديمقراطية كالولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا واليابان وغيرها، لا يوجد بها عادة أي حوار وطني بين الحكم والمعارضة، فهذا التلاقي قائم بالأساس كأمر معنوي وطبيعي ودائم وغير منظم، وتقوم به مؤسسات الدولة الراسخة وعلى رأسها المؤسسة التشريعية. ومن ثم فإن قيام جهة جديدة بذلك في مصر، هو ما جعل العملية مختلفة، وأكسب مجلس الأمناء ثقل، لدرجة أنه كان في مرات عديدة، يؤكد على لسان منسقه العام أنه ليس بديلا عن مؤسسات الدولة الرسمية، وذلك خشية على ما يبدو أن تتوقف العملية برمتها، ويضع أي كيان رسمي العصا في عجل الدراجة التي بدأت تدور بسرعة، فتنقلب كل الأمور.
لكن وكما يقال، فإن الأشجار المثمرة هي دائما التي تطالها الحجارة، بمعنى أن الحوار الوطني الذي سار بشكل إيجابي كنمط عام ولاقى استحسان الجميع -وكان كاتب تلك السطور متشرفًا لوجوده وسط كوكبة ضمت 18 عضوًا فاعلا فيه- كانت به بعض المشكلات أو المصاعب التي سعى لمواجهتها، أو أنها نقصت من جودة مخرجاته المتوقعة، وتلك المشكلات كما سبق القول لا تنال على الإطلاق من الجهد الكبير المبذول.
فأولا: تأخير مجلس الأمناء في الإعلان عن بدأ الحوار، فالفترة التي بدأت فيها اجتماعات جلسات هذا المجلس، وهي يوم5 يوليو2022، حتى الإعلان عن الموعد الفعلي لبدء جلسات الحوار وهو14 مايو2023، فترة طويلة للغاية، حتى أن نفرا من الناس شككوا في الحوار؛ بسبب تلك الاستطالة، وبعضهم اعتبره فاقدا للزخم، ما جعل حماس الناس يفتر لا سيما، وأن تلك الفترة شهدت أحداث جسام على الساحة المصرية، اعتبرها الناس خارج مجلس الأمناء، وربما داخله قفزًا على الحوار ومخرجاته، ومنها عقد المؤتمر الاقتصادي في 23 أكتوبر الماضي، وصدور أكثر من قرار بارتفاع أسعار الطاقة والمحروقات، وانخفاض قيمة العملة المحلية، والاتفاق مع صندوق النقد الدولي …إلخ.
ثانيًا: يرتبط بما سبق أمر مهم حدث أثناء جلسات الحوار الوطني، وهو أحداث اجتماع الجمعية العمومية؛ للنظر في سحب الثقة من نقيب المهندسين، وهو أمر يرتبط بموضوع المجتمع المدني الذي كان على مائدة الحوار الوطني في نفس وقت الأحداث تقريبًا، لكن الموضوع تأجل مناقشته؛ بسبب ظروف بيئية. هنا كانت دعوة أكثر من 12 عضوا من مجلس الأمناء (ثلثي المجلس) بضرورة إصدار بيان يحث السلطات المعنية على إعمال القانون ومعاقبة المخطأ. لكن هذا البيان لم يصدر رغم كتابة أكثر من اقتراح بشأنه، ورغم أن مجلس أمناء الحوار كان قد أصدر، وأحيانا بمبادرة من منسقه العام أكثر من بيان قوي؛ بشأن أمور كانت تخص سجناء ومحتجزي قضايا الرأي، بل إنه كان بصدد إصدار بيان يدعو المعارضين بالخارج ممن لم تتلوث أيديهم بالدماء بالعودة إلى الوطن، لولا أن المعارضة نفسها داخل مجلس الأمناء طالبت بالتريث في إصدار مثل هكذا بيان.
ثالثا: يرتبط بالأمر السابق، أنه خلال فترة الانقطاع التي كانت بين جلسات مجلس الأمناء وقبل بدء جلسات الحوار –وكان بعض أسبابها سياسي يخص العلاقة بين الحكم والمعارضة، وبعضها غير ذلك- كان من المهم للغاية أن يكون هناك مكتب تنفيذي لقيادة المشهد في ظل قيادة، وبقاء المنسق العام للحوار في موقعه، باعتباره شخص يحظى باحترام الجميع، وذلك حتى لا تنقطع البوصلة، وتترك الأمور بلا متابعة. ولعل الغريب في الأمر، أن هذا التنظيم الفرعي لمجلس الأمناء قد اتفق على تأسيسه، لكنه لم يقم إلى يومنا هذا، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى وجوده. إذ أن جلسات الحوار التي بدأت يوم 14 مايو الماضي، شهدت مداخلات مثمرة للغاية وتفاعل كبير من قبل القوى السياسية والمجتمعية المدعوة للحوار، وكذلك مقرري المحاور واللجان ومساعديهم، ما يجعل كل هذه الأمور تؤطر، وتوضع في قوالب حتى لا تنسى. بعبارة أخرى، من المهم إفراغ الجلسات السابقة، ووضع المقترحات الناتجة عنها، وإقرار تلك المقترحات من قادة اللجان والمحاور بإشراف كامل من المكتب التنفيذي، ثم يعرض كل ذلك على المكتب ذاته، والذي يرفعها بدوره لمجلس الأمناء قبل أن ترفع لرئيس الجمهورية.
رابعا: على الرغم من أهمية مداخلات المشاركين في الجلسات، وكثرة عدد الحاضرين، إلا أنه لوحظ أن عملية الحضور وتوجيه الدعوات ارتبطت بالكم وليس الكيف. لذلك كان من الممكن بسهولة أن يجد المتابع الجيد للجلسات غياب عناصر رئيسة عن المشاركة، إما لعدم وجودها أصلا، أو لمشاركتها بشكل محدود؛ بسبب عدم توجيه الدعوات لها. هنا يشار على سبيل المثال لا الحصر. إلى جلسة لجنة الزراعة في 13 يونيو، فتلك الجلسة كان يترأس لجنتها مالك شركة مبيدات زراعية، عينه مجلس الأمناء لتلك المهمة، وهذا في حد ذاته خطأ وتضارب جسيم في المصالح، حتى لو برر بكونه رئيس لجنة الزراعة بالبرلمان؛ لأن هذا خطأ أفدح من البرلمان. في تلك الجلسة كان حضور الفلاحين من صغار الملاك والمستأجرين محدودا جدا، ما جعل مناقشات قضايا البذور والأسمدة والحيازات وأسعار المحاصيل ومياه الري؛ مناقشات نخبوية ومكتبية. نفس الأمر حدث في اجتماع لجنة السياحة في 16 مايو، إذ حضرت الأحزاب، وغاب أهم طرفين وهما: المستثمرين في القطاع السياحي، والعاملين من غير ملاك المنشآت السياحية. أيضا في اجتماع لجنة الصناعة في 23 مايو، غاب عن الجلسات العمال، وهم أهم طرف في كل العملية. نفس الشيء حدث في مناقشة النظام الانتخابي في 14 مايو، إذ حضرت كل الأحزاب التي تمثل المشاركين في الترشيح، وعضويتها لا تتجاوز المليون نسمة، وغاب أهم رقم في العملية، وهو الناخب المستقل الذي يصل عدده إلى 69 مليونا، ضمن عدد الناخبين اليوم الذي يبلغ نحو70 مليون ناخب…إلخ.
خامسا: رغم تعدد القضايا التي وضعت للمناقشة، والتي يرصد البعض بأنها نحو 113 قضية، تدخل ضمن 19 لجنة في 3 محاور رئيسة، وهو عدد كبير بلا شك، إلا أن هناك قضايا مهمة، غابت عن جدول الاجتماعات، وهنا يمكن أن يشار على وجه الخصوص إلى أمرين وردا في الدستور وارتبطا باستحقاقات وقتية، تجاوزها الزمن بكثير، ما جعل نسيان الحوار لهما مشكلة كبيرة تؤثر على المجتمع ونظام الحكم معا. الأولى، تمس أمنه واستقراره، والثانية، تمس نزاهته وشفافيته. يقصد بالمشكلة الأولى، غياب سن قانون العدالة الانتقالية، بدعوى زائفة قادها الإعلام الرسمي والمستقل لسنوات، مفادها أن سن القانون يعني المصالحة مع أنصار العنف، رغم أن ما شابه ذلك الوضع في بلدان كثيرة كان يعني أيضًا المحاكمة، وتوقيع العقوبة والغرامة والإقرار بالذنب. ويقصد بالمشكلة الثانية، غياب سن قانون يمنع ندب القضاة لجهات غير قضائية لما في ذلك الندب من المساس بنزاهة القضاة عند اشتغالهم بأعمال ذات طابع إداري أو وسياسي.
هذه بعض الأمور المهمة، وكما سبق القول، إنها لا تمس الأصل الجيد كثيرًا. كما أنه من الممكن معالجتها بسهولة، لو تم تضميد تداعياتها. بعبارة أخرى، كافة الأمور السابقة أو معظمها يمكن إعادة ضبطها؛ كي يأخذ الحوار مساره الصحيح.