كما نسمع ونشاهد ونقرأ، فإن الحديث يجري بصفة تكاد يومية حول الترتيبات النهائية؛ لانتخابات الرئاسة المقبلة في مصر، ما بين تسريبات أو توقعات أو مطالبات أو إعلانات ترشح، ولا شك لدي في أن شيئا مماثلا يجري في الكواليس، أو خلف الأبواب، سواء في المؤسسات الحكومية المعنية، أو في دوائر القوى السياسية المعارضة على اختلاف أطيافها، و ربما أيضا بين جهات رسمية  وبين أطراف في المعارضة.

المؤكد كما قلت هنا مرارا وتكرارا، أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيترشح للفترة الرئاسية الجديدة، ولكن غير المؤكد هو ما إذا  كان الرئيس، وجهاز الدولة سيديران العملية الانتخابية المقبلة بوصفها بداية مسار سياسي طويل الأجل؛ للتحول الديمقراطي، أي الانتقال إلى دولة القانون المدنية الديمقراطية مع التسليم مقدما، بأنها ستسفر عن فوز مريح للرئيس الحالي؟ أم أن هذه العملية الانتخابية ستدار (على قديمه )، ويعود كل شيء بعدها سيرته الأولى، فلا مشاركة ولا مساءلة، ولكن انفراد بصنع السياسات، واتخاذ القرارات، وإدارة الشأن السياسي بوصفه ملفا أمنيًا فقط لا غير، حيث حقوق الإنسان، وتفعيل الرقابة البرلمانية ، وحرية التعبير والتنظيم أدوات؛ لهدم الدولة وضياع الوطن؟!

يحتم الاتجاه الأول مجموعة من الأسباب المتفاعلة موضوعيا وظرفيا، وهي بالترتيب:

أولا: الأزمة الاقتصادية والمالية الضاغطة بشدة، والتي ترتب أو سترتب نتائج سياسية واجتماعية؛ تهدد الاستقرار، والتي لا مخرج منها إلا بإصلاح سياسي شامل، يؤمن ويوسع دور القطاع الخاص المحلي والأجنبي، ويضمن التنافسية والتطوير والابتكار، ويُرشد الإنفاق العام، ويضيق فرص الفساد.

ثانيا: حاجة النظام إلى تجديد مقنع للشرعية في الداخل والخارج معا، وقدكانت هذه الحاجة وراء المبادرة الرئاسية بالدعوة إلى الحوار الوطني الجاري حاليا، كما كانت وراء اللهجة الودودة الملحوظة في الخطاب السياسي الرسمي في الآونة الأخيرة.

ثالثا: الاعتقاد الشائع بأن الفترة الرئاسية الجديدة ستكون هي آخر فترات الرئيس السيسي، وذلك بحكم النص الدستوري على الأقل، مما يعني أن على كل أطراف المشهد السياسي أن تستعد منذ الآن؛ لحقبة مابعد السيسي، وأول هذه الأطراف الرئيس السيسي نفسه، و بما أنه يتردد في الكواليس أن أكثر ما يشغل الرجل، هو حماية مصر من الوقوع مرة أخرى  -بعد انتهاء رئاسته -في قبضة الجماعات الدينية، وبما أن هذا هو أيضا ما يشغل أحزاب وشخصيات المعارضة الجادة، فإن هذه المقدمة تعني أنه يجب، بل يتحتم اتخاذ الانتخابات الرئاسية المقبلة محطة انطلاق نحو شق المسار السياسي، وإعادة بناء المجال العام، بحيث  لايأتي استحقاق عام  ٢٠٣٠، وسط حالة فراغ من الكوادر  المعروفة والموثوقة بوضوح لدى جمهور الناخبين، والقادرة على قيادة  الدولة سياسيا واقتصاديا وإداريًا، بعد أن تكون حصلت على الخبرات الميدانية، وعلى خبرة  الاحتكاك بجهاز الدولة، وتراثه ومشكلاته والعلاقات بين مكوناته، وفهم كل هذه المعطيات .

رابعا: ضغوط الأوضاع الإقليمية، سواء من حيث تفجر الصراعات في السودان وفي فلسطين، أو من حيث اتجاهات التهدئة بين إيران والسعودية وبين إيران والقوى الكبرى، وكذلك احتمالات التسوية في ليبيا، والجمود المستمر في سوريا؟ أو من حيث إعجاب غالبية المصريين بانتخابات الرئاسة التركية الأخيرة، و بعدول الرئيس السنغالي عن ترشيح نفسه لفترة ثالثة إلخ .

من البديهي، أن إدارة عملية الانتخابات الرئاسية المقبله بهذا المفهوم، أي بوصفها بداية مسار سياسي طويل الأجل؛ للتحول نحو دولة القانون المدنية الديمقراطية، لا يكفي فيها وعود شفاهية، ولا تحقق شروطها اتفاقات أو صفقات الغرف المغلقة، وإنما يجب أن تأتي في وثيقة تأسيسية معلنة لهذه المرحلة طويلة الأجل من التحول السياسي، وبطبيعة الحال، فإن أنسب منصة لإطلاق مثل هذه الوثيقة هي منصة الحوار الوطني، ليس فقط لأن الذي دعا إليه هو الرئيس شخصيا، ولكن أيضا، لأنه تعهد بالتصديق على كل مخرجات هذا الحوار، التي تدخل في نطاق الصلاحيات الدستورية، وهذا في ذاته ضمان؛ لكي تحذو بقية المؤسسات الدستورية حذو الرئيس في التعامل مع مخرجات الحوار.

بالتأكيد، لسنا في حاجة لإعادة اختراع العجلة، لكي نتفق على ما يجب أن تتضمنه الوثيقة المقترحة، فهي من المعلومات بالضرورة، إذ لا مسار سياسيا حقيقيا دون تصفية أوضاع المسجونين والمحبوسين احتياطيا؛ لأسباب سياسية، ودون العودة بقانون الحبس الاحتياطي إلى نصوصه السابقة، وكذلك لا انتقال سياسيا مع محاصرة الأحزاب الجادة، والنقابات بمختلف أنواعها  ،ثم اصطناع أحزاب ضرار، وتقييد الصحافة والإعلام وحجب المواقع، وبالطبع لا جدية لأي تحول مأمول مع التدخل في الانتخابات البرلمانية والنقابية، وعدم تفعيل أدوات الرقابة والمساءلة البرلمانية، بل واليقين المسبق بمرور كل ماتطلبه الحكومة من تشريعات.

على أن ذلك كله، لن يغني عن إعادة التأكيد على نبذ العنف السياسي، والإرهاب بكافة أشكالهما، وكذلك التأكيد على عدم وصاية الأفراد والمؤسسات الرسمية، والأهلية على ضمير المواطن الديني، أو على سلوكه ومظهره إلا في حدود القانون، والقانون فقط ، شرط ألا يطبق مواطن فرد أو جماعة من المواطنين القانون بأيديهم، ولكن من خلال السلطات العامة التي يحددها القانون نفسه.

مع أن كل هذه الشروط هي من البديهيات المعلومة بالضرورة، كما سبق التنويه، فإنها قد تكون في نظر البعض مطالب الحد الأقصى، خاصة الجناح السلطوي في جهاز الحكم، وقد تعتبر خيالا في خيال في نظر التيار العدمي اليائس في المجتمع، لذا نقول، إن المقترح هو عملية انتقال طويلة الأجل، قد لا نأخذ في بدايتها كل شيء، خاصة في التطبيق العملي اليومي، ولكن يجب في المقابل ألا نترك كل شيء.

إذا انتصرت هذه الرؤية، فسيكون فوز الرئيس السيسي المؤكد بالانتخابات المقبلة مختلفا عن الدورة السابق، بمعنى أنه سيكون إسهاما في التحول المنشود، وسيكون إقدام المرشحين الآخرين على المنافسة بدوره إسهاما مقدرا ومطلوبا في هذا التحول، واشتباكا مع الواقع، واكتسابا للخبرات، وتهيئة للمجتمع لما بعد عام ٢٠٣٠، وينطبق ذلك على من أعلنوا ترشحهم، أو من يمكن أن يترشحوا، ويدرسوا هذه الإمكانية حاليا، وبالطبع فهذه حالة مختلفة كليا عن تصنيع مرشح أو مرشحين؛ لسد الخانة واستيفاء الشكل، ممن لديهم موهبة  استيعاب التنكيت والتبكيت، دون أن تهتز فيهم شعرة، كما أن هذه حالة تحبط خطط أصحاب الارتباطات الخارجية غير الشفافة، وغير الموثوق فيها للاستثمار في المشهد السياسي المرتبك في البلد.

ختاما، لا بد من الاعتراف بأنه توجد  أسباب قوية وسوابق قاطعة الدلالة، ترجح بدورها انتصار الرؤية العكسية التي تفضل كل شيء على قديمه، لكننا نرجئ تناولها، في انتظار ما تنجلي عنه الأحاديث العلنية، وأحاديث الكواليس، وستنبيك الأيام ما كنت جاهلا، ويأتيك بالأنباء من لم تزود.