الفن هو أصدق مظاهر القوة الناعمة التي تتبدى سطوتها من خلال قُدرتها على الجاذبية الطبيعية بصدقٍ، وعفوية وبلا إكراه ولا تخطيط مُسبق. وعلى هذا النحو، فالقوة الناعمة لا يصنعها المال الوفير، ولا تتحقق بقرار فوقي إرَادَوي، لكنها تأتي من خلال تراكم يتكون من أسفل إلى أعلى عبر السنين الطوال.

ولهذا، فأنت إن بحثت عن أسباب امتلاك مجتمع دون آخر لمقومات القوة الناعمة، فسيتحقق لديك أن مثل هذا المجتمع لا بد أن يكون له امتدادات أخلاقية بالأساس تسرى بالروح عبر الزمن، ولعل هذا هو ما أَهَّلَ المجتمع المصري على وجه التحديد؛ لحيازة تلك المقومات.

ولأن المجتمع المصري منذ الفراعنة هو مجتمع يقوم على فلسفة الضمير* خلافًا لمجتمعات أخرى، كمجتمع حضارة بابل الذي كان يقوم على فلسفة القانون (قانون حمورابي مثالًا)، لذا فقد كان للفن المصري الدور الهام بل، وربما الأهم في ترجمة فلسفة الضمير تلك من خلال تداولٍ شعبي لها، يتراكم في تَوَارُثٍ، يتطور شَكلًا مع الزمن وإن ظلت جذوره ضاربة في عُمق الأعماق. هذا ما أفهمه عن القوة الناعمة وعن التراث الذى يُقصد به حسب معجم المعاني: ” كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعتبر نفيسًا بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه”. وبناءً عليه، فتراث القوة الناعمة التي يأتي الفن على رأسها، لا يمتلكه ولا يجوز أن يحتكره أحد بعينه، حيث الوارث الحقيقي له هو جُمُوعُ الناس، وفي إحيائه (فليتنافس المتنافسون).

كانت تلك مقدمة واجبة دعتني إلى سردها حالة ذهنية ونفسية، حفرتها في وجداني فعالية بديعة لواحد من أبناء جيلي في دار الأوبرا، منذ أيام افتتاحًا لمشروع يهدف؛ لنفض الغبار عن جزءٍ من تراثنا الفني واجب التقدير.

تألق “مدحت صالح” كما لم يفعل من قبل بحضورٍ طَاغٍ، وبأداء شديد الإمتاع؛ لأعمال عمالقة الفن في النصف الأخير من القرن الماضي بسياقات حديثة، لم تُخرِج تلك الأعمال عن محتواها الأصيل. عجوزٌ أنا، كنت محايدًا إزاء الداهية عبد الحليم حافظ، أحترم ذكاءه وأداءه، لكنني لم أكن مُغرمًا سوى بفريد الأطرش في امتدادٍ؛ لإرثِ عشقٍ عائلي، تربع فيه فريد وعبد الوهاب وأم كلثوم ثالوثًا مُقدسًا على عرش الغناء العربي في مكتبة الأسطوانات التي ورثتها.

“وأنا وياهم مُشتاق لك، مُشتاق لليالي هواك، وعشان كده دايمًا أقول لك، إمتى هيسعدني لُقاك”، ما أن نطق بها مدحت إلا وقد انتبهت كل حَوَاسي: “الله الله الله! يا ولد، يا مدحت”، لقد أداها مدحت صالح كما لو كان فريد الأطرش، قد وضع لحنها له شخصيًا لا لمحرم فؤاد الذي لم أكُن أحبه. مُطرِبٌ لا شك في ذلك هو مدحت صالح، فلطرب معايير لا ينبغي تجاوزها؛ بإطلاق وصف “المُطرب” على كل مؤدٍ للغناء، وليس في ذلك ما يعيب المؤدين، لكن لضبط المُصطلحات صرامة واجبة؛ حيث لكلِ معيارٍ قياسٌ يُحتَرَم. في لغة الجسد، كان مدحت عبقريًا، إذ أتت حركاته على المسرح مدروسة بعناية شديدة تليق بعُمرِه الذى تجاوز الستين، فلم يبتذل راقَصًا، كما يفعل بعض مجايليه، ولم يقف -في نفس الوقت- مُتَصَلِبًا أمام الميكروفون مُستنسِخًا حالة أداءٍ عتيقة، أكل عليها الدهر وشرب.

ما زال تراثنا الفني بحاجة لمشروعات أخرى من نوع مشروع مدحت صالح الذى تَخَيَّر في بدايته أعمالًا باهرة من حقبة تاريخية شديدة الثراء على كل المستويات، فكان أمينًا وصادقًا ومُبدِعًا بحق، وربما يمتد مشروعه؛ لتغطيةٍ أكثر إتساعًا لأعمال بنفس الحقبة، أُسدِل عليها ستار النسيان كالأعمال الوطنية لعبد الحليم حافظ.

من ناحية أخرى، ربما يمتد مشروع مدحت صالح؛ لمزيد من الإضاءات الهامة المًستَحَقة “لأساتذة”، سبقوا تلك الحقبة ليزيح عنها غبارًا كثيفًا، فما زالت الأعمال النادرة التي لا يعرفها الكثيرون لخادم الموسيقى، وسيدها الشيخ سيد درويش بحاجة لذلك، وأيضًا أغلب أعمال الشيخ زكريا أحمد العبقرية.

لا شك عندى، أن أجيالًا جديدة من الموسيقيين، تُنَقِب عن الجواهر النادرات من تراثنا، لكن جهودهم تظل في إطار المحاولات الفردية، وإن كانت محل تقدير بالغ، لكنها مُضنية وشاقة، تفتقر إلى عمل مؤسسي، يقتضى تمويلًا وتنظيمًا إداريًا، يليق لمدحت صالح الذى تحرك إيجابًا في هدوء، وتؤدة ودون رطانة، ولكل من دعمه التقدير والثناء انتظارًا للمزيد منه شخصيًا، ومن رفاق جيله أو كما قال ماو تسي تونج: دَع مائة زهرة تتفتح.

*راجع كتاب الخروج إلى النهار الذي يحكي عن اثنين وأربعين اعترافًا طوعيًا يدلي بها المتوفي بقاعة “مَاعِت” (العدالة)، نافيًا قيامه أثناء حياته بخطايا، لم يحذره أحد -مُقدَمًا- من اقترافها، لكن تجنبه إياها كان نابعًا من جوهر الفضيلة الداخلية التي أودعها الرب بقلبه. ” أنا لم ارتكب خطيئة، لم أسلب الآخرين ممتلكاتهم بالأكراه، لم أسرق، لم أقتل، لم أسرق الطعام، لم اختلس القرابين، لم أسرق ممتلكات المعبد، لم أكذب، لم أخطف الطعام، لم ألعن، لم أغلق أذناي عن سماع كلمات الحق، لم أزنِ، لم أتسبب في بكاء الآخرين، لم انتحب بدون سبب، لم اعتدِ على أحد، لم أغش أحدا، لم أغتصب أرض أحد، لم أتنصت على أحد، لم ألفق تهمة لأحد، لم أغضب بدون سبب، لم أغوِ زوجة أحد، لم أدنس جسدي، لم أقم بإرهاب أحد، لم أخالف القانون، لم أتمادى في الغضب، لم أسب الآلهة، لم أستخدم العنف ضد أحد، لم أهدد السلام، لم أتصرف بغوغائية، لم أتدخل فيما لا يعنيني، لم أتحدث بالنميمة، لم أفعل الشر، لم يصدر مني أفكارا أو كلمات أو أفعالا شريرة، لم ألوث ماء النيل، لم أتحدث بغضب أو استعلاء، لم ألعن أحدا بكلمة أو فعل، لم أضع نفسي موضع شبهات، لم أسرق ما يخص الآلهة، لم أنبش القبور و لم أسيئ إلى الموتى، لم أخطف لقمة من فم طفل، لم أتصرف بكبر و غطرسة، لم أخرب المعابد.”