في الخامس من يوليو/تموز الجاري، طردت حشود غاضبة مسؤولين كبار في السُلطة الفلسطينية من جنازات 12 فلسطينيًا، قتلهم الجيش الإسرائيلي؛ خلال اقتحامه لمخيم جنين. وكان من ضمن هذه القيادات عضوا اللجنة المركزية لحركة فتح، عزام الأحمد ومحمود العالول نائب قائد الحركة.
أظهرت هذه المشاهد مدى الغضب المتنامي تجاه السُلطة الفلسطينية؛ بسبب تعاملها مع الاقتحام الإسرائيلي الأوسع منذ عام 2002. وحسب “المركز الفلسطيني للإعلام”، فإن أجهزة السلطة قمعت قبلها أهالي المخيم؛ أثناء احتفالهم بخروج قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنين.
وحسب ما نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت، طلبت إسرائيل من رجال السلطة الفلسطنية مع بدء الاقتحام
مغادرة جنين، ثم أعلن الرئيس محمود عباس: في وقت لاحق تعليق التنسيق الأمني مع إسرائيل؛ بسبب العملية الأمنية، وهو تهديد لطالما تكرر دون تفعيل حقيقي.
عكس طرد كبار مسؤولي فتح من مخيم جنين الإحباط المتزايد، والغضب لدى العديد من الفلسطينيين من قيادتهم المتمركزة في رام الله. فمن وجهة نظرهم، فإن العالول وأحمد وكبار المسؤولين الآخرين المرتبطين بشكل وثيق برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس -الذي يرأس أيضًا حركة فتح- يمثلون سلطة، فشلت في إصدار أوامر لقوات الأمن الفلسطينية؛ بالدفاع عن مخيم جنين ضد العدوان الإسرائيلي.
هم الآن يسمون السلطة الفلسطينية “سلطة الجواسيس”، كما تشير صحيفة “جيروزاليم بوست“. ولهذا، أصبحت الرئاسة الفلسطينية أمام معضلة حقيقية تهدد بقائها؛ بسبب التصرفات الإسرائيلية التي تدفعها إلى الانهيار، بينما تحاول إنعاشها في ذات الوقت.
وتخشى إسرائيل انهيار السلطة الفلسطنية، خوفًا من الفراغ، وفتح الباب أمام سيطرة حركة “حماس” على الضفة، مثلما تحقق في غزة.
اقرأ أيضا: الاجتياح الإسرائيلي الأوسع منذ 2002.. الأهداف المعلنة وغير المعلنة لاقتحام جنين
إسرائيل تحاول تقوية السُلطة
درست الحكومة الإسرائيلية إجراءات من أجل دعم السلطة الفلسطينية، ومنع انهيارها المُحتمل، ومن بينها إنشاء منطقة صناعية في بلدة ترقوميا بمدينة الخليل، هي خطوة يدعمها المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون منذ فترة طويلة.
وكذلك استغلال حقل الغاز البحري قبالة سواحل قطاع غزة، إضافة لإجراءات أخرى؛ تحسّن من الوضع الاقتصادي للسُلطة، بما يعزز استقراراها.
وبحسب موقع “تايمز أوف إسرائيل“، سلطت حكومة الاحتلال الضوء على مجموعة من الفوائد الاقتصادية المحدودة، مثل تسهيل مدفوعات الديون، وتمديد ساعات عمل معبر “اللنبي” (جسر الملك حسين الواصل بين الضفة الغربية والأردن) وإصدار جوازات السفر.
أضاف الموقع، أن كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية، قد يرون أيضًا إعادة امتيازات كبار الشخصيات الخاصة بهم، و التي تم إلغاؤها في يناير/كانون الثاني 2023، بعد دعمهم لقرار مناهض لإسرائيل في الأمم المتحدة.
ونقلت قناة “مكان” الإسرائيلية عن مسؤول سياسي قوله: “تعزيز السلطة الفلسطينية يصب في مصلحة إسرائيل. ورغم ذلك، فقد أوضحنا لهم، أن إسرائيل ستستمر في نشاطها ضد أهداف إرهابية في جميع مناطق يهودا، والسامرة (التسمية اليهودية للضفة)”.
هذه المحادثات في حكومة الاحتلال تأتي في أعقاب “توصيات دفاعية” لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من أجل تقوية السلطة الفلسطينية “لتجنب تدهور الوضع في الضفة الغربية”. وقال مسؤولون أمنيون للقناة 13 العبرية إنهم حذروا القيادة السياسية من احتمال انهيار السلطة الفلسطينية، ودعوا إلى ضرورة دفع هذه الإجراءات بسرعة.
فيما ذكر موقع “واينت” أن الإجراءات تهدف أيضًا إلى مواجهة النفوذ الإيراني في الضفة الغربية، في إشارة لدعم طهران لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
“من المرجح، أن يؤدي انهيار السلطة الفلسطينية إلى حدوث فوضى، وفراغ في السلطة في الضفة الغربية، وفرصة للجماعات المسلحة للسيطرة على غرار الوضع في غزة، حيث طردت حماس السلطة الفلسطينية بعنف في عام 2007″، يشير التقرير.
وفقدت السلطة الفلسطينية سيطرتها بشكل متزايد على شمال الضفة الغربية، حيث تنشط مجموعات المقاومة المسلحة في كلا من جنين ونابلس ومناطق أخرى بشكل متزايد.
حفّز نشاط مجموعات المقاومة في جنين ومناطق الضفة، القوات الإسرائيلية على القيام باقتحامات منتظمة في المنطقة في أعقاب شن سلسلة من الهجمات، انطلاقًا من شمال الضفة المحتلة.
دعم السلطة ماليا
مصدر إسرائيلي رفيع قال -لوكالة الأناضول التركية-، إنه خلال فترة العام ونصف العام الماضية “ضعفت السلطة الفلسطينية، حتى وصلت إلى مرحلة لم تعد فيها قادرة على دخول جنين من أجل اعتقال هؤلاء المسلحين”.
هذا بينما تعاني السُلطة الفلسطينية في الوقت ذاته من شبح الإفلاس ماليًا -بحسب ما ذكرته قناة “كان 11” الإسرائيلية الشهر الماضي-؛ بسبب الوضع المالي الصعب الذي تواجهه. إذ يتلقى الموظفون الحكوميون 80% فقط من رواتبهم، فيما استقال عدد من العاملين في الأجهزة الأمنية.
وقال موقع “تايمز أوف إسرائيل”، إنه في حال حدوث الإفلاس؛ فإنه سيؤدي إلى إغلاق السلطة الفلسطينية لمكاتبها، وفقدان الاستقرار في المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
وأرجع موقع i24news الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة إلى الاقتطاعات الشهرية، التي تقوم بها إسرائيل من الضرائب التي تجمعها السلطة الفلسطينية، و التي تم استخدامها لدفع رواتب عائلات الأسرى والشهداء، وكذلك من خلال التخفيض المستمر في المساعدات الدولية.
لكن هذا الوضع، يبدو أنه قد لا يستمر طويلًا في ظل المساعي الإسرائيلية والأمريكية، بوساطة إقليمية؛ لدعم وتقوية السلطة الفلسطينية ماليًا.
عضو الكنيست الإسرائيلي السابق والمحلل السياسي، إيلي نيسان، أشار إلى، أن “هناك جهات يمينية في الحكومة الإسرائيلية تعارض تقديم مساعدة للسلطة، ويقولون، إن أبو مازن يعلن عن رغبته في التهدئة من جهة، ومن جهة أخرى يقدم الدعم لكل من يقتل إسرائيليًا. لكن الأغلبية في الحكومة، وبناء على توصيات الجهات الأمنية، ربما تتخذ القرار بدعم السلطة؛ لأن إسرائيل لا تريد السيطرة على ثلاثة ملايين من سكان الضفة، وإدارة شؤونهم المالية”.
أما أستاذ العلاقات الدولية، حسن المومني، فيرى، أنه “من المفترض أن تتعامل إسرائيل مع السلطة الفلسطينية على أساس الاتفاقات بينهما، لكن الحكومة الإسرائيلية، خاصة هذه الحكومة اليمينية، قامت بإجراءات أضعفت السلطة.
ويضيف المومني: الآن وفي ظل التصعيد بين المقاومة وإسرائيل، قد تعتبر إسرائيل من حيث الناحية البراجماتية، أن السلطة هي الأقرب والأكثر سهولة في التعامل معها، وبالتالي قد تكون إسرائيل أدركت أن ما تقوم به أضعف السلطة، ما شجع الفصائل على السيطرة على المشهد”.
جوهر المعضلة
أظهر آخر استطلاع للرأي العام، نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، ومقره رام الله، أن الغالبية العظمى (80%) من الجمهور الفلسطيني، تريد أن يستقيل عباس. وقال نصف الجمهور، بحسب الاستطلاع، إن مصلحة الشعب الفلسطيني تكمن في حل السلطة أو انهيارها.
كما أن أكثر من 70% من الفلسطينيين، يؤيدون تشكيل مجموعات مسلحة مثل “عرين الأسود” في نابلس و”كتيبة جنين” في جنين. ولعل ما يقلق عباس أكثر هو أن 86% من الفلسطينيين قالوا، إن السلطة ليس لها الحق في اعتقال عناصر هذه الجماعات المسلحة.
“هذا بالتحديد هو سبب تردد عباس خلال العامين الماضيين، في إصدار أوامر لقواته الأمنية باتخاذ إجراءات ضد الجماعات المسلحة في نابلس وجنين. إنه يواجه بالفعل انتقادات من العديد من الفلسطينيين؛ لفشله في اتخاذ إجراءات صارمة ضد إسرائيل… آخر ما يريده الآن هو أن يُنظر إليه على أنه ‘مقاول ثانوي’ للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية”، حسب ما تقول صحيفة “جيروزاليم بوست“.
عملية جنين تقوض السلطة وتفقدها المصداقية
وفيما كان من المفترض أن تعزز العملية الأمنية الإسرائيلية السلطة الفلسطينية، وتساعدها في تأكيد سيطرتها على مخيم جنين للاجئين، يبدو أنها حققت العكس تمامًا. حيث ساهمت عملية الاقتحام الاسرائليى للمخيم في تقويض مكانة السلطة الفلسطينية، ومصداقيتها بين العديد من الفلسطينيين.
هذا في الوقت الذي تفشل فيه السلطة في حماية الفلسطينيين من هجمات المستوطنين الدامية، مثلما جرى في بلدة ترمسعيا، حيث أحرق المستوطنون المتطرفون عددًا من المنازل والممتلكات.
وعدم شعبية السلطة الفلسطينية تعود إلى عوامل عديدة أخرى، بحسب صحيفة The Conversation. إذ اتهمها الفلسطينيون بالفساد، وعدم الكفاءة وقمع المعارضة بوحشية. واتهمتها جماعات حقوق الإنسان بالاعتقال التعسفي للأشخاص بل وتعذيب المعتقلين.
ويضيف دوف واكسمان، المتخصص في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في تحليله للصحيفة، أن السلطة الفلسطينية أصبحت بلا شك أكثر استبدادية. إذ لم تجر انتخابات رئاسية منذ عام 2005.
كما أجريت آخر انتخابات تشريعية في عام 2006. وأدى الانقسام المستمر بين حركة فتح وحماس إلى منع المجلس التشريعي الفلسطيني من العمل؛ ونتيجة لذلك، يحكم عباس عبر المراسيم.
“إن الانحدار الديمقراطي للسلطة هو نتاج مشكلة أعمق وأكثر جوهرية: لقد فقدت شرعيتها بين عدد متزايد من الفلسطينيين”، يقول واكسمان.
والسبب في ذلك، أنها فقدت الغرض الذي تأسست من أجله عام 1994، وفق اتفاقية أوسلو، وهو إقامة دولة فلسطينية. بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، لا تزال السلطة الفلسطينية قائمة، لكن الدولة الفلسطينية تبدو بعيدة المنال.
ويجمع عباس بين منصبي رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة فتح، ولم يختر خليفة له وبقي في السلطة على الرغم من انتهاء فترة ولايته رسميًا في عام 2009.
وفق “رويترز” قال مسؤول كبير في فتح: تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته؛ بسبب حساسية الموضوع. إن مسألة خلافة عباس، أصبحت في الأشهر القليلة الماضية “موضوعًا، يناقش أكثر من أي مرة”.
وتتنافس مجموعة من كبار قادة فتح على المنصب منذ شهور، في مناورات ُتجرى في الدهاليز الخفية وخلف الستار. ومما يزيد الأمر تعقيدًا عدم وجود آلية واضحة؛ لتحديد انتقال المنصب.
لم تعد هناك مساحة وسط
في تحليلهما عبر مجلة “فورين بوليسي“، ينظر كل من الدبلوماسي الأمريكي السابق والزميل الحالي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، دينيس روس، وزميله في المعهد، غيث العمري، إلى البُعد الإقليمي في ضعف السلطة الفلسطينية، ما يهدد من منظورهما مساعي التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
ليس ذلك فقط، بحسب الباحثان، وإنما يُنذر انهيار السلطة باضطراب واسع في الضفة المحتلة، ما يترك أثره على المنطقة بشكل أكبر، ويدفع الولايات المتحدة للعودة من جديد. ولهذا يطالبان إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ باتخاذ خطوات جادة من أجل إجبار السلطة على إجراء بعض الإصلاحات، مثلما حدث في عام 2007، حينما هدد جورج بوش بقطع المساعدات، إذا لم يفعل أبو مازن ذلك.
ويطالب الكاتبان إدارة بايدن بتنفيذ هذه الاستراتيجية مجددًا، والضغط على عباس، ولكن بمشاركة عربية، بما في ذلك أولئك الذين يمكنهم توفير الموارد، مثل السعوديين والإماراتيين. وكذلك مصر والأردن الذين تربطهم علاقات قوية مع السلطة الفلسطينية.
وعلى الجانب الآخر، فإنهما يطالبان بأن تضغط الإدارة الأمريكية على نظيرتها الإسرائيلية؛ من أجل إيقاف التوسع في بناء المستوطنات، أملًا في تهدئة الأجواء المشتعلة.
لكن باحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي يعتقدان، أن الأهم هو إضعاف حركة حماس، وليس تقوية السلطة الفلسطينية فقط. إذ يقولان، إنه رغم ضعف السلطة الفلسطينية يضر بالمصالح الإسرائيلية، فإن خطوة لتقويتها لا يمكن أن تقودها إلا حكومة وحدة وطنية تحظى بدعم شعبي واسع.
يدرك معظم الفلسطينيين الظروف الصعبة التي نشأت فيها السلطة الفلسطينية، وبالتالي حدودها في اتباع استراتيجية ثورية كاملة. أو حتى سياسة براجماتية متوازنة -تلك التي تترك مجالاً لاستراتيجية وطنية قائمة على التحرر- باتت غير ممكنة الآن.
اختل هذا التوازن الحساس؛ لأن المشروع الصهيوني وصل إلى مرحلة إنهاء الصراع إنهاءً تامًا، بحسب ما يشير الكاتب، عوني المشني، والذي كان عضوًا في المجلس الاستشاري لحركة فتح.
وبدأ وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في تنفيذ “خطته الحاسمة” تدريجيًا بزيادة أعداد المستوطنات، والإسراع في التهويد، وما يصاحبه من قمع للشعب الفلسطيني. وكردّ فعل طبيعي، نما النضال الوطني الفلسطيني الذي “وضع السلطة الفلسطينية بين المطرقة والسندان”.
وهذا حد من خياراتها وقوّض قدرتها على تحقيق التوازن.
فالإسرائيليون يضغطون عليها بشدة؛ لتمارس دورها الفعلي في مطاردة واستئصال المقاومة الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، يضغط الجمهور الفلسطيني في الاتجاه المعاكس، ويطالب السلطة الفلسطينية باختيار واضح، والوقوف إلى جانب نضاله الوطني قبل فوات الأوان.
ولم يعد البقاء في الوسط مقبولاً للإسرائيليين، ولا للفلسطينيين. وهذه معضلة معقدة للسلطة الفلسطينية، لأن الانحياز إلى أي من الجانبين، قد يؤدي إلى انهيارها، كما يقول المشني.