قبل مائتي عام بدأت مصر استعارة أشكال الدولة الحديثة من أوروبا وبالتحديد من فرنسا، بدأت بتدريب الجيش على النمط الفرنسي 1824م، مع تجنيد الفلاحين المصريين لأول مرة، ثم بتأسيس مدرسة للطب 1825م، ثم بإرسال أول بعثة طلابية؛ لتلقي العلم في فرنسا 1826م، ثم تتابع النقل عن أوروبا، وانفتحت البلد للمؤثرات الأوروبية، فلم يكن القرن التاسع عشر غير تنفيذ عملي للخطط التي وضعها نابليون بونابرت أثناء حملته العسكرية، وقامت على متابعتها الدبلوماسية الفرنسية ذات الحظوة لدى الباشا وذريته، وكان خصمهم العتيد – الإنجليز – يرقبون الاختراق الفرنسي من قريب ومن بعيد، يتحينون الفرصة لوراثته والإحلال محله، وقد واتتهم الفرصة مع أفول الخديوية، وأزمة الديون والثورة العرابية، حيث استدعاهم الخديو توفيق؛ لحماية عرشه، فجاؤوا بقوة عسكرية، حصدت ما زرع الفرنسيون، وحل الإنجليز محل الفرنسيين في مواصلة الاختراق الأوروبي، حتى منتصف القرن العشرين. الباشا وذريته حكموا مصر مائة وخمسين عاماً بالتقريب، نصفها الأول تحت النفوذ المستتر للفرنسيين كقوة تأثير ثقافي وسياسي، ثم نصفها الآخر تحت النفوذ العلني للإنجليز كقوة احتلال عسكري مسلح.

قبل مائة عام، وبالتحديد بين عامي 1923م – 1924م، كانت مصر تحصد بعض ثمرات ثورتها المجيدة في 1919م، حيث تعيد تأسيس هويتها على أساس فكرة الوطنية، متحررة من:

–  الالتزام بالسيادة العثمانية التي كانت قد تبخرت إلى الأبد بسقوط السلطنة العثمانية مع الحرب العالمية الأولى، وقيام تركيا الحديثة وفق معاهدة لوزان 1923م .

– ثم مكافحة للتحرر من الحماية البريطانية، فحصلت على استقلال شكلي، وتمتعت بدستور، وشادت تجربة ديمقراطية، وصلت بعد ثلاثة عقود إلى حائط مسدود.

قبل سبعين عاماً، قفزت السترة العسكرية على حكم البلاد، وما زالت حتى كتابة هذه السطور، في صيف 2023م. (تعبير السترة العسكرية اقتبسته من المؤرخ شريف يونس ).

خلاصة المائتي عام من التحديث تعني عدة حقائق:

الأولى: أن تحديث الباشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان يعني الجمع بين الموروث العثماني – المملوكي من جهة والمستجدات الأوروبية من جهة أخرى.

الثانية: أن تحديث الخديوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يعني تدمير كافة مقومات المناعة الذاتية، بما يفسح المجال لاجتياح أوروبي؛ انتهى باحتلال مسلح.

الثالثة: أن تحديث الحركة الوطنية قبل وبعد ثورة 1919م، قدم تجربة عظيمة في بناء نموذج مصري، لكنه اصطدم بعقبة السراي الملكي، وعقبة الاحتلال الفعلي الذي لم يخفف من وطأته الاستقلال الشكلي فبراير 1922م .

الأخيرة: التحديث الذي جاءت به السترة العسكرية في السبعين عاماً الأخيرة، هو أنها – لأول مرة – جاءت بحكام مولودين من آباء مصريين وأمهات مصريات، لكن جوهر الحكم من حيث هو علاقة بالشعب لم يتغير.

الخلاصة: التحديث – في المائتي عام من 1824 – 2024 م، استجلب بعض المؤثرات الأوروبية، لكنه احتفظ بجوهر الاستبداد من حيث علاقة الحاكم بالمحكومين، فلا فرق بين مماليك مجلوبين من أصقاع الأرض، ومصريين من أبوين مصريين ومن طين الأرض. فلماذا؟

الدكتور جمال حمدان في ص 604 من المجلد الرابع من موسوعة شخصية مصر، له وجهة نظر، يرد فيها استبداد الدولة الحديثة إلى جذور بعيدة في التاريخ، إلى أصول الاستبداد الفرعوني.

يتساءل: ” هل تغيرت مصر المعاصرة عن مصر الحديثة؟ وهل تغيرت مصر الحديثة عن القديمة؟ هل تغيرت في قضية التركيب الاجتماعي – السياسي ونظام الحكم والسلطة، وإلى أي حد حدث التغيير؟ “.

ثم يجيب: ” التغيير الجوهري حدث في الشكل فقط، أما الجوهر فلم يكد يتغير، وهذا الجوهر هو الطغيان الشرقي، الطغيان الفرعوني، بكل أعمدته التقليدية، فهو الخط المستمر، والقاسم المشترك الأعظم الذي يجري خلال تاريخ مصر كله من مينا ( 3200 قبل الميلاد )، حتى اليوم: المتغير الوحيد هو الشكل، ملكية أو جمهورية، وراثية أو انتخابية، مدنية أو عسكرية، ذلك بحسب الظرف أو العصر “.

ثم يستنتج من ذلك قوله: ” فقديماَ كان الفلاحون ” عبيد فرعون ” ثم ” عبيد السلطان ” وحديثاَ، فإذا لم نكن قد صرنا حقاً أو نوعاً ” عبيد الرئيس “، فنحن يقيناً ما زلنا بين فراعنة وفلاحين، ورعايا لا مواطنين، وما زال الاستقطاب الطبقي الجوهري، هو بين الحاكم والمحكوم، وتلك هي ” الفرعونية الجديدة أو المحدثة ” أو ” الفرعونية الخبيثة أو السرية “.

ثم في ص 605 من المرجع ذاته يقول: ” فإذا كان محمد علي باشا هو آخر المماليك العظام، وأول الفراعنة الجدد، فعبد الناصر – من بعده – أول المماليك الجدد وآخر الفراعنة العظام “.

الدكتور جمال حمدان – انطلاقاً من الاستمرارية الفرعونية – يشرح وجهة نظره في المائة عام الأخيرة، أي في نظام ما بعد ثورة 1919م، ثم حكم الضباط المتواصل منذ سبعة عقود.

– فعن ديمقراطية العهد الملكي يقول في ص 606 “، فإن هذه الديمقراطية البرلمانية المستوردة، ليست إلا غلافاً جذاباً، وليست إلا قناعاً براقاً، للديكتاتورية الأصيلة والأصلية، وليست – في جوهرها – سوى الترجمة العصرية، والمحسنة للطغيان الشرقي، بل وهي الشكل العصري لعبودية العصور القديمة، إنها – حرفياً – الديكتاتورية البرلمانية الزائفة “. وقد يبدو حكم الدكتور حمدان قاسياً على تجربة الثلاثين عاماً التي توصف بأنها ديمقراطية شبه ليبرالية، ولكن حكمه – على قسوته – هو الحقيقة، فلولا فشلها في أن تكون ديمقراطية حقيقية، ما رحب الشعب بدبابات الضباط الأحرار، وهي تسحق العهد بأكمله من الملك إلى الوفد إلى الأحزاب إلى الدستور إلى الحريات إلى المؤسسات إلى الطبقة السياسية الحاكمة، والاجتماعية المهيمنة والاقتصادية النافذة بكامله، كل ذلك من أشكال الديمقراطية البرلمانية الزائفة، لم يجد من يدافع عنه من الشعب، فداسته أقدام الضباط كأن لم يكن.

– ثم يتحدث عن حكم الضباط بعد 23 يوليو 1952م، فيقول ص 607: ” من المؤسف أن النظام الذي قام؛ ليحقق للشعب العزة والكرامة التي حُرم منها طوال تاريخه، والنظام الذي كان شعاره ” ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد “، لم يحقق إلا عكس الشعار تماماً من الناحية العملية “.  وعند الدكتور حمدان، فإن حكم دولة الضباط ” لم يلبث أن انحرف، ودخل في عهد إرهاب حقيقي، فتورط في المصادرات والحراسات والاعتقالات، بل والتعذيب جملةً، وتحول بالتدريج إلى القهر والكبت والقمع، وتنميط وقولبة الفكر والعمل السياسي، ووأد الرأي الحر أو المعارض بتجييش الشعب كقطيع سياسي “. ويقول: ” في إطار هذا القفص الحديدي، الذي لم يسمح قط بالرأي الآخر، أو المعارضة، تم تعقيم الشعب سياسياً “.

ويقارن الدكتور حمدان بين حقوق الشعب في العهدين الملكي والجمهوري فيقول: ” كان للشعب في النظام البرلماني الزائف في العهد الملكي حقوق المتفرج “، ثم أصبح له في دولة الضباط ” الحق في أن يقول نعم “.

ثم عن التحول من ملكي إلى جمهوري يقول، إن كل ما في الموضوع أن مصر تحولت: ” من دولة بوليسية وسيطة تحكمها الشرطة إلى دولة بوليسية عصرية يحكمها الجيش، أو من ملكية بوليسية إلى جمهورية عسكرية، أو أخيراً من إقطاع مدني إلى إقطاع عسكري “. ثم يقول: ” اختزل البعض الآخر الوضع كله في أنه مزيج من الفرعونية الجديدة والمملوكية الجديدة “. ثم يصف الرؤساء من ضباط الجيش في العهد الجمهوري، بأن ظهرت عليهم ” أعراض جامحة وجانحة من مظاهر الملكية، بل والإمبراطورية، كأنما هي – يقصد النظام الجمهوري – ملكية مؤقتة، غير وراثية، غير مدنية، أي أن الجمهورية مجرد ملكية مقنعة، فهذا أول إمبراطوري جمهوري، وهذا أول ملكي جمهوري، وهكذا وتلك، هي بكل وضوح أعراض، وأمراض الحكم المطلق وحكم الفرد “.

وفي موضع سابق من ص 577 يقول: ” مصر لم تعرف طبقة حاكمة وراثية على غرار سلالات الأرستقراطية الأوروبية، لكنها عرفت – لسوء الحظ – العصابة الحاكمة، ولا نقول أحياناً: الحثالة الحاكمة، بمعنى عصبة مغتصبة، تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية “. ثم يقول: ” وهذا ما يصل بنا إلى ذروة النظام، و ذروة المأساة أيضاَ، لقد كانت مصر أبداً هي حاكمها، وحاكمها هو عادةً أكبر أعدائها، وأحياناً شر أبنائها ، وهو على أية حال ، يتصرف على أنه ” صاحب مصر ” ، ولي النعم ، أو الوصي على الشعب القاصر الذي هو ” عبيد إحساناته “، ووظيفته أن يحكُم، ووظيفة الشعب أن يُحكم، وأن الشعب الأمين هو شعب آمين، والمصري الوطني الطيب هو المصري التابع الخاضع  “.

ثم في ص 578 أن مصر: ” كانت مجتمعاً مدنياً يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل، وبالتالي كانت وظيفة الجيش أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم، وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب، كان الحكم يمارس الحل السياسي مع الغزاة والأعداء في الخارج، بينما يمارس الحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب “.

السؤال الآن: هل جذور هذا الاستبداد الحديث تعود إلى أصول فرعونية قبل خمسة آلاف عام؟

أم تعود إلى جذور أحدث من ذلك بكثير؟

استبداد الجمهورية الجديدة من 2014م، وما بعدها هو خلاصة الاستبداد الحديث الذي عرفته مصر في المائتي عام الأخيرة من تأسيس الجيش الحديث 1824م، حتى تأسيس الجمهورية الجديدة 2014م، ثم هذا الاستبداد الحديث، يصعب تفسيره بصلات تربطه باستبداد فرعوني قبل خمسة آلاف عام، الأقرب للمنطق هو تفسير استبداد القرنين الأخيرين، أي التاسع عشر والعشرين،  باستبداد القرون الثلاثة السابقة عليهما مباشرة، و اللصيقة بهما كتفاً بكتف، وقدماً بقدم، فالقرون السادس عشر ثم السابع عشر ثم الثامن عشر – بخيرها وشرها – هي الحاضن الطبيعي للقرنين التاسع عشر والعشرين بخيرهما وشرهما، هذه القرون الخمسة الأخيرة هي الإطار الأشمل الذي منه تكتسب الحداثة، والدولة الحديثة معناها ومحنواها. هذه القرون الثلاثة من السادس عشر حتى التاسع عشر كانت السيادة فيها لقوة إمبراطورية عظمى هي الدولة العثمانية، لكن كانت لعبة السياسة المحلية – في الغالب الأعم – في يد المماليك، السيادة العليا انتقلت للعثمانيين، لكن لعبة السلطة الفعلية لم تخرج من يد المماليك، مرت بهم لحظات ضعف ولحظات قوة، لكن بقيت السياسة المصرية في القرون السياسية مسرحاً، يشغل المماليك أكثره، المماليك تحت السيادة العثمانية هم المدرسة السياسية الأكبر التي رسمت ملامح الثقافة السياسية المصرية، ولا يزال إرثهم السياسي هو البنية التحتية التي تُستمد منها تقاليد السياسة المصرية، سواء في عهد محمد علي باشا وذريته، أو في عهد النظام الجمهوري القديم منه والجديد.

قول الدكتور جمال حمدان، أن محمد علي باشا هو آخر المماليك العظام، هو قول صحيح جداً، وكذلك قوله، أن جمال عبد الناصر هو أول المماليك الجدد، هو كذلك قول صحيح جداً، فالدولة الحديثة – رغم شكلها الأوروبي، كانت وما زالت نوعاً من المملوكية  الحديثة، سواء المملوكية ذات السيادة في القرون من الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أو المملوكية الخاضعة للسيادة العثمانية في القرون من السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، بحيث يكون كل ما أنجزه قرنان من التحديث، والنقل عن أوروبا هو إضفاء مسحة عصرية على الجوهر، والمضمون المملوكي للعملية السياسية، فالتحديث الذي جرى من مطلع القرن التاسع عشر، نقل مصر من مملوكية خاضعة للسيادة العثمانية إلى مملوكية، تولي وجهها شطر أوروبا والغرب، من مملوكية منيعة حصينة في الداخل إلى مملوكية منكشفة تابعة للخارج.

قبل خمسين عاماً، وحتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، كانت الفكرة السائدة في الكتابات التاريخية الوطنية والاستشراقية، أن القرون الثلاثة من السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، كانت بحراً من ظلام وركود وتخلف، ومن ثم كان يتم إسقاطها من تاريخ مصر، وكانت نقطة البدء فيها هي غزو نابليون 1798م، ثم تولية محمد علي باشا 1805م، ثم على مدى العقود الأخيرة، ارتاد الكثيرون من المؤرخين – المصريين والمستشرقين – ما كان مجهولاً من تاريخ هذه القرون الثلاثة، فإذا هي ليست قرون ظلام ولا ركود ولا تخلف، وإنما فيها من عناصر الفعل التاريخي ما ينبض بالحياة في السياسة والسلطة في الاقتصاد والتجارة في الثقافة والمجتمع.

في أول ماجستير نوقشت في جامعة الإسكندرية في إبريل 1945م، وكانت عن ” تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي باشا “، ذكر المؤرخ الدكتور جمال الدين الشيال 1911 – 1967م، أن القرون الثلاثة التي سبقت محمد علي باشا، عاشت فيها مصر منطوية على نفسها، مُقفلة النوافذ والأبواب، والعلاقات بينها وبين العالم الخارجي – وخاصةً أوروبا – مبتوتة مقطوعة “. انتهى الاقتباس. ولست أزيد جديداً، عندما أقول، إن هذه الرواية رواية الركود في القرون الثلاثة التي سبقت محمد علي باشا، كانت عامة وشائعة وذائعة وسائدة، سواء في الجامعات أو الصحافة أو كافة منابر الفكر والثقافة، هذه الرواية كانت تخدم غرضين: الغرض الأول، تعظيم الدور الذي لعبته الحملة الفرنسية في إيقاظ مصر والمصريين من ركودهم، ونومهم على أنفسهم ثلاثة قرون. ثم الغرض الثاني، تأسيس شرعية لحكم محمد علي باشا وذريته من بعده، شرعية الحداثة وتأسيس الدولة الحديثة والانفتاح على أوروبا.  وكل الأساتذة الكبار – من مصريين وأجانب – الذين رددوا هذه الرواية، لم يجهدوا أنفسهم في تذكر أن في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت الدولة العثمانية – صاحبة السيادة على مصر – لم تزل أقوى قوة في أوروبا؛ حتى فشل حصارها الأخير للعاصمة النمساوية فيينا في العام 1683م ، وإذ نقول: كانت الدولة العثمانية تحاصر النمسا فذلك معناه أنها كانت تحاصر أوروبا ذاتها، فقد كانت الإمبراطورية النمساوية هي قلعة الكاثوليكية الأوروبية في وجه الزحف العثماني، ثم لم يكن قد بان لهم أن في القرن الثامن عشر، كانت مصر في حالة مخاض على كل صعيد، فلم تكن خاملة ولا راكدة ولا متخلفة، وقد أوردت في المقال السابق شهادة نابليون بونابرت في ص 111من الطبعة العربية من مذكراته عن قوة الاقتصاد المصري عند خاتمة القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر، وكيف أن هذه الاقتصاد كان من القوة؛ بحيث يكفي لتمويل عدة جيوش في وقت واحد، الجيش الفرنسي، الجيش الانجليزي، الجيش العثماني، جيوش المماليك، كل هذه الجيوش اجتمعت على أرض مصر في وقت واحد، وكلها كانت تتمول من مصر، وكلها كانت تحصل الضرائب من أماكن سيطرتها؛ سواء في الوجه البحري أو القبلي.

وغير شهادة نابليون، نقرأ شهادة مهمة للمؤرخ الدكتور رؤوف عباس 1939 – 2008 م، وردت في مقدمته لترجمته لكتاب ” ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر ” لمؤلفته المؤرخة دكتورة نيللي حنا، ففي 16 يقول رؤوف عباس ما معناه، أنه لولا أن مصر كان فيها اقتصاد قوي في القرن الثامن عشر، لما استطاع محمد علي باشا تدبير الأموال للقيام؛ بإصلاحاته الكبرى، يقول بالنص: ” كل إصلاحات الباشا تمت بالاعتماد على موارد مصر الاقتصادية وحدها، فمن المعلوم أن محمد علي باشا لم يستدن قرشاً واحداً من مصادر خارجية، بل مول كل هذه الإصلاحات من الموارد المصرية وحدها، وعندما انتهى عهده، ترك الخزانة عامرة بالأموال، التي مكنت حفيده عباس حلمي الأول من تنفيذ مشروع خط السكة الحديد دون استدانة، فأي نوع من الركود ذلك، الذي ينتج اقتصاداً قادراً على تحمل أعباء ذلك كله “. انتهى نص شهادة دكتور رؤوف عباس.

المؤرخ والمستشرق الفرنسي أندريه ريمون 1925 – 2011م، كان أول من فتح الباب؛ لدحض خرافة أن مصر عاشت ثلاثة قرون من السادس عشر حتى الثامن عشر في ركود، تقدم في عام 1972م، برسالة دكتوراه نوقشت وأجيزت في جامعة السوربون، كان موضوعها ” الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر “، ثم صدرت في كتاب عام 1973م، ثم أعيدت طباعة الكتاب في عام 1999م، ثم صدرت ترجمته العربية في عام 2005م، عن المجلس الأعلى للثقافة والمشروع القومي للترجمة، ترجمة دكتور ناصر أحمد إبراهيم، ودكتورة باتسي جمال الدين عباس، بإشراف ومراجعة وتقديم الدكتور رؤوف عباس الذي وصف الكتاب بقوله: ” هذا الكتاب هو المرجع العمدة في تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في القرن الثامن عشر على مدى العقود الثلاثة الماضية “.

أندريه ريمون قالها بكل وضوح ” القول، إن مصر دخلت عالماً مغلقاً تماما، راكداً ركوداً نسبياً، على مدى ثلاثة قرون، هو محض افتراضات، يتعين التصدي لمسلماتها الجامدة، والخاصة بمفاهيم التقدم أو التدهور، والازدهار أو البؤس، التي عادةً ما يتم توظيفها عند توصيف حالة مصر العثمانية “. الاقتباس من مقدمة الطبعة العربية من الكتاب.

هذه الفقرة من أندريه ريمون، كانت فاتحة أعمال أكاديمية متواصلة؛ للتحرر من رواية الركود التاريخي قبل الغزو الفرنسي، وقبل ولاية الباشا، الدكتور رؤوف عباس يصف رحلته الفكرية مع سردية الركود؛ منذ كان طالباً يدرس التاريخ في الجامعة فيقول: في تقديمه لترجمته لكتاب الدكتورة نيللي حنا عن ”  ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر “، يقول: ” أيام الطلبة بالجامعة، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، كنا نسمع أساتذتنا الكبار يرددون في محاضراتهم مقولة، إن مصر وغيرها من البلاد العربية عاشت مرحلة ركود وجمود، وتخلف في كل شيء طوال العصر العثماني، وإذا غادرنا قاعة المحاضرات، وذهبنا إلى المكتبات، وجدنا المراجع العلمية تؤكد المقولة ذاتها، استناداً على ما استقر عليه رأي ثقات المستشرقين، ومع الانبهار بنظرية التحديث، اعتُبر العصر العثماني في مصر مرحلة المجتمع التقليدي، حتى يصبح ما أدخله محمد علي باشا من تغييرات في القرن التاسع عشر تحديثاً “.

ثم يعترف الدكتور رؤوف، بشجاعة ونزاهة علمية شريفة أنه – كمؤرخ – كان ممن روجوا لسردية أو رواية الركود والجمود والتخلف خلال القرون الثلاثة، يقول في ص 14: ” ولا يُخفي صاحب هذا القلم، أنه كان من بين من روجوا لهذه الفكرة، تأثراً بنظرية التحديث تارةً، وبمفهوم مجتمع ما قبل الرأسمالية الماركسي تارةً، ثم بفكرة الاستبداد الشرقي أحياناً، ومفهوم المجتمع الخراجي عند سمير أمين أحياناً أخرى “.

ثم يواصل الاعتراف فيقول: ” وبذلك، ضيعنا ثلاثة قرون كاملةً من تاريخنا، جرياً وراء أفكار نظرية، صدرها لنا من وصفوا تلك القرون الثلاثة، بأنها عصر جمود وركود وتخلف، وكنا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، نطبق تلك النظريات على تاريخنا، أو بعبارة أدق: نصب تاريخنا في قوالبها صباً، ما دمنا قد سلمنا بما غلب على تلك القرون الثلاثة من جمود، وركود وتخلف ثقافي “.انتهى كلام دكتور رؤوف.

جدوى كل ما سبق، من زاوية التاريخ، تتلخص في أمرين: أولهما، –  ما دام أن القرون الثلاثة لم تكن ميتة، ولم تكن مصر فيها قد ماتت، فلا معنى للقول القاطع، أن مصر الحديثة بدأت بالفرنسيين أو بالباشا وسلالته. ثم آخرهما – ما دام أن القرون الثلاثة لم تكن ميتة، ومصر لم تكن قد أدركها الموت، فمعنى ذلك أن تاريخها موصول لم ينقطع، وأن الصلة قائمة بين قرونها الثلاثة حتى نهاية القرن الثامن عشر مع القرنين الأخيرين التاسع عشر والعشرين، القرون الخمسة يسلم بعضها بعضا، تماماً مثل التاريخ الأوروبي، ومثل أي تاريخ آخر ، في الخمسمائة عام الأخيرة . فمثلما يرى الأمريكان تاريخهم وحدة واحدة تبدأ من وصول قوافل المهاجرين من أوروبا إلى القارة في مطالع القرن السادس عشر، ومثلما يفسر الأوروبيون تاريخهم الحديث بظهور الدولة القومية، والإصلاح الديني في مطلع القرن السادس عشر، كذلك فتاريخنا الحديث وحدة واحدة من مطلع القرن السادس عشر حتى يومنا هذا، بدون هذا التواصل التاريخي تبدو تجربتنا التحديثية في القرنين التاسع عشر والعشرين تجربة تائهة في التاريخ بغير جذور، تستمد منها وجودها، تبدو تجربة لقيطة غير ذات آباء شرعيين، تجربة تشكلت من مصادفة نابليون، ثم مصادفة الباشا، رغم أن هذا وذاك كلاهما طارئ، الأول طارئ على تاريخنا، والآخر طارئ على بلدنا.

استرداد القرون الثلاثة إلى قلب تاريخنا الحي معناه، أن تاريخنا موصول، يسلم بعضه بعضا، ويستمد بعضه من بعض، ويبني بعضه على بعض، ويفسر بعضه بعضاً، تاريخ واحد لشعب واحد، باختلافات طبيعية من قرن إلى قرن آخر، حسبما تغيرت في العالم كله طبائع الحياة ذاتها.

عندما قال جمال حمدان، إن محمد علي باشا هو آخر المماليك العظام، وعندما قال، إن جمال عبد الناصر هو أول المماليك الجدد، كان يضع يده على جوهر الدولة المصرية الحديثة في عهد الباشا وذريته من بعده، ثم في عهد الضباط من منتصف القرن العشرين إلى يومنا هذا، وعندما قال، إن تاريخ مصر الحديث يتراوح بين الفرعونية الجديدة والمملوكية الجديدة، فإنه كان يوسع من مجال الرؤية، وفي ظني، أنها ليست فرعونية إذ مجال الاتصال بالفرعونية مقطوع منذ ألفين وخمسمائة عام، وفي ظني هي مملوكية جديدة، إذا مجال الاتصال مفتوح ولصيق، ومباشر بين التراث السياسي والاقتصادي، والاجتماعي في القرنين الأخيرين وما سبقهما من قرون ثلاثة.

وإذا ذكرت محمد علي باشا 1769 – 1849 م، ثم ذكرت جمال عبد الناصر 1918 – 1970م، فيلزمك أن تذكر علي بك الكبير 1728 – 1773م ، كثيرون قبلهم خاضوا لعبة الصراع على السلطة، وكثيرون قبلهم نجحوا في الوصول إلى السلطة، لكن الثلاثة يختلفون عن كل من سواهم في ثلاثة أمور: الأول، أن لديهم غريزة الحكم والسلطة بالفطرة والسليقة الطبيعية، الثاني، أن الثلاثة يجمعون بين العسكرية والسياسة، الأخير، أن الثلاثة من أصحاب المشاريع الكبرى التي لا تتوقف عند سقف الوصول للسلطة، ولا تتوقف عند حدود مصر، وتتطلع إلى دور إقليمي كبير. الظروف خذلت الأول، وساعدت الثاني، والثالث، خذل نفسه في وحدة مع سوريا غير مدروسة، ثم في حرب في اليمن لم تكن غير مصيدة ذهب إليها بقدميه، ثم في حرب 1967م، لم تكن غير قرار خاطئ مثل، قرار حرب 1948م. الأول، هو من شق الطريق للثاني، والثالث، بسط علي بك الكبير نفوذه على البحر الأحمر واليمن والحجاز والشام، وتحالف مع الروس وتحدى السلطنة العثمانية، ومنه عرف الباشا ثم عبد الناصر، أن النفوذ في الإقليم يلزمه سيطرة على مجالها الحيوي من اليمن في الجنوب، حتى الأناضول في الشمال، ما زاده عليهما الباشا وذريته، هو أن المجال الحيوي في الجنوب يمتد ختى منابع النيل.

لكن، رغم ما بينهم من فروق، يظل الرجال الثلاثة نماذج عظيمة للملوكية الجديدة، التي طبعت الدولة الحديثة بخصائصها، وأعطتها ملامحها الجوهرية، وقد وصفها أندريه ريمون في كلمتين: ” النفي والاستبعاد “، هما جوهر سياسة الباشا، وذريته من بعده، ثم جوهر سياسة عبد الناصر والضباط من بعده، وهما من تراث علي بك الكبير صاحب أول مشروع للاستقلال في العصر الحديث، فهو من خير من تجسدت فيهم تقاليد الدولة المصرية الحديثة.

في ص 90 وما بعدها من المجلد الأول من كتابه ” الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر ” يقول أندريه ريمون: ” وقام علي بك حينئذ بعمل سلسلة من النفي والاستبعاد وفق ترتيب منظم لكل خصومه الرئيسيين، فقد ألحق الهزيمة بكل من حسن بك وخليل بك 1767م ثم أعدمهما، واغتال صالح بك في سبتمبر 1768م، ونتيجة لذلك، آثر أمراء آخرون نفي أنفسهم، وتلك هي حالة أحمد بك بوشناق الذي سُمي فيما بعد أحمد باشا الجزار، ودمر أوجاق الإنكشارية – قوة عسكرية كانت تنافس في لعبة السلطة – دمرها بصورة قاطعة، ونفى القادة، وأعدمهم، وصادر مواردهم المالية، ثم فرض علي بك الكبير سلطته على ممثلي الباب العالي في القاهرة، وعزل منهم اثنين على التوالي في عام 1767م، ثم في عام 1769م. ثم اغتصب امتيازات السطان العثماني ذاته، فجعل خطبة الجمعة باسمه، كما ضرب العملات باسمه، ثم لتوطيد حكمه؛ اقتحم ميدان السياسة الخارجية الكبرى ، شن حملةً على الحجاز 1770م، ثم فتح سوريا 1771م “. انتهى الاقتباس.