اضطر أحمد الرفاعي، عامل نظافة بمحل كشري، إلى شراء السجائر “الفرط” (الشراء بالواحدة بدلاً من العلبة)، بعدما أصبح العثور على علبة “كليوباترا بوكس” التي يدخنها منذ 20 عامًا صعب المنال، ويحتاج إلى جولة على الأكشاك والباعة.

تشهد سوق السجائر بمصر حالة من الفوضى، مع نقص كبير بالمعروض من المنتج المحلي، وارتفاع أسعاره؛ لتناهز الماركات المستوردة من الخارج، وزيادة ما بين بعض المحال والأخرى، تصل في بعض الأوقات إلى 20 جنيهًا للعلبة الواحدة، بارتفاع يتعدى 50%.

يوجد ثلاثة شرائح لاستهلاك السجائر بمصر: الأولى الفئة الرخيصة التي يقل سعرها عن 24 جنيهًا، وهي الأكثر انتشارًا، وتعرضت لتعطيش السوق منها أخيرًا، بينما تزيد الفئة الوسطى إلى حدود الـ 35 جنيهًا، والشريحة العليا التي تُقبل على المستورد بمتوسط أسعار 50 جنيهًا فأعلى للعلبة (20 سيجارة).

يقول الرفاعي، إن سعر السجائر المحلية أصبح لا يفرق كثيرًا عن المستورد، وفي ظل حصوله على راتب 1500 جنيه شهريًا، وعجزه عن شراء علبة مستوردة أو التوقف عن التدخين، بات حاليًا يشتري 8 سجائر فرط بـ 20 جنيهًا (السيجارة الواحدة بـ 2.5 جنيهين ونصف)، ويعتمد في توفير الباقي على ما يمنحه إياه الزائرون لمحل عمله أو “عزومات” زملائه من المهن الأعلى راتبا.

يستهلك المصريون 4 مليارات علبة سجائر سنويًّا، بمعدل يومي يزيد على 280 مليون سيجارة، وأنفقوا خلال التسعة أشهر الأولى من العام المالي الحالي (يوليو ـ مارس 2023) 55 مليار جنيه على التدخين. بحسب نتائج أعمال الشركة الشرقية للدخان.

خلال الأسابيع الأخيرة، نشأت سوق سوداء للسجائر مع تخزين الموردين الكبار الآلاف من العبوات، في خطوة استباقية لقرار مرتقب من الشركة الشرقية للدخان “إيسترن كومباني”؛ بزيادة السعر بنحو 3 جنيهات، وهو مبلغ كفيل بتحقيق ثروة في ظل ارتفاع عدد المدخنين المحليين إلى قرابة 18 مليون شخص، بما يعادل 19% من إجمالي السكان من عمر 15 سنة فأكثر.

أحمد الجوهري، محاسب في مصنع صغير، اضطر هو الآخر للبحث عن أرخص بديل مستورد من الخارج؛ لمواجهة النقص المحلي، بجانب شراء شيشة في المنزل، من أجل تقليص التكاليف.

يقول الجوهري، إن هناك ارتباطا تاريخيا مع السجائر الشعبية مثل “البوكس والسوبر وكينج سايز”، والتي تجعل مدخنيها يضطرون لشرائها مهما ارتفعت أسعارها، وحتى لو تساوت مع المستورد في السعر “فالتعود يجعلهم غير مرتاحين للتغيير حتى لو كانت الجودة أعلى”.

يقترح المدخنون زراعة الدخان بمصر التي كان بها تجربة سابقة في الفيوم إبان الحملة الفرنسية، وامتدت لكثير من مدن الصعيد، وانتعشت مع وصول محمد علي باشا، الذي كان تاجرًا للدخان، للحكم.

وتوقفت زراعة التبغ بمصر خلال الاحتلال البريطاني الذي قرر حظر زراعته، وتغريم المخالفين 200 جنيه، عن كل فدان ومصادرة المحصول، من أجل التوسع في القطن وتصديره لبريطانيا، وعادت زراعته مجددًا خلال الخمسينيات، قبل أن تعترض عليه المراكز البحثية الزراعية؛ بدعوى إمكانية نقله الأمراض إلى النباتات الأخرى، واحتياجه لأراض تجور على محاصيل استراتيجية أخرى.

تعطيش السوق.. أرباح سريعة دون مجهود

تظهر حملات جهاز حماية المستهلك وجود تخزين كبير من قبل التجار؛ فالمضبوطات وصلت إلى 18 ألف علبة سجائر متنوعة في ٦ محافظات، وتنوعت تلك المخالفات بين حجب المنتج، أو بيعه بأسعار أعلى من سعرها الرسمي، واستغلال المواطنين.

يقول إبراهيم إمبابي، رئيس الشعبة العامة للدخان، بغرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات، إن بعض أصناف السجائر تباع حالياً بأعلى من سعرها الحقيقي بأرقام تتراوح بين 10 و20 جنيهًا، رغم عدم صدور أي قرار رسمي بزيادتها من قبل الشركة الشرقية للدخان.

تفرض وزارة المالية رسومًا على علب السجائر؛ لصالح تمويل مشروع التأمين الصحي بواقع 25 قرشًا على كل علبة سجائر أجنبية، أو محلية وتزيد كل 3 سنوات، لترتفع أسعار السجائر بشكل دوري حتى عام2027، طبقا لقانون التأمين الصحي الشامل.

بحسب إمبابي، فإن التعديلات الضريبية كانت تضيف لعلبة السجائر 3 جنيهات على أقصى تقدير، لكن تأجيلها تسبب في حالة من البلبلة، وأوجد سوقًا سوداء، وعلى المستهلك استخدام “الباركود” الموجود على كل علبة عبر مسحه، بواسطة الهاتف المحمول والتعرف على سعر العلبة وتاريخ الإنتاج.

‏الباركود ذاته أمر مُستحدث على علبة السجائر، بعدما تم حذف السعر من على العلبة في 2022، وحينها كانت بـ 22 جنيهًا، ووضعت الشركة عبارة “لمعرفة السعر امسح رمز كيو آر” وهي تقنية لا تتوافر في الهواتف القديمة التي يحملها قطاع عريض من مدخني السجائر الشعبية، ولا يعرفها كثير من حملة الهواتف الذكية التي لا يتعدى علاقتهم بها سوى الرد على المكالمات وتصفح “فيسبوك”.

يضم قطاع السجائر في مصر 53 مصنعًا، أغلبيتها تنتج المعسل، بينما تسيطر الشركة الشرقية للدخان على الإنتاج المحلي في السجائر المصنعة التي تجتذب 6% من متوسط دخل الأسر المصرية الشهري بمتوسط 110جنيهات.

يشير الخبير الاقتصادي محمد عبد العال إلى تأثير تلك المشكلة على التضخم، فالعنصر الذي حمل التأثير الأكبر في مجموعاته لشهر يونيو/حزيران، هو ارتفاع مجموعة التبغ والدخان بنسبة 18,7% شهرياً، ما يمثل 40% من أسباب الزيادة في معدل التضخم.

وسجل معدل التضـخم السنوي لإجمالي الجمهورية 36.8% لشهر يونيو/ حزيران 2023، على أساس سنوي مقابل 14.7% للشهر ذاته من العام السابق، بحسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الاثنين الماضي، ليأتي مقاربًا لتوقعات الخبراء الذين قدروا التضخم بنحو 33.6%.

وتستهدف الدولة ضرائب على التبغ والسجائر بقيمة 88.1 مليار جنيه في العام المالي 2023/2024، مقابل 86.4 مليارا في العام المالي السابق 2022/2023، علاوة على ضرائب جمركية على السجائر والتبغ والدخان في مشروع الموازنة الجديدة بقيمة 534.7 مليون جنيه، مقابل 535 مليونا في العام المالي المنتهي 2022/2023.

أوضح عبد العال، أن السبب الجوهري لارتفاع معدل التضخم لشهر يونيو، يرجع لارتفاع أسعار السجائر، ومشتقاتها التي تتمتع بطلب غير مرن؛ فمزاج المصريين يحول دون انخفاض الطلب عليها رغم الارتفاعات المتتالية في أسعارها.