تميزت البلاد التي يزورها أعداد من السياح أضعاف ما يزورن مصر، بأنها حافظت على نموذج في التنمية. ينطلق من احترام ثقافة البلد وتاريخها، ويقدمه في شكل حديث ونظيف، فالسائح يأتي لمشاهدة المناطق السياحية وغير السياحية؛ ليكتشف بلدا وثقافة مختلفة، ولن يسعده كثيرا أن يتنقل في فقاعات معلبة، تفصله عن ثقافة البلد الذي يزوره.

ولأني زرت اليونان لأول مرة في منتصف شهر يونيو الماضي؛ فاكتشفت تقريبا أنها تكرر نفس النموذج الذي ستجده في بلاد سياحية أخرى، مثل تركيا وإسبانيا وغيرها، والتي لا توضع في مصاف الدول الأوربية الأكثر تقدما، وأن السياحة بالنسبة لها تمثل مصدرا رئيسيا لدخلها القومي.

والحقيقة، أن أثينا تشبه جانبا من أحياء القاهرة والإسكندرية، دون تطوير وخاصة الأخيرة، فقد احتفظ اليونانيون بتاريخهم، وشوارعهم ومبانيهم القديمة كما هي، ولم يحدثوا فيها أي هدم أو تطوير زائف، يتصور أن الحوائط الأسمنتية، والأبراج الضخمة هي دليل التقدم، وهي التي تجذب السياح، في حين أن الواقع يقول إن ما يجذب السياح في أثنيا وإسطنبول وبرشلونة والمدن السياحية البرتغالية، هو الأحياء والمباني القديمة، وليس أطول أو أعرض برج.

في أثنيا هناك سوق بلاكا ( Plaka ) الشهير الذي يشبه أسواقا كثيرة من مدن البحر الأبيض المتوسط مع فارق رئيسي، إنهم احتفظوا به كما هو دون أي عبث أو “تطوير” في المعمار، إنما فقط مستوى رائع في النظام والنظافة، وستجد أيضا في اليونان دون غيرها من البلاد الأوروبية مقاهي طاولتها، وكراسيها صورة طبق الأصل من مقاهي الإسكندرية الشعبية، وفوقها ستجد  نفس العمارة التي تجدها عندنا في وسط البلد، وطبعا القهوة التركي يفضل أن تقول عليها قهوة يوناني.

ورغم تشابه الأتراك واليونانيين في أشياء، إلا أنهم يختلفون في أشياء كثيرة أخرى، وأهمها أن اليونان بلد صغيرة، إمبراطورتيها القديمة تاريخ، لا تسعى إلى إحيائه، إنما على عكس تركيا فإمبراطورتيها العثمانية “تاريخ حاضر” حتى اللحظة.

في اليونان الأسعار أقل بكثير من العواصم الأوربية، فقد استقليت سيارة أجرة من وسط المدينة إلى معلم المدينة الأشهر “الأكروبول” فعمل العداد “4 يوروهات ونصف” وهو سعر غير أوروبي بالمرة، ودفعت 7 يوروهات بإرادتي الحرة، وحين عدت استقليت تاكسيا آخر فعمل العداد نفس القيمة فأعطيته 5 يوروهات، ولكن السائق طلب بلطف 7 يوروهات؛ فدفعتها متفهما الطريقة المصرية اليونانية في التعامل مع سائقي التاكسي التي جزء من قواعدها “البقشيش الحميد”.

اليونان بلد روحها قريبة لمصر، فلا زلت حتى الآن تجد من يقول لك، إن أهله عاشوا في الإسكندرية، وقابلت سيدة يونانية أستاذة تاريخ، تجاوزت الخامسة والسبعين من عمرها، وكلمتني عن “أيامها الحلوة” في مدرسة الإبراهيمية في الإسكندرية التي غادرتها في الثالثة عشرة من عمرها، وعادت لمصر مؤخرا، وحزنت على ما أصابها من تدهور، وتكلمت كأنها مصرية.

نموذج اليونان في “التنمية السياحية” قائم على احترام تراث البلد، وثقافته ومبانيه القديمة، والعمل على تجديدها دون أي تشويه، وخلق بيئة محيطة تقبل السائح، وتتفاعل معه، وهو أمر لن يأتي إلا بتطبيق القانون على الجميع، واستثمار الدولة في البشر قبل الحجر.

ولذا علينا ألا نندهش أن بلدا مثل اليونان عدد سكانه 11 مليون نسمة، زارته في 2019 قبل كورونا ثلاثة أضعاف هذا العدد أي 33 مليون سائح، ويتوقع أن يزداد هذا العام، في حين أن مصر تمتلك حوالي ثلث آثار وكنوز العالم، ويزورها فقط 11 مليون سائح، وكثير منهم شكوا من قيود حكومية أكثر من المضايقات الشعبية.

في اليونان، لم يبنوا “متحف كبير” يكلف ملايين الدولارات، إنما استثمروا في الأماكن المحيطة بالمواقع الأثرية، وطوروها بمعنى التجديد والنظافة فقط، وليس الهدم وبناء الكباري، أما في مصر فقد بُني متحف ضخم عند سفح الأهرام، وتركنا الأماكن المحيطة بالأهرام كما هي تعاني من نفس المشاكل ومن نفس طريقة التعامل المسيئة مع السياح، ودون إعطاء أي أولوية للاستثمار في البشر.

مفهوم التنمية السياحية في مصر عكس ما قدمته الدول التي تمتلك تاريخا عريقا، لأنه يقوم إما على عدم الاهتمام بالقديم أو هدمه، وتصور أن السياحة ستأتي من أجل رؤية مبان ضخمة في العاصمة الإدارية، أو في التجمع الخامس أو أحياء القاهرة الجديدة، في حين أن سحر القاهرة كعاصمة تمتلك كل المواصفات؛ لتصبح مقصدا سياحيا عالميا يوجد في  قاهرة المعز الفاطمية، والقاهرة الخديوية، ومعظم المباني التي شيدت في بدايات القرن الماضي في أحياء مثل الزمالك، وجاردن سيتي ومصر الجديدة وشبرا وباب الشعرية والحلمية والعباسية والعتبة وغيرها، ويمارس بحقها تدمير متكرر، يقضي على تاريخها ورونقها.

المباني الجديدة في مصر مهما أنفق عليها من مليارات؛ فهي لن تنافس دبي من حيث الإمكانات والقدرة على الإبهار، لأنها ببساطة مدينة لا تمتلك تراثا معماريا قديما وكبيرا، كما أنها تمتلك الإمكانات المادية التي تجعلها قادرة على بناء مبان شديدة الحداثة، وعليها طلب في سوق المنافسة السياحية والتجارية.

التنمية الثقافية والسياحية في مصر، يجب أن تنطلق من قناعة مطلقة بضرورة الحفاظ على القديم من أحياء ومبان، فمقبرة تاريخية واحدة في السيدة عائشة أهم من مائة كوبري ومحور، كما أن وسط البلد (القاهرة الخديوية) أجمل بكثير من نظيره في مدن كبري في العالم، وأن المطلوب الحفاظ عليه، وتجديده وتنظيفه مثل باقي المناطق التاريخية والأثرية.

أثينا مثل روما ومدريد واسطنبول وباريس، انطلقوا من الحفاظ على القديم، أما نحن فنتفنن في هدمه وتخريبه؛ لصالح جديد باهت وزائف، وأحيانا كثيرة قبيحا، ولا يمت لمفاهيم التنمية الثقافية والسياحية بصلة.