أطلق مجموعة من السياسيين مساء ٢٥ يونيو الماضي، “التيار الحر “، وهو تحالف يضم مجموعة من الأحزاب الليبرالية، والشخصيات العامة، وعددا من رجال الأعمال. يستهدف -من منظور ليبرالي- تقديم رؤى، وحلولا اقتصادية، وسياسية للأزمات التي تشهدها مصر.

وبرغم ما يبدو من عجلة في تدشينه التي سبقت عيد الأضحى بأيام؛ إلا أن توقيت الإعلان مهم: فهو يسبق الانتخابات الرئاسية بستة أشهر تقريبا، ويحاول أن يستفيد من بعض ما يبدو من استعادة للمجال السياسي في مصر، أو ما أطلقت عليه في مقال سابق  “ربيع القاهرة المعطل”.

،ويمكن أن نضيف: الأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر الآن، والصيغة السياسية التي أنتجتها من انفراد الرئيس بتقرير أولويات الإنفاق العام، وضعف المؤسسات في مناقشة ورقابة هذه الأولويات، وتمدد دور الأجهزة التي يطلق عليها سيادية في الاقتصاد، مع غياب أية مشاركة شعبية حقيقية …إلخ.

أهمية الإعلان عن تدشين التيار الحر -الذي لا يزال على ما يبدو مبادرة لم تكتمل- هو أنه جزء من جهود كثيرة، نشهدها تهدف إلى استعادة السياسة إلى بر مصر بعد غياب لها لعقد من السنين تقريبا، ولا أدري إن كان أصحابها قد اختاروا التوقيت مصادفة، أم عامدين. وافق الإعلان مرور عشرة أعوام على أحداث ٣٠ يونيو و ٣ يوليو ٢٠١٣.

عانت السياسة المعارضة في مصر من أمراض خمسة:

١- ضعف التنظيم باستثناء التنظيمات الإسلامية.

٢- غلبة الاحتجاج على تقديم بدائل لسياسات الحكم وإدارة الدولة. وفي أحيان كثيرة تمارس السياسة من قبيل إرضاء الضمير.

٣- تشرذم وانقسام واستقطاب بين التيارات السياسية والفكرية وداخلها.

٤- توريط القضاء في الفصل في المنازعات التي هي في جوهرها من طبيعة سياسية، والتي يجب أن تحسم في المؤسسات السياسية لا ساحات المحاكم. أدي هذا إلى تسييس القضاء من السلطة والمعارضة على السواء.

٥- غلبة سياسات الهوية أو السياسات الثقافية على السياسة الاجتماعية؛ ونعني بها أن السياسة تحولت إلى معارك ثقافية بين الفرقاء، وخاصة بين الإسلاميين والعلمانيين مع غياب شبه كامل -إلا من لحظات قليلة للانحيازات الطبقية الواضحة، وهو ما أطلق عليه هشام سلام -أستاذ العلوم السياسية المتميز بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة: “سياسة بلا طبقات Classless Politics” -وهو ما عنون به كتابه.  أدى ظهور سياسات الهوية، والحروب الثقافية إلى تهميش أجندات إعادة التوزيع المرتبطة عادةً بالسياسات الاجتماعية، والاقتصادية أو بالاقتصاد السياسي لنظام ما.

سياسات الهوية هي اختصار لموقف المرء من علاقة الدين بالمجال العام، ودوره في تحديد هوية الدولة وسياساتها، في حين أن التوزيع هو اختصار لموقف المرء حول كيف ينبغي هيكلة الاقتصاد الوطني، والسياسات الاجتماعية؛ لتحقيق العدالة التوزيعية.

لن أناقش في هذا المقال، لماذا تصاعدت سياسات الهوية على حساب السياسات التوزيعية؟ وأثر ذلك على المجال السياسي المصري، وهل يمكن أن تمتزج السياستان معا؟-كما نشهد في ظاهرة اليمين الأوربي والأمريكي، وأثر غياب الإسلاميين عن الساحة السياسية المصرية في إعادة رسم العلاقة بين السياستين، وأخيرا وليس آخرا، تأثير حقبة الربيع العربي على السياستين من منظور الجماهير العربية، وليس نخبتها السياسية، وما علاقة ذلك بتصاعد سياسات الهوية عالميا علي السياسة في المنطقة -كما يجري في الهند والكيان الصهيوني الآن؟

أسئلة كثيرة تستحق المتابعة، لكن ما يمكن أن نشير إليه بخصوص التيار الحر ملاحظات ثلاث:

الأولى: هناك وعي غير مكتمل من التيار الحر؛ بأهمية الانحياز الاجتماعي لفئة محددة، يسعى للتعبير عن مصالحها، وهو القطاع الخاص الذي يجعله المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي، ويصبح المطلوب هو استعادة دوره القيادي مرة أخرى، بما يتطلبه ذلك من إعادة صياغة دور الدولة، ومؤسساتها لتلعب دور المنظم لا المنتج أو المتدخل.

وعت الوثيقة، بأن الجذر الأعمق للممارسة السياسة هي في الاقتصاد، وجعلت من إصلاحه وفق المنظور الليبرالي السبيل للإصلاح السياسي.

هدف التحالف النهائي أن يكون “الاقتصاد أداة رفاه للشعب، وليس رهينة للحاكم، فلا مناص من إنهاء احتكار الثروة الاقتصادية للبلاد من أيادي الحاكم والطبقة الحاكمة”، وهذا يتطلب وضع “خارطة طريق؛ لتحرير المسار الاقتصادي، من كل الأدران التي التصقت به منذ بدايات السيطرة المركزية عليه، ليعود حرا كما كان قبل حملة التأميمات [١٩٦١]، وذلك بعمل وإنفاذ التشريعات اللازمة واتخاذ الخطوات الحقيقية؛ ليصبح متسعا للجميع بدءا من الشركات المساهمة، وصولا إلى المشاريع متناهية الصغر”.

بدون هذه الخطوات “تصير شعارات المطالبة بالديمقراطية مجرد كلمات عاجزة ومعلقة في الهواء” -وفق الوثيقة التي تربط بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي:  “كما نؤمن بالتوازي أن الإصلاح السياسي والدستوري هو الأساس، ولا إصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي. يفرض الحكم الصالح بمؤسساته، كما يعرفها العالم المتمدن …”.

ميز التيار الحر نفسه في انحيازاته الطبقية، وإدراكه لدور الدولة عن الحركة المدنية التي تضم في مكوناتها تيارات قومية، ويسارية. تختلف معه في انحيازاته تلك، وتنص على دور تدخلي أكبر للدولة في الاقتصاد. وبرغم هذا التمايز الاجتماعي الاقتصادي عن الحركة المدنية، إلا أنه اعتبرها تحالفا، يمكن التنسيق معه في القضايا السياسية.

الثانية: عدم اكتمال وعي التيار الحر بالسياسة الاجتماعية أو الطبقية، ويتأتى ذلك من زاويتين:

١- التعامل مع القطاع الخاص،، وكأن مصالح فئاته المتعددة واحد.

الرأسمالية المصرية أو ما أطلق عليه عمرو عدلي -أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- الرأسمالية المشطورة،  يتوزع بين قطاع خاص كبير، ويتمثل في عدد محدود من الشركات العائلية، والمساهمة التي لا تضم إلا أعدادا محدودة من قوة العمل، في مقابل شريحة متسعة من الورش ومحلات البقالة والمزارعين الصغار وتحوي ٦٥٪؜ من قوة العمل المصرية. يلاحظ غياب الوسط بين المكونين، مما أدي إلى فشل السوق الرأسمالي -على حد قول عدلي.

تتمتع الرأسمالية الكبيرة بالوصول إلى الائتمان، والحصول على الأراضي -أهم مورد تملكه الدولة- وعلاقات ممتدة داخل جهاز الدولة، وشبكات الامتياز الدولية والإقليمية، بخلاف الرأسمالية الصغيرة التي لم ولا تتمتع بهذه الامتيازات، ولذا لم تستطع النمو؛ لتكون متوسطة أو كبيرة. تعاني الرأسمالية الصغيرة من غياب التنظيم بخلاف الكبيرة، مما يجعل يحد من قدرتها في التأثير على السياسات العامة.

ظلت سياسات الجمهورية الجديدة محافظة على نهج مبارك (١٩٨١-٢٠١١) في العقد الأخير من حكمه الذي شهد تصاعد دور لجنة السياسات بقيادة جمال مبارك. قامت الجمهورية الجديدة بدمج قطاعات منتقاة من الرأسمالية الكبيرة في مشاريعها الاقتصادية، وهو ما ظهر جليا في ملمحين: الأول تشكيل المجالس النيابية التي احتل فيها رجال الأعمال نسبة الربع تقريبا، والثاني طبيعة الشركات التي قامت، وتقوم بتنفيذ المشروعات الكبرى، والبنية الاساسية. تمت المحافظة على عدد محدود من الشركات الكبرى التي نشأ بجوارها عدد آخر من الكيانات، ولكنها في النهاية كانت تعبير عن شبكات الامتياز الجديدة المرتبطة، بما يطلق عليه المؤسسات السيادية.

٢- ولنتقدم بالنقاش خطوة ونتساءل: هل الرأسمالية الكبيرة من مصلحتها أن تدعم تيارا معارضا كالتيار الحر في مطالبه الاقتصادية التي سيكون لها انعكاس على المسار السياسي بإصلاحه ديموقراطيا؟

بعبارة أخرى؛ هل يمكن لهذا التيار أن يعبء القطاع الخاص الكبير وراء مطالبه؛ بالجمع بين الإصلاحين الاقتصادي والسياسي؟ أم يمكن أن يسود الفصل بين الاقتصادي وبين السياسي -كما يجري في الخليج بجوارنا أو كما جرى في خبرة مبارك؟

بالطبع، يظل ذلك رهنا بقدرة الدولة على توسيع تحالف الحكم؛ ليضم قطاعات أوسع من الرأسمالية الكبيرة، بما يتطلبه ذلك من خروج منظم أو غير منظم من الاقتصاد، وهو ما يبدو حتى الآن عسيرا؛ لأنه يعني في النهاية إعادة صياغة تحالف الحكم وموقع المؤسسات السيادية فيه.

الملاحظة الثالثة: ما هو الفضاء الخطابي للتيار الحر أو بعبارة أخرى: كيف يجري إعادة هيكلة المجال السياسي في مصر الآن خطابيا؟

أربع ظواهر متداخلة، وإن بدت ألا رابط بينها:

١-قطاع كبير من المصريين تسيطر عليه مفردات التضخم، وارتفاع الأسعار وسعر صرف الدولار، والحفاظ على مدخراته سواء بشراء الذهب أو شهادات البنوك …إلخ

٢-الجمهورية الجديدة التي وإن أدركت أولويات المصريين؛ إلا لأأنها لا تزال في خطابها حبيسة لحظة تأسيسها التي مضى عليها عشرة سنين بحديثها الدائب الدائم عن الحفاظ على هوية الدولة المصرية. يقول الرئيس في كلمته الأخيرة: بمناسبة ٣٠ يونيو:”وكان الـ 30 من يونيو عنوانًا؛ لإعادة تأكيد وحدة الوطن، تحت هويته المصرية الجامعة التي لا تفرق، والشاملة للشعب كله دون تمييز أو انقسام.”

يبدو أن الجمهورية الجديدة تسير على خطى أسلافها باستغلال قضايا الهوية الوطنية؛ لتجديد شرعيتها، وحشد وتعبئة المصريين خلفها، ومحاصرة خصومها السياسيين.

يمتزج هذا الخطاب الهوياتي بحديث عن الانجازات التي تحققت، لكن دون بيان مدى تأثير ذلك على مستوى معيشة المواطنين في مفارقة واضحة بين أولويات الدولة واحتياجات المصريين.

بعبارة أكثر وضوحا: إن الجمهورية الجديدة تزاحم الفضاء الخطابي للمصريين بأجندة هوياتية، تستند إلى ضرورة الحفاظ على الدولة المصرية.

٣- ساعد غياب الإسلاميين عن ساحة الفعل السياسي عن تراجع مفردات، وأولويات سياسات الهوية لصالح خطاب احتجاجي، يقوم على مناهضة النظام القائم، ولكن وفق أسس سياسية. قد تبرز بعض مفردات سياسات الهوية في خطابهم، لكنه يظل من قبيل المكايدة السياسية للنظام القائم وفي إطار معارضته.

٤- لا يزال قطاع من النخبة المدنية غارقا في خطابات الهوية؛ مكايدة للإسلاميين، وفي مقدمتهم الإخوان، واستمرارا لشرعية دوره في المجال العام.

أظن أن التيار الحر من خلال وثيقته، يدرك أن السياسة في مصر اليوم، تقوم من أجل؛ كسر احتكار السلطة والثروة -على حد قول جميلة إسماعيل -رئيس حزب الدستور في حفل تدشين التيار.

أنا أدرك أن بعض مكونات ورموز التيار الحر، تريد أن تصرف جزءا من جهدها في استعادة خطابات الهوية التي سادت لعقود؛ لأسباب ليس مجال التفصيل فيها هنا، لكن الوثيقة التأسيسية قد انتصرت في النهاية للتوجه الاقتصادي الاجتماعي على حساب خطابات الهوية، حين لم تنص على الفصل بين الدين والدولة -كما صرح بذلك بعض رموزه.

أظن أن هذا توجه محمود، وإن سيطر عليه الاعتبارات البرجماتية من جهة التخوف من رفض قطاع من المصريين لهذا الفصل.

من وجهة نظري لم يعد الأمر هو الفصل بين الاثنين، ولكن إعادة تنظيم العلاقة بينهما؛ فتجارب الدول جميعا، تقوم على علاقة ما تصل بين الاثنين بغض النظر عن حدوده، ومساحات التداخل بينهما، وهو ما يستدعي منا إعادة تنظيم العلاقة بينهما في كل المجالات. هل يمكن أن يمثل ذلك مدخلا جديدا للتيار الحر، يفكر فيه في هذه المسألة؟ وإن كنت أرى، أنها ليست من واجب الوقت الآن.

الرأي عندي: أن ما يحكم السياسة في مصر اليوم، هو المسألة الديموقراطية الممتزجة بسياسات توزيع عادلة، ومن يصرفها عن ذلك نحو قضايا أخرى من قبيل سياسات الهوية فهو في نظري آثم آثم.

تبقى نقطة أخيرة، ليست بالوضوح الكافي لدى أصحاب التيار الحر. صرحت بعض رموز هذا التيار، بأنهم يدركون أهمية أخذ اعتبارات بعض الفئات الاجتماعية مثل العمال، والفلاحين في إطار التوجه العام لليبرالية الاقتصادية التي ينطلقون منها، هو تصريح من قبيل “البر والعتب” -كما يقول المصريون: الأمر غامض وغير محدد، كما أن مصالح القطاع الخاص، قد تكون في منافاة مع مصالح فئات أخرى، ولا ضير لمن يتصدى للعمل السياسي أن ينحاز لفئة ما. يعبر عن مصالحها، ويترك للقوى السياسية الأخرى أن تعبر عن فئات أخرى. السياسة في النهاية حصيلة تدافع القوى؛ لتحقيق الصالح العام.