مرفق القضاة أو السلطة القضائية، تعد من أهم السلطات في حياة المواطنين، قد لا يشعر المواطن بأثر السلطة التشريعية، إلا حينما يكون في محك قضائي أو في حالة نزاع، أيا ما كان نوعه (إداري – جنائي – مدني – شرعي)، وهو الأمر الذي يجعله في حالة من الترقب، لما تمر به حالته القضائية، ساعياً بذلك للحصول على الترضية القضائية المناسبة، أولاً: للنزاع القضائي بشكل مرض، وبما يتفق مع تحقيق العدالة والمحاكمة المنصفة الناجزة في وقت لا يكون ذو كلفة على الحق المتنازع عليه، أو مؤثراً على الحالة القضائية ذاتها.

من هنا، كان على القضاة عبء كبير في تحقيق متطلبات العدالة، وسرعة الفصل في المنازعات المعروضة عليهم، وكلما ازدادت درجة العلم لدى القضاة، ازداد يقينهم بقيمة العدالة، وهو الأمر الذي يشيع الثقة ما بين المتقاضين في مرفق القضاء، ما يعود بالنفع العام لصالح سلطان الدولة بأكملها.

وإذ إن النظام القضائي المصري يقوم على مبدأ تعيين الخريجين الجدد، وفق حيثيات وشروط ليس مجالها هذا الحديث، وذلك على الرغم من وجود نصوص قانونية، تتيح فرصة التعيين لذوي الخبرات من المحامين أو أساتذة الجامعات، وهذا ما لا نرى له صدى في الحياة الواقعية إلا النذر اليسير، وهو ما حدث في مرات معدودة بخصوص التعيينات في المحكمة الدستورية العليا حديثاً.

لكن ما نهدف له هو كيفية أن يكون لدينا قضاة متخصصون في مجالات محددة بعينها، لا يتم نقلهم أو ندبهم للعمل خارج ذلك التخصص، فعلى الرغم من وجود نص المادة الثانية عشر من قانون السلطة القضائية، والتي تنص على أنه: يجوز تخصص القاضي بعد مضي أربع سنوات على الأقل من تعيينه في وظيفته، ويجب أن يتبع نظام التخصص بالنسبة لمن يكون من القضاة قد مضى على تعيينه ثماني سنوات. لكن من الناحية الواقعية لا يتم ذلك على المستوى العام إلا نادراً.

وإذ أنه مع تشعب سبل الحياة، خصوصاً في مجال المعاملات، وهو الأمر الذي أنتج تشريعات مستحدثة، تتناسب مع وجود تلك التعاملات، كما أنه مع تطور المعاملات، واستحداث سبل جديدة، وكذلك وجود نظم مختلفة، وغير ذلك من الأسباب التي تؤثر يقيناً على العمل القضائي، كانت الحاجة الملحة إلى التخصص في أنواع القضاة، كما هو الحال في أنواع المحاكم، فلدينا من المحاكم ما يخص كل المنازعات من منازعات إدارية، ومدنية، وجنائية، وشريعة، على جانب المحاكم الخاصة المستحدثة مثل المحاكم الاقتصادية، أو القضاء الخاص، كمحاكم الأطفال أو المحاكم العسكرية، فإن ذلك يدعو بلا شك لتخصص القضاة بشكل جاد في نوع مستقل من هذه الأنواع، ولنحتذي في ذلك بالتخصص الموجود في القضاء الإداري، إذ من الوهلة الأولى لتعيين الخريجين في منظومة القضاء الإداري، لا يحيدون عن هذا التخصص مع اختلاف أنواع الدوائر بداخل هذه المنظومة ذاتها، وإن كنت أرى أنه يجب كذلك إعادة النظر في تشكيلات الدوائر بداخل منظومة القضاء الإداري؛ بحثاً عن مزيد من التخصص.

ولكن، لماذا لا يحذو القضاء العادي نفس السبيل، فبعد أن يستقر تعيين الخريج في المنظومة القضائية، يجب بشكل يقيني، أن يتم تدريبه على تخصص واحد يتم في تنمية مهارته وعلمه، وأن يكون على القاضي نفسه؛ زيادة متحصلاته العلمية في ذلك التخصص الذي اختاره، فلو كان اختيار القاضي الجديد المجال الجنائي؛ وجب عليه الحصول على دراسات عليا متخصصة في ذلك النوع من القضاء، أو يكون هناك ربط ما بين ترقيته، وبين حصوله على دراسات عليا فيما تخصص فيه، حيث لا يخفى على أحد من وجود رابط ما بين تأهيل القضاة، وتزويدهم بالمعرفة والمهارات المُتطورة؛ لضمان أداء قضائي سريع، وإصدار أحكام قضائية سليمة ومُتناسقة، مما يُحقق عدالة أكبر للمُتخاصمين.

إذ يشهد العصر الحديث تطورا سريعا، ومتلاحقا في كافة فروع العلوم المختلفة، ومناحيه المتعددة، ولا شك أن إعمال مبدأ التخصيص في مختلف مجالات العلم والعمل بات مطلبا ملحا، يفرضه العصر والقانون؛ باعتباره أحد فروع العلوم الإنسانية،  تعددت فروعه، وكثرت تشعباته؛ لمعالجة ما استجد من أمور؛ باعتباره انعكاساً لكل التصرفات والأفعال المجتمعية التي تؤكد مدى تشابك العلاقات، وما يستحدث من معاملات؛ ليقوم بتنظيمها. ولا شك أن هذا التعدد في فروع القانون المختلفة، وكثرة تشعباته، يثير تساؤلا حول مدى تأثير هذا التعدد على سرعة الفصل في القضايا، ودقة تطبيق القانون، ومن هنا تأتي أهمية موضوع تخصيص القضاة؛ باعتبار أن نظام تخصيص القضاء وتخصص القضاء، يعد أحد الوسائل الفنية التي يمكن عن طريقها تحقيق عدالة ناجزة وسريعة، فعلى سبيل المثال في قضاء الأطفال، فيجب أن يكون القاضي ليس ملماً فقط بالعلوم القانونية اللازمة، بل يجب أيضا أن يكون متشبعاً بكل ما يلزم للفصل في قضايا نزاعات الأطفال الذين في حالة تماس مع القانون ( متهمون – مجني عليهم )، من علوم نفسية واجتماعية تدعمه للحكم بطريقة تقويمية للطفل أو على الطفل.

ومما يذكره التاريخ، أنه قد سأل رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” أحد مستشاريه عن حال القضاء إبان الحرب العالمية الثانية بعد أن دمرت البنى التحتية، ووصل الاقتصاد البريطاني إلى الحضيض…فأجابوه، أنه بخير فقال مقولته الشهيرة: “ما دام أن القضاء والعدالة في البلاد بخير فكل البلاد بخير”. وكما يقول ابن خلدون: “العدل أساس العمران والظلم مؤذن بالخراب”. فالعدل هو المنطلق لقيام الدولة وعمرانها، ولا يأتي العمران إلا باستقامة العدل؛ برفع الظلم عن الناس حتى يطمئنوا على أنفسهم وحقوقهم وممتلكاتهم.

وإن كنت أجزم بالقول، أن لدينا منذ القدم نماذج تاريخية من القضاة الذين كان لهم من الباع، ما تؤرخ له الكتب والمدونات، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة ما ندعو إليه من التخصص القضائي منذ البداية، حتى ولو كان ذلك منذ البدايات في داخل أبنية كليات الحقوق، بحيث لا يتم تعيين أحد الخريجين في السلك القضائي إلا بعد الحصول على دراسات محددة ومتخصصة، وأنه من يتم تعيينه، يجب ألا يُترك على حالة تعيينه، بل يجب رعايته والعناية به من الناحية العلمية، وتخصيص نماذج للعمل في كل أفرع القضاء، وهو الأمر الذي سيكون له عظيم الأثر على المنظومة القضائية كاملة، وعلى سرعة الفصل في القضايا، وعلى إرساء العدالة والرضا بين المتقاضين.