أربعة عشر يومًا بالضبط تفصلنا عن التاريخ الموعود؛ لمغادرة الرجل لمنصبه الرفيع الذي شَغَلَهُ لثلاثين عامًا، تبخرت خلالها أموال المودعين بالبنوك، والتي قدرها بعض الاقتصاديين بنحو 185 مليار دولار، وانهارت في نهايتها قيمة العملة المحلية؛ ليلامس سعر الدولار مستوى المائة ألف ليرة لبنانية. أربعة عشر يومًا سيغادر بعدها “رياض سلامة” حاكم مصرف لبنان المركزي منصبه دون تسميةِ بديلٍ له، بعد ما تم إلغاء مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من البوليس الدولي، وإن ظلت الاتهامات الموجهة إليه قائمة. كان الفرقاء السياسيون بلبنان يراهنون، كما أشرت في مقال سابق على عامِل الزمن، لكن رهانهم لم يُصِبه التوفيق، إذ داهمهم الوقت فلم يتم لهم المُراد من رب العباد.

كان رهانهم مبنيا على أن إمكانات الاتفاق على تسمية رئيس جديد للجمهورية، قبل أن يحل ميعاد ترك رياض سلامة لمنصبه، هي إمكانات مُحتَمَلةُ الحسم؛ ليكون التعاطي مع ملف تعيين حاكم المصرف المركزي الجديد شأنًا رئاسيًا. امتنع الجميع عن تحمل مسئوليةِ تسميةِ من يحل محل رياض سلامة؛ بحُجَة أن كل السلطات بلبنان الآن مؤقتة؛ لتسيير الأعمال في غياب رئيس للجمهورية، يكتمل بانتخابه مثلث الرئاسات (رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء)، لكن حقيقة ما يُتدَاول في الأوساط السياسية بلبنان عن هذا الامتناع، كانت مختلفة تمامًا وسط أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، لم يشهد لبنان مثيلًا لها منذ الاستقلال في 1943.

على الرغم من أن قانون النقد والتسليف اللبناني ينص على أن يتولى النائب الأول لحاكم مصرف لبنان المنصب الرفيع في حالة شغوره، أي أن المسألة لا تُشَكِل -من الناحية القانونية- أزمة بالمرة، إلا أن الطائفية البغيضة التي تقف دومًا حجر عثرة أمام أي إصلاح في لبنان، حالت -من الناحية السياسية- دون إنفاذ القانون تاركة لبنان يقف بأطراف أصابع قدميه على حافة الهاوية حتى اللحظة الأخيرة. لرياض سلامة المسيحي الماروني أربعة نواب، أولهم هو الدكتور وسيم منصوري وهو من الطائفة الشيعية، فما كان من نبيه بري زعيم حركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل)، والرئيس السرمدي لمجلس النواب، إلا أن رَفَض تولية منصوري حتى لا تتحمل الطائفة الشيعية مسئولية التعامل مع الكارثة الاقتصادية التي يعلم جميع الساسة والاقتصاديين بلبنان أنها ستضرب بقوة، ودون رحمة ما لم تحدث معجزة من السماء، تأتِي بمالٍ وفير من الخارج الذي ما زال -بدمٍ باردٍ- يناور ويدرس ويفاوض؛ للتأثير في اختيار رئيس الجمهورية الجديد، بل ويساوم ويضع معايير لاختيار حاكم المصرف المركزي. ما زالت المفاوضات جاريةً تتدخل فيها تارة دوروثي شيا السفيرة الأمريكية ببيروت، وصاحبة الخبرة الطويلة في شؤون الشرق الأوسط، وتارة أخرى جان إيف لودريان وزير خارجية فرنسا الأسبق، ومبعوثها الخاص للبنان، بالإضافة طبعا إلى اللاعبَين الإقليميَين السعودية وإيران. يتردد في الأوساط الاقتصادية بلبنان، أن زيارةً كان وسيم منصوري نائب الحاكم الأول، قد قام بها مؤخرًا لأمريكا لاستطلاع الآفاق لم تأت إلا بمزيد من الارتياب في علاقته بحزب الله بحُكم كونه شيعيًا، إذ ربما يدفع أمر تعيينه خلفًا لرياض سلامة بالأزمة الاقتصادية لمستويات بالغة الخطورة، إن أوعزت الإدارة الأمريكية للبنوك المُراسِلة بعدم التعامل مع لبنان على غرار ما يحدث مع فنزويلا وإيران. من ناحية أخرى، يرفض نجيب ميقاتي رئيس مجلس الوزراء، وهو من الطائفة السُنية تولية منصوري أو حتى تعيين حاكم آخر للمصرف المركزي، رغم أن هذا الأمر يقع ضمن صلاحياته نكايةً وكيدًا بالجهات الرافضة له سياسيًا.

من ناحية ثالثة، أصدر نواب حاكم المصرف المركزي الأربعة وعلى رأسهم وسيم منصوري بيانًا في 6 يوليو 2023؛ لوحوا فيه باستقالتهم دافعين بالأزمة إلى أقصى مداها، إذ جاء في البيان الذي لم يوجهونه إلى طرف، أو أطراف بعينها ما نصه: “مع اقتراب انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي في 31 يوليو/ تموز 2023، نرى من واجبنا التشديد على ضرورة تعيين حاكم عملًا بالمادة 18 من قانون النقد، والتسليف في أقرب وقت، وإلا سنضطر إلى اتخاذ الإجراء الذي نراه مناسبًا للمصلحة العامة”. أي أن الرئاستين القائمتين حاليًا، رئاسة مجلس النواب، ورئاسة مجلس الوزراء، لم تتخذا موقفًا إيجابيًا من تلك القضية ليأتي نواب حاكم مصرف لبنان المركزي؛ فيزيدوا الصفيح الساخن الذي يقف عليه لبنان اشتعالًا بمطالبتهم بضرورة تعيين حاكم جديد في رفض مُبَطَنٍ من جانبهم، لتولي أحدهم المنصب الرفيع.

الآن وقد اقترب للناس أجلهُم، إذ لم يعُد مُتبقيًا من الزمن سوى أربعة عشر يومًا فقط، قد يضطر الفرقاء اللبنانيون بسبب الفراغ الحادث في أهم منصبين مسيحيين، وهما رئاسة السلطة السياسية، ورئاسة السلطة النقدية، وبعد التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية إلى اختيارٍ توافقيٍ شديد المرارة، يعتمدون بموجبه التمديد لرياض سلامة بالإبقاء عليه حاكمًا للمصرف المركزي لفترة مؤقتة، ربما لا تتجاوز اثني عشر شهرًا، تكون خلالها أزمة تسمية رئيس الجمهورية قد حُسِمت، خصوصًا وهو (التمديد) أمرٌ جائزٌ قانونًا، باعتبار أن مناصب حاكم المصرف المركزي، ونوابه الأربعة هي مناصب تعاقدية، يمكن تمديدها لا مناصب وظيفية ثابتة، فيما يُعَد استمرارًا لأسلوب الرهان على عامِل الزمن، وإن كان محسوبًا نوعًا ما في هذه المرة، إلا إن أتتنا الأقدار بمفاجآتٍ ليست غريبة عن السياسة اللبنانية.