يمكننا وصف أي نشاط، بأنه اقتصادي حال توافر العناصر الأساسية الآتية: الأرض، العمل، رأس المال، والإدارة أو المشروع؛ انطلاقا من مفهوم أن الاقتصاد هو الاستغلال الأمثل، لكل ما يمتلكه مجتمع ما من موارد محدودة بطبيعتها، وذلك من خلال مجموعة من الأنشطة، والعمليات التي تعتمد على العناصر الرئيسية للاقتصاد السابق ذكرها، مضافا إليها حديثا المعارف والتقنيات.
و يمكن تعريف الاقتصاد، بأنه ذلك العلم المعني بدراسة كيفية استغلال الأفراد للموارد المتاحة لديهم، أو صنع قرار ما يفيد في استغلالها؛ للإتيان بمنتجات أو خدمات تعود بالنفع عليهم؛ وبهذا المعنى تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الاقتصاد لا يقتصر على الثروة والتمويل والكساد والأعمال المصرفية فحسب، بل تتسع رقعته لتشمل نطاقات أخرى أوسع بكثير، نطاقات تشمل جوهر النشاط الاقتصادي، ألا وهي تسخير كافة الأدوات السابقة، ومعها كل ما هو جديد، ومستحدث من العلوم والابتكارات والنظريات؛ لإنتاج الخيرات التي تنعكس على رفاهية المجتمعات.
ولما كانت السمة الرئيسية للموارد الاقتصادية هي الندرة النسبية، أي أن القدر المتاح منها غالبا ما يكون غير كافٍ؛ لإنتاج السلع والخدمات المتعددة التي يحتاج اليها البشر في المجتمعات المختلفة، وهو ما استدعى وجود علم الاقتصاد، ذلك العلم الذي يساعد الانسان على تلبية وإشباع حاجاته الأساسية المتزايدة بشكل لا نهائي، رغم موارده المحدودة، والتي لا تفي بإشباع تلك الحاجات، فيصبح عليه التفكير والإبداع والتطوير والابتكار للوفاء بها، وذلك بالعمل المستمر على عناصر الإنتاج أو مدخلات العمليات الإنتاجية، وبقول آخر: الاشتغال على الموارد الاقتصادية بعناصرها المختلفة، لتحقيق التوازن في نمو تلك العناصر، وتعظيم قيمها المطلقة، بما يجعلها قادرة رغم ندرتها النسبية الدائمة على تلبية حاجات البشر، وإشباع متطلباتهم الحياتية المتجددة دوما.
وبتعبير آخر هو ذلك العلم الذي يهتم بمشكلة الموارد النادرة، أو المحدودة واستعمالها على نحو يسمح بالحصول على أكبر إشباع لحاجات المجتمع غير المحدودة، فموضوعه هو الثروة الاجتماعية من جهة، وسلوك الإنسان الاقتصادي من جهة ثانية.
هذا المدخل قد يبدو بديهي، وألف باء اقتصاد بالنسبة للبعض، ومع ذلك وجب التذكير به قبل الشروع في مناقشة أزمتنا الاقتصادية الحالية، حيث لا يوجد مواطن في مصر الآن مهما علا شأنه، ومهما بلغت مكانته في السلم الاجتماعي، لا يعاني ولم تطاله آثار الأوضاع الاقتصادية المتردية، والتي زادت حدتها بشكل ملحوظ ولافت جدا في الآونة الاخيرة، بما ينذر بمخاطر اقتصادية، واجتماعية كبرى قابلة للانفجار في وجه الجميع وفي أية لحظة.
فعندما تتناول كافة أطياف المجتمع، وفئاته وعناصره المكونة له، سواء رجال دولة، رجال صناعة، رجال أعمال من مختلف التخصصات. أكاديميون ومتخصصون، مفكرون وكتاب وباحثون، حتى المواطنين بمن فيهم البسطاء جدا بالحديث، المشكلات الاقتصادية والأزمات التي تعاني منها البلاد بما يشبه الإجماع؟ أولا: على وجود الأزمة واحتدامها، وثانيا: على تداعياتها وآثارها المدمرة على اقتصاديات المواطنين والوحدات الاقتصادية، من أصغرها إلى أكبر المشاريع والمؤسسات الاقتصادية، فإن ذلك يعني الإقرار العام بوجود أزمة كبرى، وجرس إنذار بأنها تجاوزت حدود المسموح به، وأصبحت تهدد السلم والأمن المجتمعي.
واللافت للنظر، أن الجميع يتحدثون نفس اللغة، ويستخدمون ذات المصطلحات مع فارق بسيط بينهم في درجة الوعي، وعمق المنظور والفهم لطبيعة الأزمة ومدلولات المصطلحات المستخدمة، مثل مصطلح القروض، تحرير أسعار العملة، التضخم، الضرائب، أسعار الفائدة البنكية، الجمارك، الديون، ذلك بالإضافة إلى طرح قضايا وإشكاليات مربكة، ليس فقط للمواطن العادي البسيط، ولكن أيضا للكثيرين من الخبراء والمتخصصين، مثل: بيع بعض الأصول المملوكة للدولة، وغيرها من العناوين التي تم إغراق الناس بها، فباتوا في القلب منها على غير رغبة منهم أو اختيار.
ويلفت النظر أيضا، أنها جميعها مصطلحات مالية، أي مرتبطة باستخدام الأدوات المالية، والنقدية للتعامل مع المشكلات والتحديات الاقتصادية الكبرى، وغابت عن الاستخدام، بل واختفت من قاموسنا اليومي ( جميعا ) مصطلحات أخرى، مثل الدخل القومي، الناتج المحلي الإجمالي، النمو الاقتصادي، الادخار، التنمية الاقتصادية والتنمية الإنسانية الشاملة، تنمية الموارد، وخاصة الموارد البشرية، وغيرها من المصطلحات المرتبطة بتقوية وتعظيم قيمة عناصر الإنتاج، وعوامل البناء الاقتصادي الأساسية التي هي: الأرض، البشر، الاستثمارات، الإدارة والتخطيط، …. الخ.
هل هي مجرد صدفة؟ أم أن وراء ذلك كله قيم ومفاهيم، ومدارس اقتصادية كاملة مرتبطة بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تصر، وبإلحاح شديد، أن تجذبنا إلى تلك المعالجات التي تعمد إلى استخدام الأدوات المالية، والنقدية فقط للتعامل مع مشكلات، ومعضلات الاقتصاد في بلداننا، وتصرفنا قصرا عن البحث عن توجهات بديلة، ومعالجات اقتصادية تدخل إلى صلب وجوهر مشاكلنا، وتقتحم التحديات الحقيقية المطروحة علينا؛ لمعالجة الخلل البنيوي في اقتصاداتنا، حيث باتت الهوة بين ناتجنا المحلي الإجمالي، وبين استهلاكنا واحتياجاتنا الأساسية متسعة بشكل كبير، ومرعب، وضعفت عناصر الاقتصاد الرئيسية بصورة كبيرة، سواء كان الحديث عن العنصر البشري أو عن الموارد المالية التي تشكل ركنا أساسيا في العمليات الاستثمارية المطلوبة؛ لتطوير واستكمال مشروعات قائمة بالفعل، أو للبدء في مشروعات جديدة، توفر فرص عمل حقيقية ودائمة للشباب المتعطل، وتزيد من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ذلك الخلل الذي ترتب عليه الانزلاق إلى هاوية الديون اللا نهائية؛ لسد العجز الذي يتزايد بمتواليات هندسية بين الإيرادات والمدخولات الكلية من ناحية، وما تحتاجه البلاد لتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين من ناحية أخرى، والتي قد تجعل جزءا كبيرا من السكان يتحول من وضعية مصدر رئيسي للثروة، والقيمة المضافة، باعتبارهم عنصرا أساسيا ومكونا رئيسيا من مكونات اقتصاد قوي، إذا ما أحٌسن الاستثمار فيهم، إلى عبء على كاهل الدولة كنتيجة طبيعية؛ للفقر وتدهور التعليم وضعف المنظومة الصحية.
عندما يغيب عن المسئولين وصانعي القرار، وواضعي السياسات الاهتمام بالعنصر البشري، عندما لا تضخ الاستثمارات المطلوبة، والكافية للاهتمام بالتعليم والصحة، عندما لا ندرك قيمة وأهمية أهم استثمار اقتصادي، ألا وهو الاستثمار في البشر، فنحن نهدم أهم ركن من أركان الاقتصاد الثلاثة بجانب الأرض، وما تحتويه من خيرات والموارد المالية القابلة للاستثمار، وتصبح أي محاولة، بل وجميع محاولات الإصلاح الاقتصادي باستخدام كافة الأساليب والأدوات المالية والنقدية، مجرد حرث في المياه، فلا اقتصاد دون بشر متعلمين أصحاء قادرين على استيعاب، وهضم العلوم والتكنولوجيات الحديثة، والتفاعل معها وقادرين على الخلق والابتكار والإبداع، وطبعا قبل ذلك كله القدرة على استخدام تلك التقنيات الحديثة، وتطويرها والتطور معها، لا اقتصاد بدون تخطيط مركزي، وتصورات استراتيجية متكاملة ومترابطة عن كيفية الاستخدام الأمثل لمواردنا الحقيقية، والفعلية والقابلة للتطوير والنمو، سواء ما تحتويه الأرض في باطنها، أو ما يملكه البشر من معارف وخبرات وتقنيات، لا اقتصاد بدون إدارة علمية جيدة للمشاريع الكبرى والصغرى، لا اقتصاد دون مشاركة آمنة لرأس المال، توفر له شروط النجاح والبقاء والاستمرار والنمو.
وقد يجوز، ومعمول به أيضا، استخدام الأدوات المالية والنقدية لبعض الوقت، لتصحيح بعض المسارات الاقتصادية الخاطئة، ولمعالجة الخلل الناتج عن بعض الانحرافات التي تجري طول الوقت، والتي تتسبب في ظواهر مثل، التضخم أو الانكماش أو زيادة نسب البطالة، أو ارتفاع أسعار السلع على المواطنين، أو لمعالجة الخلل الناتج عن التوزيع غير المتوازن، وغير العادل للثروة، ومعالجة التفاوت في الدخل بين المواطنين …. الخ.
ذلك كله يحدث، وتأتي ثماره فقط، عندما تتوافر المقومات الحقيقية لاقتصادات قوية قادرة على البقاء، والاستثمار وقابلة للنمو والتطور، اقتصادات تنتج، و تتحقق لها شروط الاستمرار بالتوازن والنمو المتكافئ لعناصرها الأساسية: البشر، الأرض، الاستثمارات، والإدارة، أما تصور أنه يمكننا التغلب على مشكلاتنا الاقتصادية، وتحديات تحقيق معدلات متزايدة للنمو الاقتصادي، وزيادة حقيقية للناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق رفاهية المواطنين المتمثلة في الزيادة الفعلية لمتوسطات دخولهم بقيمها المطلقة، ( والتي تعد جميعها مؤشرات قياس حقيقية لقوة أي اقتصاد أو ضعفه )، بالاعتماد فقط على استخدام تلك الحلول المرتبطة بالمعالجات المالية، والنقدية وحدها، فالكل يعلم أنه أمر مستحيل، وأنه سيذهب بنا إلى منزلق المزيد من الاستدانة، وبيع أصول وممتلكات الدولة، والشعب والأهم والأخطر من ذلك كله، أنه سيضعف المكون البشري الذي يشكل الهدف النهائي، وطوق النجاة في نفس الوقت، وهو الأمر الذي قد يحتاج حال حدوثه إلى عدة أجيال لعلاجه، ولاحتواء أضراره وآثاره السلبية الخطيرة، فهلا تداركنا الأمر قبل الوصول إلى ذلك المصير المشؤوم؟؟؟