– في أوقات النكسات العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية ، تنسد الطرق إلى المستقبل ، والضباب يحجب الرؤية ، هنا يظهر التاريخ كمستودع للخبرات الوطنية ، كمصدر إلهام في مواجهة التحديات ، فيلجأ اليه المثقفون من القادة ، كما يلجأ إليه أهل الفكر سواء كانوا من أهل الاختصاص في علم التاريخ أو كانوا ممن يقدرون قيمة التاريخ في تصحيح المسار واستكشاف الطريق للمستقبل .
نكسة يونيو 1967م دفعت الكثيرين من كبار المثقفين نحو العودة إلى التاريخ لعلهم يصمدون في وجه المحنة ثم لعلهم يجدون على روابي التاريخ ناراً يستهدون بها في ظلمات اللحظة :
1 – ذهب صلاح عيسى 1939 – 2017 م يدرس تاريخ الثورة العرابية ، وفي 21 يونيو 1970م ، ومن معتقل طرة السياسي كتب مقدمة كتابه عن ” الثورة العرابية ” وفيها يقول ” كتبت الإطار العام لهذه الدراسة في الشهور الثلاثة الأخيرة لعام 1967م ، كان ما حدث في يونيو من ذلك العام ، أقسى من أن يتحمله إنسان يعيش حبه لوطنه وشعبه بشطحات الصوفيين مثلي ، ولأني افتقدت إلى حد كبير ذلك القدر اللازم من البرود العقلي ، فقد ترسبت فوواجع يونيو في أعماقي طوفاناً من الأحزان ، أفقدني الأمن والطمأنينة ، ودفعني إلى تقليب مستمر في الرماد المتخلف عن محترق الآمال ، وكان ذلك أقسى ما عانيته في تلك الأيام الغريبة ” . ثم يقول ” وكان لابد أن – وقد عجز الجميع عن تقدير ما يجب عمله – أن أنقذ نفسي من حالة أشبه بجنون الاكتئاب ، وأن أعيد لها اتزانها ” . ثم يقول ” عُدتُ إلى تاريخ بلادي في تلك الأيام الحزينة ، اقرؤه كما لم اقرؤه طوال عمري ، تجولتُ في العذاب المصري العظيم ،،،، تعزيت عبر صفحاته السوداء – وما أطولها – بأن الفجر يشرق دائماً ، وبأن الموت لا يقهر الحياة مهما كان جباراً وعاتياً وغادراً ،،،، وزاد يقيني أن الشعب هو الباقي دائماً ، الخالد دوماً مهما حدث ، يأتي الطغاة ويذهبون ، ويأتي الغزاة ويُقبرون ، ويظل الشعب كما هو من الأزل جاء وإلى الأبد سوف يبقى ” .
ثم يشرح صلاح عيسى أن قراءته للتاريخ – بعد النكسة – رسمت له طريق الخلاص ، الخلاص بالشعب ، ولولا هذا الخلاص ، لكنت وقعت في أسر حالة من الانتحار العقلي يصعب تدارك آثارها ” .
2 – ذهب طارق البشري 1933 – 2021م يدرس موضوع العلاقة بين المسلمين والأقباط في إطار الجماعة الوطنية ، وقد صدرت في كتاب مهم تحت هذا العنوان ، وفي 26 أبريل 1980م ، كتب المقدمة الافتتاحية للكتاب ، وفيها يقول ” شغلني موضوع هذه الدراسة في أعقاب عدوان عام 1967م ، وبدا مع الوقت أن هذه الهزيمة مما قد يُتصور معه أن تترك ظلالها على قوة التماسك في المجتمع المصري ، وأنتفُتً من صلابته ، وليس خطر الهزيمة في أنها تشكل تراجعاً عن موقع ما ، ولكن خطرها الأشد أنها قد تخلخل الثقة في المسلمات ، وتزعزع الثوابت في القلوب والعقول ، والهزيمة في ذاتها لا تشكل الخطر الأكبر ، رغم كل ما تُفضي إليه من خسائر وتضحيات ، وهي حلقة من حلقات الكر والفر ، تتداول في طريق النصر النهائي ” . ثم يقول ” امتلاك الذات هو حصن الأمان ، وهو العدة في أي مواجهة ، هو الانتماء باليقين للجماعة ، وإدراك تميزها عن الطرف الآخر ، لذلك يكون الحذر أقوى ما يكون على قوة تماسك الجماعة في الملمات ” . ثم يقول ” ومصر والمصريون بخير ، بقدر ما يستبقون قوة تماسكهم ، وإدراكهم لتميزهم تجاه الطامعين فيهم ” .
3 – ذهب زهير الشايب 1935م – 1982م بمجهود فردي ينجز مهمة تعجز عنها مؤسسات ، ذهب يترجم موسوعة ” وصف مصر ” التي أنجزها علماء الحملة الفرنسية وبدأت أولى مجلداتها في الصدور من مطابع باريس عام 1809م بأمر صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون الأكبر ، وبعد سقوطه في 1815م ، توالى صدورها بأمر الحكومة ، فتغير نظام الحكم لم يترتب عليه تغيير في السياسات . في فبراير 1976م كتب زهير الشايب في مقدمة المجلد الأول من الطبعة العربية من الموسوعة يقول أن مبادرته بترجمتها ” ينبغي أن توضع ضمن إطار أوسع وأشمل بالاهتمام الكبير الذي بدأ المفكرون المصريون يولونه لتاريخهم الحديث والمعاصر بعد صدمة يونيو 1967م ، فمنذ تلك الصدمة الهائلة ، بدأت الكتب – مؤلفة ومترجمة – تصدر تباعاً تتحدث عن تاريخ مصر ودور مصر ، وهكذا لم يعد التاريخ ، وتاريخ مصر بالذات ، مجرد دراسات أكاديمية ، لا يتولاها إلا المختصون ، وإنما أصبح تاريخ مصر ثقافة أصيلة ، لكل مثقف وطني تشغله أمورُ بلاده ” .ثم في مارس 1978م كتب زهير الشايب في مقدمة المجلد الثاني من الطبعة العربية يقول ” أحب أن أربط الجهد كله ، بتلك الحركة التي دبت في مصر كلها ، منذ يونيو 1967م ، والتي زادت بعد أكتوبر 1973م ، الذي أعاد لمصر بعض توازنها وبعض ثقتها بالنفس ، فاستمرت فيما بدأت فيه من محاولتها التفتيش عن النفس والبحث عن الذات ، ساعيةً إلى استقراء كافة تاريخها ، لا سيما تاريخها الحديث” .
هذا عن لماذا التاريخ على وجه العموم . فلماذا تاريخ الفقر على وجه الخصوص ؟
أدت السياسات الاقتصادية في السنوات العشر الأخيرة إلى نزع غطاء الستر المادي عن كثيرين من الطبقات الوسيطة كما زادت من اتساع قاعدة الطبقات الفقيرة ، كتب الأستاذ سيد محمود وهو صحفي ومثقف كبير وشغل موقع رئيس تحرير صحيفة القاهرة الأسبوعية التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية ، كتب أنه استقل سيارة أجرة فوجد السائق زميلاً صحفياً اضطرته عسر المعيشة ليعمل في هذه الوظيفة . كذلك كتب الدكتور محمد عبدالباسط عيد وهو مثقف وناقد أدبي أن بعضاً من أساتذة الجامعات تضطرهم قسوة المعيشة إلى العمل سائقي سيارات أجرة من أجل زيادة دخولهم المتدنية . وكتب المستشار محمد عبد المولى وهو قاض سابق ومحام حالي ومن قيادات حزب المحافظين ، كتب يقول ” الفقر ضيف ثقيل ، يدخل ببطء على طبقات في المجتمع ، لم تكن تعايشه ، ولكنها كانت تعرفه في غيرها ، ولم تكن تنزعج من فقر الآخرين ، طالما أن الفقر بعيد عنها ولم يقترب منها ، إنها الطبقة الوسطى التي تتلاشى الآن ، فالذهاب إلى النوادي والاشتراك في تدريبات الأبناء باتت مرهقة ، والذهاب إلى المصايف بات معجزاً ، ودروس الأبناء ومدارسهم وملابسهم وتنقلاتهم كلها أمور أصبحت شديدة الإرهاق ” . اكتفي بهذه الشهادات الثلاثة وأضيف رابعة من عندي ، أذ أعرف زملاء صحفيين جمعوا من بعضهم بعض رؤوس الأموال ثم افتتحوا دكاناً لبيع وشوي الأسماك في أحد أحياء مدينة السادس من أكتوبر ، وعن معايشة أعرف أن أغلبية الصحفيين المصريين في هذه المرحلة يعانون فقراً يزحف عليهم من كل سبيل .
الفقر أكبر حقائق التاريخ الحديث في مصر ، فمن المماليك إلى اليوم ، أقلية تستمتع بفرص أفضل ، وأغلبية تتراوح من الستر إلى العسر ، وقد زادت مساحات الفقر ولم تنقص بعد سبعين عاماً من حكم ثورة 23 يوليو 1952م التي بررت شرعيتها بالسعي إلى العدالة ومحاربة الفقر ، سبعون عاماً من حكم ضباط الجيش ثم يبرز الفقر كقضية أولى في شواغل الناس سواء من الطبقات الفقيرة أو الطبقات الوسيطة . الآن ، يعيد المصريون النظر في تواريخهم الحديثة ، تاريخ ما قبل وبعد ثورة 25 يناير 2011م ، تاريخ ما قبل وبعد ثورة 23 يوليو 1952م ، تاريخ ما قبل وبعد ثورة 1919م ، تاريخ الخديوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، تاريخ الدولة الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، تاريخ بكوات المماليك في النصف الأخير من القرن الثامن عشر ، وتاريخ الطبقات الاجتماعية ومنها طبقة الفقراء من حيث تتوفر معلومات موثقة عن أوضاع هذه الطبقة في التاريخ الحديث.
أول معلومات ذات مصداقية عن الفقراء في مصر الحديثة وردت في المجلد الأول من موسوعة ” وصف مصر ” في دراسة عن ” سكان مصر المحدثين ” كتبها واحد من أهم علماء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م ، وهو دي شابرول ، وعنه كتب مترجم الدراسة زهير الشايب يقول : ” هو جلبير جوزيف جاسبار كونت دي شابرول ، وشهرته شابرول دي فولفيك ، ولد عام 1772 ومات عام 1843، جاء مصر مع الحملة وعمره خمسة وعشرون عاماً ، وكان مهندساً للطرق والكباري ، وعين بعد عودة الحملة من مصر مأموراً لمدينة مونتينوت عام 1806م وأنشأ بها طريق الكورنيش ، وفي عام 1812م قابله نابليون – بشكل عابر – وكان شابرول يقضي اجازته في باريس ، ودار بينهما حديث ، فأُعجب به نابليون ، وعينه مأموراً للسين ، فأدار شابرول باريس كما ينبغي أن تُدار مدينة كبرى وعاصمة لإمبراطورية كبرى ، وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً ، حتى أن لويس الثامن عشر – الذي حكم بعد سقوط نابليون – قد اضطر لاستبقائه في وظيفته الحساسة ، على الرغم من أن الذي عينه فيها هو نابليون . أي أن تغيير نظام الحكم لم يترتب عليه تغيير الأكفاء المتفوقين من كبار الموظفين واتهامهم أنهم من رموز النظام القديم .
– الدراسة تبدأ ، بإحصاء عدد السكان ، ثم بالبناء الاجتماعي الذي ينتظمهم ، وذلك تحت عنوان ” عن السكان وطبقاتهم المختلفة ” ، وقبل أن يتحدث عن عدد سكان مصر يقول أن علماء الحملة الفرنسية حثوا على استخدام المناهج الاحصائية في الأبحاث والدراسات ، وبهذه المناهج تمكنوا من ثلاثة أشياء : تحديد مساحات الأراضي سواء المزروعة أو القابلة للزراعة ، حصر عدد القرى والكفور في وادي النيل ، تعداد السكان في مصر عموماً وفي بعض المدن على وجه الخصوص.
ثم يشرح طريقتين لتعداد السكان ، الطريقة الأولى تقدرهم باثنين مليون وأربعمائة وأربعين ألف أو أكثر قليلاً ، ثم الطريقة الثانية تقدرهم بمليونين وأربعمائة وسبعة وستين ألف أو أكثر قليلاً ، ثم يقرر أن الرقم الأمثل هو مليونان ونصف المليون ، وذلك بدون تعداد البدو والعربان من قبائل الصحراء ، وهؤلاء تعدادهم مائة وثلاثون ألفاً.
أما عن سكان القاهرة – بالتحديد – في عام 1798م ، فكانوا يتراوحون ما بين مائتين وخمسين ألفاً ومائتين وستين ألفاً ، بمن فيهم المماليك والتجار الأجانب ، ثم يشير دي شابرول إلى إحصاء لتعداد سكان القاهرة قبل مجيئ الحملة الفرنسية لكن دون الإشارة إلى مصدره أو إلى من أجراه ، وإن كنت أرجح أن يكون وراءه القناصل الفرنسيون ومن كان يتوافد ويقيم في القاهرة من المستشرقين والرحالة والمبشرين والتجار الفرنسيين ، هذا الإحصاء يحدد عدد سكان القاهرة بثلاثمائة ألف ، وقد اعتمد دي شابرول هذا الرقم ، وشرح مفرداته على النحو التالي : 12 ألف قوة المماليك والفرق العسكرية . 6 آلاف كبار الملاك . 4 آلاف كبار التجار الذين تمتد معاملاتهم خارج البلاد ويدخل فيهم التجار الأجانب الذين يستقرون في القاهرة عدة أشهر من كل عام ريثما يبيعون بضاعتهم ويشترون مكانها بضاعة مصرية . 25 ألف من الحرفيين المستقرين سواء كانوا أسطوات أو عمال عاديين . 5 آلاف صغار تجار القطاعي الذين يبيعون المأكولات والزيوت والحبوب والخضروات وغيرها . ألفان من القهوجية : أي المحلات التي يقصدها الناس لتناول القهوة والشربات ويدخنوا ويستمعوا إلى الموسيقيين والرواة . 30 ألف من الخدم . 15 ألف من العمال . وهؤلاء كلهم ذكور بالغون بإجمالي 99 ألف فرد . ثم عدد النساء البالغات 126 ألف . ثم عدد الأطفال 75 ألف . وإجمالي كل هؤلاء ثلاثمائة ألف هم كل سكان القاهرة من المماليك ، ثم كبار الملاك ، ثم كبار التجار ، وهؤلاء اثنان وعشرون ألفاً . ثم الحرفيون وصغار التجار والقهوجية والخدم والعمال خمسة وسبعون ألفاً . وعدد الخدم أكبر من عدد كبار القوم ومعنى ذلك أن الأسرة من ذوي الثراء كان فيها أكثر من خادم . وقد أعقب دي شابرول هذه التوزيعة لعدد ومهن سكان القاهرة بملاحظات سريعة:
– فعن كبار التجار – وعددهم أربعة آلاف ، يشير إلى عدة أمور :
– أن تجارتهم تمتد خارج البلاد ، أي يتولون تجارة مصر الخارجية استيراداً وتصديراً ، كما هم جزء من حركة التجارة الدولية في مصر سواء تجارة البحر الأحمر وآسيا أو تجارة البحر المتوسط والشام وآسيا الوسطى وأوروبا أو تجارة النيل والنوبة والسودان ودارفور . لهذا منهم مصريون وأجانب ، والأجانب لا يستقرون في القاهرة إلا لوقت محدد ، وكذلك التجار القادمون من أزمير والقسطنطينية وبغداد وحلب وجدة وينبع إلى آخره ، وضخامة عددهم تعكس حجم التجارة في القاهرة عند خواتيم القرن الثامن عشر.
– ثم عن صغار التجار وعددهم خمسة آلاف يقول : لا يمتلك هؤلاء على الإطلاق أي رأسمال ، فهم يبيعون في النهار ما يحصلون عليه في الليل ، يحصلون على البضاعة بالاستدانة من تجار الجملة ، ويسددون ما عليهم من ديون من حصيلة مبيعاتهم كل أسبوع ، ونادراً ما يكون هؤلاء التجار الصغار ميسوري الحال ، بل إن حالتهم كثيراً ما تتدهور يوماً بعد يوم ، حتى ينتهي به الأمر بهجر هذه المهنة ليحترف عملاً آخر .
ما سبق من أرقام وملاحظات يضع أيدينا على أول خط الفقر وأول طابور الفقراء في مصر الحديثة .
في ص 258 وما بعدها من المجلد الأول من الطبعة العربية من موسوعة ” وصف مصر ” يتحدث دي شابرول حديثاً ممتازاً عن فقراء مصر ، عن
طبقات الفلاحين ، عن طبقات العمال ، بما يضع أيدينا على محطة هامة من تاريخ الفقراء في مصر الحديثة . يبدأ الحديث بطبقة الفلاحين ، ويقول عنهم ” هؤلاء هم الفلاحون البؤساء ” ثم يقول عنهم ” الطبقة العاملة المضطهدة ” ، والفلاح المذكور بين الفقراء هو الفلاح الذي يعمل بأجر يومي ، والفلاح الذي يزرع أرضاَ يستأجرها من كبار المالكين ، ولذلك هو يفرق بين الفلاح من جهة والفلاح الميسور من جهة أخرى . ويجمع بينهما طبع الحياء ثم طبع الخوف ، فالفلاح خواف بالطبيعة ، وهذا الخوف نتاج ما يتعرض له من قهر دائم من طرفين : الطرف الأول بكوات المماليك وضباط الفرق العسكرية ، والطرف الآخر البدو وعربان القبائل التي تسكن الصحراء وتغير على الوادي ، هذا الطرفان كلاهما قوة مسلحة ، تركب الخيول ، وتحمل السلاح ، وتسلب من الفلاح ما يملك من قوت ومحاصيل ومن أبقار وخراف وغيرها . يقول ” وهكذا يظل الفلاح المسكين، بلا أي دعم أو سند ، فريسة لنزوات كل هؤلاء ، يقدم لهم ما يملك ، ثم يئن من وطأة الجوع مع زوجته وأولاده ” . ثم يشرح كيف يدبر الفلاح الأجير حياته اليومية فيقول ” ومع ذلك ، فإن تعقل الفلاح واعتداله يسمحان له بتدبير ما هو لازم لمعيشته ومعيشة أسرته ، وهو يستغل كل وقته في العمل ، ويحصل في مقابل العمل على أجر عيني من المحاصيل ، وفي كل مساء يجهز لنفسه خبزه ، يطحن الحبوب بواسطة رحى ، وينضج الخبز على رماد ساخن ، لأنه لا يمتلك فرناً على الإطلاق ، ولكي يحصل على البلح والبصل والزبد والبيض واللبن ، فإنه يقايضها مع فلاح آخر بما عنده من قمح وفول ومحاصيل أخرى حصل عليها كأجر عن عمله ” .. ثم يشرح حالة الفلاح النفسية فيقول ” وهو قانع بهذا النمط من الحياة ، حيث أن الشقاء الذي اعتاده جعله يعيش في طور الفطرة ، وهو يتناسى الماشية التي يسرقها منه البدو ، كما ينسى الأتاوات التي يفرضها عليه طغاته من البكوات والضباط ، وإذا كان العمل يدر عوائد كبيرة ومن ثم يحصل على أجر أفضل ومن ثم يتوفر لديه مقادير من المال فإنه يشتري من جديد حماراً وبعض الخراف وأدوات زراعية ويعود إلى مسكنه ، وتعود إليه الأرض التي كان يفلحها من قبل . ثم يتحدث عن ملابس الفلاحين فيقول ” عبارة عن قميص بسيط من القطن ، أزرق اللون ، مشقوق من الرقبة حتى أسفل البطن ، ليست له أكمام ، يستر الجسد حتى الركبتين ، ويثبت بالجسم بواسطة حزام من الجلد ، ويغطي رأسه بغطاء من اللباد – أي القماش – الأحمر يسمى طربوشاً ، أما الفلاح الميسور بعض الشئ فيغطي رأسه بعمامة تتكون من شال من قماش مخطط يلف حول الطربوش ، وما عدا ذلك فإن أذرع الفلاحين وسيقانهم وأقدامهم عارية تماماً ، بل إن كثيرين منهم لا يملكون حتى القميص الذي تكلمنا عنه . أما الأغنياء من الفلاحين فيرتدون طربوشاً ، وسروالاً ، ومعطفاً أسود ، ويُطلق على هذا المعطف اسم ” بشت ” .
هذا الوضع الاقتصادي البائس للفلاح المصري هو نتاج واقع سياسي ظالم ثم هو سبب لوضع اجتماعي متدني ومهين ، يقول دي شابرول ” وعندما نعرف بؤس وهوان وتدهور حال الفلاحين ، فإننا نستطيع أن نكون فكرة عما ستكون عليه ملاح وجوههم ، فهل يمكن أن يكون لأناس مثل هؤلاء – محكوم عليهم بالتحقير والعبودية وأن يظلوا على الدوام لعبة في أيدي عدد كبير من السادة – هل يمكن أن تكون لهم وجهات نظر صريحة جريئة ؟ هل يمكن أن تكون لهم وجوه صافية بشوشة ؟ هل يمكن أن يكون لها مجتمع حر مفتوح ؟ ” . ثم بعد أن يتساءل دي شابرول يتولى الإجابة بنفسه ” إن مظهر هؤلاء البؤساء ليعلن عن حيرتهم ، والخوف يُقرأ في أعينهم ، وهم يمشون في قلق ، ورؤوسهم منحنية إلى الأمام ” . ثم يتحدث جمال ملامح الفلاح المصري ، فيقول ” شكلهم في عمومه جميل ، تتميز جباههم بالاتساع ، وجنات خدودهم لها نتوءات شديدة الوضوح ، وخط الأنف واضح بشدة ، أما الذقن فممشوقة ، هم رجال قد منحتهم الطبيعة هذه الملامح الوقورة . ثم يستدرك فيقول ” لكن عليهم أن يعانوا من كل عوامل القهر والجبن والإذلال فكل ما فيهم يشهد ببؤس حالهم ” . ثم لشرح ما يتعرض له الفلاح من استغلال ونهب وسلب لثمرات كده وعرقه يقول أن الفلاح يلجأ لسلوك التسول ، ليس بقصد التسول في ذاته ، لكن بقصد ممارسة الخديعة ، يخدع الآخرين ويوهمهم أنه لا يملك أي شئ يسلبونه منه ، بدليل أنه يتسول من الناس ” . ثم يختتم بأن العناية الإلهية حرمت هؤلاء الفلاحين من موهبة الفكر ، رحمةً بهم ، حتى لا يفكرون فيما هم فيه من بؤس ، يقول ” شاءت العناية الإلهية أن تقرن بلادة الفكر مع واقع الفقر حتى لا يدرك الفلاح واقع الشقاء الذي قُدر عليه أن يحيا فيه” .
ثم يقدم دي شابرول أول خريطة واضحة المعالم للطبقة العمالية في مصر الحديثة ، أي منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، هذه الخريطة تعتمد على إحصاءات عن مجمل سكان مصر ، ثم عن مجمل سكان القاهرة ، وهنا نوجز ما أورده عن أشد العمال فقراً ، وهم عمال اليومية ، ففي ص 262 من دراسته عن سكان مصر المحدثين ، يقول ” في الفصل الأول من مؤلفنا هذا ، قدرنا عمال اليومية ب 15 ألفاً في مدينة القاهرة ، ويمكن تقسيم هذه الكتلة من الناس إلى ثلاث طبقات ” .
1- الطبقة العمالية الأولى ، هي أكثرهم بؤساً ، وتضم 10 آلاف شخص ، وهؤلاء يؤدون أعمالاً ثانوية ، ولا يحصلون إلا على أجور بالغة التواضع ، ولا تفي – إلا بالكاد – لمعيشتهم ، وهم يرتدوون قميصاً بسيطاً أزرق اللون ، أما مسكنهم فعبارة عن كوخ يستأجرونه مقابل عشرة بارات في الشهر ( البارة هي العملة المحلية ) وأثاث المسكن عباارة عن مزقة من حصير ينامون عليها مع زوجاتهم وأولادهم ، ويمكن للعامل من هذه الطبقة أن يكسب 15 بارة في اليوم ، وتكسب ززوجته في اليوم من أربع إلى خمس بارات في اليوم ، وليس له غير زوجة واحدة ، وهؤلاء البؤساء لا يأكلون اللحم على الإطلاق ، ويعتمدون على الخبز والحبوب المطبوخة والبيض ، وينفق الرجل بعض نقوده في المقهى ، ويدخن تبغاً من الصنف بالغ الرداءة ، ويتعاطى مخدرات القنب الأخضر ، فتخدير العقل بالنسبة له شئ ضروري ، وترتدي زوجته قميصاً أزرق اللون ، ويمشي الأطفال عراة ليس عليهم غير بعض الهلاهيل”.
2 – الطبقة العمالية الثانية ، تضم ثلاثة آلاف عامل يومية ، ظروفهم ليست أقل من ظروف الأولين مدعاةً للشكوى ، وأجرهم ليس أكبر من الأولين ، لكنهم ليسوا على الدرجة ذاتها من البؤس ، فهم يعتبرون من وكلاء الأعمال ، إذ يحصلون منها على بعض المكاسب البسيطة التي لا يحصل عليها عمال الطبقة الأولى ، ومساكنهم أحسن تأثيثاً وأكثر راحةً ، ويتكون رداؤهم الطويل من قميصين أو ثلاثة ، وماعدا ذلك ، فطريقتهم في الحياة هي طريقة غيرهم من العمال الأكثر بؤساَ .
3 – أما الطبقة العمالية الثالثة ، فتضم ألفين من العمال من إجمالي خمسة عشر ألف عامل هم إجمالي العمال في القاهرة وحدها ، وهؤلاء مستوى معيشتهم أكثر يسراً من الأولين بقليل ، يعملون كرؤساء ورش ، ويسكنون في مبنى كبير ، تشقه دهاليز عديدة ، وعلى جوانب الدهاليز غرف ، ويسكن كل عامل مع زوجته وأولاده في غرفة ، إيجارها ثلاثون بارة ، تقوم الزوجة على شأن الغرفة وتجهز الطبيخ ، والأثاث حصيرة خشنة من ألياف الكتان وبعض المخدات ذات الغطاء الردئ ، مع إناء أو أكثر للطبيخ ، مع أواني أخرى رخيصة الثمن . وأكثر ما يميز هذه الطبقة من عمال اليومية أنهم يرتدون قطعاً من الملابس أكثر وأفخم : شال من الموسلين أو الصوف حول الطربوش ، ملابس داخلية من التيل ، جلباب طويل ، معطف من الصوف الأسود ، وترتدي زوجاتهم ثوباً أسود للزينة وثلاثة أثواب لبقية الأيام ، وهن يعملن في غزل ونسج القطن ويحصلن منه على أجر متواضع ، هذه البحبوحة ليس سببها أن هذه الطبقة من عمال اليومية تحصل على أجور تفوق كثيراً أجور الطبقتين الأولى والثانية ، ولكن لأنهم أكثرة خبرة ، وأكثر شهرة ، ومن ثم يجدون فرص العمل متاحة كل يوم دون تعطل ولا تبطل.
السؤال الآن : مهن طبقة الفلاحين معروفة ،
فماذا عن مهن عمال اليومية ؟
هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى .