يواجه العالم حاليًا شبح أزمة غذائية عنيفة مع ارتفاع أسعار القمح في أعقاب الانسحاب الروسي من اتفاقية تصدير الحبوب بالبحر الأسود، بالتزامن مع موجة طقس سيئ أثرت على إنتاجية المحاصيل الأساسية في آسيا، وجنوب أوروبا والولايات المتحدة، خاصة الأرز الذي حظرت بعض الدول المنتجة تصديره لمواجهة تضخم أسعاره بأسواقها المحلية.

وقفزت أسعار القمح بنحو 10% خلال أسبوع واحد فقط بعد انسحاب روسيا من اتفاقية تصدير الحبوب التي سمحت بالمرور الآمن لصادرات أوكرانيا عبر البحر الأسود، فضلاً عن تهديدها بالتعامل مع السفن المتجهة إلى موانى أوكرانيا كأهداف حربية، وشنت روسيا هجوما على ميناء تشورنومورسك بجنوب أوكرانيا دمر 60  ألف طن من الحبوب التي خزنتها أوكرانيا، بغرض التصدير علاوة على وضع ألغام مائية في المنطقة.

سمحت الاتفاقية، التي جرى إالغائها، لكييف بشحن نحو 33 مليون طن، ما انعكس على خفض أسعار الحبوب عالميًا بنحو 35٪، وخفف من أزمة الغذاء الناجمة عن الحصار الروسي للمواني الأوكرانية، والذي منع نقل ملايين الأطنان من الأقماح والذرة والمواد الخام لصناعة الزيوت والأعلاف، وإلغائها يزيد المخاوف حول الإمدادات المستقبلية للغذاء عالميًا.

مع انسحاب روسيا، قفزت العقود الآجلة للقمح بمجلس شيكاغو للتجارة بنسبة 2.70% لتصل إلى 6.80 دولارات، للبوشل (27.2كيلوجرامًا) ما يعادل 250 دولارا للطن دون احتساب نولون النقل، وارتفعت العقود الآجلة للذرة بنسبة 0.94٪؛ لتصل إلى 5.11 دولار للبوشل (20.41 كيلو)، حيث يخشى التجار من أزمة وشيكة في المعروض من المواد الغذائية الأساسية.

صفقة الحبوب.. أبعد من القمح

تأثيرات القرار الروسي لم تتوقف على القمح، بل شملت الحبوب أيضًا، إذ ارتفعت أسعار الذرة وفول الصويا أيضًا، كما ارتفعت بذور اللفت والسكر، فأوكرانيا منتج كبير للحبوب والبذور الزيتية، وتوقع جون جونج ، نائب رئيس البحث والاستراتيجية في جامعة الأعمال والاقتصاد الدولية بالصين، ارتفاع أسعار الحبوب العالمية بنسبة 40% بعد تعليق صفقة الحبوب في البحر الأسود.

أوكرانيا من بين أكبر ثلاث دول مصدرة للقمح والشعير والذرة وزيت بذور اللفت، كما تمثل 46٪ من صادرات العالم في زيت دوار الشمس، وفقًا للأمم المتحدة، ما يعني أن الأزمة ستطول أسعار الزيوت أيضًا، خاصة في ظل تراجع إنتاجية فول الصويا عالميًا بسبب الطقس الجاف بالولايات المتحدة، وبالفعل ارتفعت أسعار زيت عباد الشمس المستورد من 960 دولارًا للطن إلى 1030 دولارًا، كما زاد سعر زيت فول الصويا بنسبة 5٪ خلال أسبوع.

قال مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن القرار سيخلق أزمة غذاء كبيرة وضخمة في العالم، بينما كان الأمين العام للأمم المتحدة،  أنطونيو جوتيريش، أكثر تشاؤمًا بتحذيره من أن مئات الملايين من الناس سيواجهون الجوع نتيجة، للقرار للروسي.

يتعين على دول الشرق الأوسط وإفريقيا دفع تكاليف الشحن المتزايدة من الحبوب التي يتم الحصول عليها من مناطق أبعد من أوكرانيا، كما ستزداد أوقات الشحن، بينما قال رئيس مجلس إدارة شركة “Golden Grain” فراس بدرا، إن القرار سيحمل تداعيات على كافة سلاسل إمداد الغذاء العالمي، مثل اللحوم والألبان وغيرها، وليس فقط مشتقات القمح، متوقعًا ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً بين 15 و20%، حال استمرار روسيا على موقفها.

تغيرات مناخية عنيفة.. المصائب تأتي مجتمعة

ما فاقم المشكلة، تراجع مخزونات القمح عالميًا إلى أدنى مستوى لها منذ 16 عامًا؛ بسبب تأثيرات الجفاف على منتجي القمح في آسيا التي تضم الصين والهند أكبر منتجين في العالم، كما ضربت نوبات الطقس السيئ مساحات شاسعة من آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، وآخرها موجة حرارة حالية يعاني منها جنوب أوروبا، انعكست حتى على مستوى إنتاج الأبقار من الحليب، وعرضت محاصيل الخضروات للتلف.

كما عانت محاصيل الأرز في الصين والهند وباكستان من تقلبات عنيفة، بين الجفاف والفيضانات، تسببت في نقص الإنتاج عالميًا ورفع كبير للأسعار، حتى ارتفع متوسط سعر الأرز الأبيض المكسور بنسبة 5٪، في تايلاند أحد الدول النشطة في سوق تصدير الأرز، بنحو 16٪ من متوسط العام الماضي.

أعلنت الهند أكبر مصدر للأرز في العالم منع تصدير الأرز الأبيض، باستثناء البسمتي “بقرار فوري”، في قرار قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار العالمية للأرز، وذلك لضمان إمدادات المستهلكين الهنود و”التخفيف من ارتفاع الأسعار في السوق المحلية”.

وحذرت شركة “جرو انتيليجنس” التي تحلل البيانات الخاصة بالمواد الخام، من أن قرار نيودلهي التي تمثل وحدها أكثر من 40 بالمئة من شحنات الأرز العالمية، قد “يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على واردات الأرز”.

عانى العالم من عجز عالمي في إنتاج الأرز لعام 2022/2023 بنحو 8.7 ملايين طن، وهو أعلى معدل منذ عام 2003/2004، عندما سجلت أسواق الأرز العالمية عجزا قدره 18.6 مليون طن، بسبب سوء الأحوال الجوية التي عرضت مساحات من الأراضي الزراعية في الصين للتلف، وكذلك باكستان التي تمثل 7.6% من تجارة الأرز العالمية، والتي شهدت بدورها انخفاضًا في الإنتاج السنوي بنسبة 31% على أساس سنوي؛ بسبب الفيضانات الشديدة.

في باقي الدول المنتجة تأثرت الإنتاجية بنقص الأسمدة، فالحرب الروسية الأوكرانية قلصت صادرات روسيا من البوتاس والفوسفور والنيتروجين،  بينما قيدت الصين، وهي منتج رئيسي، الصادرات لإبقاء الأسعار المحلية تحت السيطرة، وحاولت بنجلاديش البحث عن مورّدين في كندا، بينما لا تزال العديد من البلدان تبحث عن مصادر جديدة.

أسعار ملتهبة.. ما موقف مصر؟

مصر من الدول التي ستتأثر بقوة من القرار الروسي بالانسحاب من اتفاقة الحبوب، حال استمرار الأسعار في الارتفاع، خاصة أن القمح المحلي سجل 3.8ملايين طن قمح من حجم المستهدف، أي 91%، ومن المفترض الاعتماد على استيراد نحو 4.4 ملايين طن تحتاجها الدولة، لتوفير 93.5 مليار  رغيف، بالإضافة إلى 544 ألف طن دقيق مستودعات.

تمتلك الحكومة احتياطيا استراتيجيا من القمح يكفي نحو 5.2 أشهر، لكنها سعت إلى تعزيزه قبل ساعات، عبر محادثات مع الإمارات للحصول على تمويل قيمته 400 مليون دولار لشراء القمح، في صورة شرائح تبلغ قيمة الواحدة منها 100 مليون دولار.

على المستوى الزمني القصير أيضًا، أعلن السيد القصير، وزير الزراعة، البدء في تطبيق الدورة الزراعية على محصول القمح اعتبارا من الموسم القادم، وكذلك المحاصيل الاستراتيجية لزيادة مساحتها، خاصة بعد تفعيل منظومة الزراعة التعاقدية التي تضمن للمزارعين تسويق المحصول بأسعار مجزية، تشجعهم على التوسع في زراعة المحاصيل الهامة التي تستهدفها الدولة كأحد أهم محاور الأمن الغذائي.

كذلك أعلن وزير الزراعة عن خطة توزيع التقاوي حسب الخريطة الصنفية، وذلك قبل موسم الزراعة بوقت كاف والاتفاق مع كل الجهات المسوقة للترتيب لذلك، خاصة بعد توفير كل الدعم للتوسع في زيادة إنتاج التقاوي الجيدة المعتمدة، وزيادة نسبة التغطية منها؛ لضمان تحقيق أعلى إنتاجية تسهم في سد الفجوة الغذائية، وتقليل فاتورة الاستيراد مع تحقيق ربحية للمزارعين.

الاحتياطي المصري من السلع.. 4 أشهر في المتوسط

وتواجه مصر تحديا آخر في استيراد الأعلاف التي ارتفعت أسعار مكوناتها بعد القرار الروسي، إذ قفز سعر الذرة الصفراء المستوردة البرازيلي والأرجنتيني إلى 12700 جنيها للطن بزيادة 500 جنيه في يومين بعد القرار الروسي.

كما تواجه تحديًا بالزيوت أيضًا، فمصر ظلت حتى وقت قريب تستورد 97% من الزيوت. وذلك بما يعادل 800 ألف طن، قبل أن تستبدل الزيوت المصنعة بالبذور، وعصرها في 32 مصنعا محليا. ما خفض الاستيراد إلى 600 ألف طن. لكن المشكلة في ارتفاع أسعار البذور أيضًا.

إلا أن مصدرا مسئولا بوزارة التموين، يقول إن مصر ليس لديها مشكلة في التطورات الأخيرة، فاحتياطي الأرز يكفي 3.1 أشهر، وموسم الحصاد المحلي يبدأ في شهر سبتمبر، بينما يكفي احتياطي زيت الطعام 4 أشهر، والسكر يكفي لسبعة أشهر، وهي فترة كافية لاستقرار الأسعار عالميًا.

يُباع كيلو الأرز المعبأ بمتوسط 27.50 جنيها للكيلو حاليا، بعدما تراجعت أسعاره من مستوى 35 جنيها في إبريل الماضي في أعقاب استيراد أرز هندي، وطرحه بسعر 20 جنيهًا للكيلو في المنافذ، بينما يبلغ سعر لتر زيت عباد الشمس نحو 60 جنيها، وكيلو السكر المعبأ نحو 24 جنيهًا.

وأصدر الدكتور علي المصيلحي، وزير التموين، قرارًا بتحديد صرف زجاجة زيت واحدة لكل فرد مقيد على البطاقة، وبحد أقصى 4 زجاجات للبطاقة الواحدة، لكن المصدر المسئول بالوزارة يقول، إن الوزارة  تعمل على استقرار المخزون، والأسعار وطرحت أخيرًا زيتا روسيا شهيرا بسعر 58 جنيهًا للتر، علاوة على توفير كميات كبيرة؛ أدت لتراجع سعر الزجاجة من مستوى 70 و80 جنيهًا للزجاجة إلى 55 و60 جنيها، بجانب طرح زيت تموين عبوة 800 ميللي بسعر 30 جنيهًا،  كما دخلت في مفاوضات أخيرًا مع شركة ماليزية كبيرة، كي تنشئ الشركة مشروعا لها في مصر بمجال إنتاج زيت النخيل الذي يدخل في الغالبية العظمى للصناعات الغذائية.

واعتمدت مصر على القمح الروسي في 2023 الحالي، إذ تعاقدت في إبريل الماضي على شراء 600 ألف طن إضافية منه، بعدما استوردت 191.5 ألف طن في يناير الماضي مقابل 103 آلاف طن في الشهر ذاته من العام السابق، وتسعى الحكومة حاليا لاعتماد آلية الجنيه مقابل الروبل في التبادل بين البلدين لحل مشكلة توفير العملة الصعبة.