“على عكس الأهداف الإنسانية المعلنة، تم نقل أغلب صادرات الغذاء الأوكرانية وجه التقريب؛ لهدف الربح على أساس تجاري بحت، وبما يهدف حتى اللحظة الأخيرة إلى خدمة المصالح الأنانية الضيقة لكييف ورعاتها الغربيين.

لم يتوقف النظام الحاكم في كييف خلال العام الذي تم فيه تنفيذ مبادرة البحر الأسود لنقل الغذاء، عن القيام باستفزازات وتعديات ضد المنشآت المدنية، والعسكرية الروسية تحت غطاء الممر الإنساني البحري والملاحي.

نجد أنفسنا مضطرين إلى الإعلان، أنه لم يتم الوفاء بالمهام الخمس المُلزِمَة المنصوص عليها في مذكرة روسيا والأمم المتحدة، ففي ظل حقيقة، أن العقوبات لا تنطبق على المواد الغذائية والسماد، استمرت واشنطن وبروكسل “حيث مقر الاتحاد الأوروبي” ولندن في فرض قيودهم وسط حديث النفاق عن احتياجات دول الجنوب للغذاء.

تعلن الخارجية الروسية توقف مشاركتها في مبادرة البحر الأسود، اعتبارًا من يوم غد الموافق 18 يوليو، بما يعني سحب ضمانات سلامة الملاحة وتضييق الممر الإنساني البحري، واستعادة نظام منطقة خطرة مؤقتًا في شمال غرب البحر الأسود، وحلّ مركز التنسيق المشترك في إسطنبول.”

هكذا كان نص بيان وزارة الخارجية الروسية الذي صدر يوم الاثنين الماضي، كزلزالٍ يعيد للعالم بأسره -وفي القلب منه مجتمعات دول الجنوب- كابوس المجاعة؛ جراء نقص إمدادات الغذاء بسبب؛ الحصار الروسي للمواني الأوكرانية. وعلى الرغم من أن بيان الخارجية الروسية، قد تَرَك الباب غير مُوصَدٍ أمام إمكان إعادة النظر في قرار التوقف/الانسحاب من الاتفاقية واستعادة العمل بها؛ لضمان توفير ممر آمن لنقل الحبوب، إلا أنه أوقف ذلك الإجراء (إعادة النظر في الانسحاب من الاتفاقية) على تحرك إيجابي من دول الغرب باستبعاد المواد الغذائية والأسمدة من العقوبات المفروضة.

كانت الاتفاقية التي قررت روسيا إيقافها تسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر ممر إنساني، فتحه الأسطول الروسي في البحر الأسود، شريطة إتاحة وصول الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية، إلا أن الجزء الثاني من الاتفاقية لم يتم العمل به؛ حيث حالت العقوبات الغربية دون ذلك، فما زالت شركات التأمين وخدمات المواني التي تتعامل مع روسيا تخضع للعقوبات، بالإضافة إلى المماحكات التي تمارسها أوكرانيا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان آخرها قيام كييف بتفجير خط الأنابيب الذى يتم من خلاله تصدير الأمونيا الروسية لدول الاتحاد الأوروبي.

في ترجمة عملية على الأرض للقرار الروسي بالانسحاب من الاتفاقية، تحركت الآلة العسكرية الروسية فورًا، فَشَنَّت غارات مُكثفة على مخازن الحبوب والبنى التحتية الأوكرانية في مدينة أوديسا الساحلية، وأعلن المسئولون الروس بوضوح أن بلادهم ستعتبر أن أي سفينة تعبر البحر الأسود بمثابة هدفٍ عسكري مُحتَمَل، أيًا كانت طبيعة ونوع حمولتها؛ ليجتاح الكوكب هَلَعٌ عارم. أتت أولى التعليقات على القرار الروسي صبيحة الثلاثاء 18 يوليو من أنتونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة الذى أعرب عن أسفه الشديد من القرار وقال، إن مئات الملايين من البشر الذين يعانون ويلات المجاعات، والمستهلكين بالمجتمعات التي تئن تحت وطأة التضخم العنيد سيدفعون ثمن قرار الكرملين المجحف.

وقد حدث بالفعل أن عادت أسعار الحبوب للارتفاع؛ جراء هذا القرار بعدما كانت قد انخفضت بنسبة 35%، اضطربت الأسواق. فشهدت ارتفاعًا في أسعار القمح بلغ نحو 8% دُفعًة واحدة يوم الأربعاء الماضي ببورصة شيكاجو، تَبِعَهُ ارتفاع تالٍ بنسبة 1.5% يوم الخميس.

كانت أزمة المناخ قد زادت الطين بَلَةً في هذا العام الذي يشهد موجة غير مسبوقة من الطقس الحار، ونقصٍ في الأمطار بأوروبا وأمريكا، إذ أدت تلك الموجة إلى انخفاض في المخزون الاستراتيجي الأمريكي من الحبوب لأدنى مستوياته منذ ستة عشر عامًا، حسبما أشار بعض المحللين الأمريكيين؛ لترتفع العقود الآجلة للقمح الأمريكي بنسبة 13% منذ الثلاثاء الماضي، وحتى تاريخ كتابة هذه السطور مساء السبت 22 يوليو.

تشير الارتفاعات في الأسعار، وبالأخص ما ارتبط منها بالعقود الآجلة إلى كارثة إنسانية، ربما يشهدها العالم بنهاية 2023، حين يَحلُ الشتاء؛ لتتداخل ارتفاعات أسعار الغذاء مع زيادات أسعار مواد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي، إن لم تحدث حلحلة جادة للأزمة التي بدأت في 2022، ولا تبدو في الأفق بوادر نهايتها بالتعاطي معها من جذورها، وبشكل غير تقليدي يُتَفَق فيه على حلٍ دائم.

تكمن صعوبة التوصل للحل الدائم في ارتباطه بتبدل موازين القوى العالمية، فأمريكا ما زالت تعمل للحفاظ على مكانتها كقوة عظمى مدفوعة باقتصاد ضخم للغاية، تلعب فيه عملتها المحلية (الدولار) دورًا حاسمًا في مجال الهيمنة الدولية بالتنسيق مع دول الناتو الذي يزداد عدد أعضائه، ويلقي على عاتقهم مزيدًا من المسئوليات والواجبات مقابل؛ تأمين ضرورات أمنية واجتماعية واقتصادية.

والصين التي تعتبرها أمريكا المنافس الوحيد لها في هذا العالم، تعمل بدأبٍ مدعومة بإمكانات مادية وبشرية بالغة الضخامة، على الحفاظ على مكتسباتها في العشرية الأخيرة، ساعيًة إلى توسيع رقعة نفوذها شمالًا وجنوبًا دون مواجهة مباشرة، تُكلِفُها أكثر مما تحتمل، مُستخدمة في ذلك كل ما يتوافر لها من أدوات، سواء بمشروعات هائلة من قبيل مشروع الحزام والطريق أو بتدعيم علاقاتها مع بعض الأقوياء الإقليميين، من خلال ضمهم لعضوية منظمات اقتصادية، تفرض فيها سيطرتها كبريكس والبنك التابع لها ومنظمة دول شنجهاي، أو بسياسة دبلوماسية القروض التي عادةً ما تنتهى بتنازلات من المدينين، تصل إلى مبادلة القروض بأصول حيوية تُحكِم الصين بموجبها قبضتها على مناطق نفوذ جديدة، تعينها في صراع المنافسة في نفس الوقت، تتم من تحت الطاولة دومًا، ومن فوقها أحيانًا صفقات بين دولٍ تسعى لتأمين مواقع لها بين العملاقين المتنافسين في حسابات استراتيجية بالغة الحساسية، تكتنفها مخاطر عديدة، وهي أمور مُتغيرة بطبيعتها، لكن الثابت هو أن شعوب الجنوب التي ترزح تحت أعباء الحروب الأهلية، والفقر والمجاعات والأمراض وخراب المناخ، هي من ستدفع ثمن القرار الروسي؛ ليكون عام 2024، هو الأسوأ على الإطلاق منذ كورونا خصوصًا، وأنه عام “البطة العرجاء” Lame Duck الذي يتجنب فيه أي رئيس أمريكي الإقدام على اتخاذ قرارات، أو إجراءات استراتيجية؛ تجنبًا لاحتمالات حدوث أخطاء فادحة، تؤثر على إعادة انتخابه أو على موقف حزبه الانتخابي.

سيكون عام 2024، هو الأسوأ فيما يتعلق بأزمة الغذاء، وما يرتبط بها من أزمات سياسية، ومالية واجتماعية، ما لم تستعد دول العالم، وبخاصة دول الجنوب كثيفة السكان محدودة الموارد لمزيد من الأعباء، وما لم يَستَفِق المجتمع الدولي؛ ليتخذ من الإجراءات السريعة، ما يحول دون كارثة محدقة سيمتد أثرها ليطال الجميع ولو بعد حين.