مع تطبيق الموازنة العامة الجديدة للدولة للعام المالي 2023/2024، انتهت خطة ترشيد الإنفاق الحكومي على المشروعات والأنشطة ذات المكون الدولاري وكذلك النفقات غير الضرورية، والتي طبقتها في النصف الأخير من العام المالي السابق (10 ينايرـ 30 يونيو 2023)، بهدف تخفيف الضغط على الاحتياطي النقدي وسعر صرف الدولار الأمريكي، وتقليص عجز الموازنة الناجم عن زيادة عبء فوائد الديون وأقساطها.

كانت الحكومة دشنت في يناير الماضي، خطة تنتهي بنهاية 30 يونيو 2023، تتضمن ترشيد الإنفاق بتأجيل تنفيذ أي مشروعات جديدة لم يتم البدء في تنفيذها ولها مكون دولاري واضح، وتأجيل الصرف على أي احتياجات لا تحمل طابع الضرورة القصوى، وترشيد جميع أعمال السفر خارج البلاد إلا للضرورة القصوى، وبعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، أو حال تحمّل الجهة الداعية لجميع التكاليف.

تولت وزارتا “المالية” و”التخطيط والتنمية الاقتصادية” مسئولية تطبيق الخطة،  وكانت مسئولية الأولى منح الترخيص بالصرف بالدولار بعد التنسيق مع البنك المركزي فيما يخص الباب الثاني من الموازنة العامة للدولة “شراء السلع والخدمات”، أما وزارة التخطيط فكانت مسئوليتها مرتبطة بالمشروعات المقرر البدء في تنفيذها وذات مكون دولاري واضح.

كان من المفترض ــ وفقًا لخطة ترشيد الإنفاق ـ أن يقدم وزير المالية تقريراً دورياً كل شهرين على رئاسة مجلس الوزراء، بمدى التزام الجهات المخاطبة بأحكامه وبنتائج تنفيذه، لكن الوزارة لم تعلن على الرأي العام أي من تلك التقارير الثلاثة التي يفترض إعدادها خلال مدة التنفيذ، ما يثير العديد من التساؤلات حول نتائج تطبيق الخطة على سعر صرف الدولار والاحتياطي النقدي، ومدى لاحتياج لإعادة تطبيقه مرة أخرى في ظل الضغوط التي يعاني منها الاقتصاد المحلي حاليًا.

شراء السلع والخدمات.. ارتفاع كبير  في العام الجديد

في الباب الثاني للموازنة العامة للدولة “شراء السلع والخدمات” مسئولية وزارة المالية، ارتفعت المخصصات للعام المالي الجديد إلى 139.3 مليار جنيه، مقابل 125.6 مليار في العام المالي المنتهي 2022/2023، وتشير البنود التي تتضمنها استمرار ارتفاع الإنفاق الحكومي على بند الخدمات.

تراجع بند شراء المواد الخام الذي يتضمن الأدوية والأغذية والمستلزمات الطبية ضمن ذلك الباب بقيمة تتجاوز مليار جنيه ليبلغ 39.6 مليار مقابل 40.7 مليار جنيه في العام المالي 2022/2023، بينما ارتفع بند الوقود والزيوت لسيارات الركوب بقيمة 56.6 مليون جنيه ليبلغ 725.9 مليون مقابل 669.2 مليون في الفترة المقارنة.,

بين “المستلزمات السلعية المتنوعة” في الباب الثاني للموازنة، ارتفعت العديد من البنود بشكل واضح منها مستلزمات الموسيقى لتبلغ  1.9 مليون جنيه مقابل مليون في الموازنة السابقة، ومستلزمات الألعاب الرياضية إلى 17 مليون مقابل 15.2 مليون ومستزمات التصوير إلى 40.4 مليون مقابل 24.8 مليون جنيه ومستلزمات تنظيم الحدائق إلى 12.2 مليون مقابل 10.5 مليون في الفترة المقارنة ذاتها.

بالنسبة لنفقات النشر والدعاية والإعلان والاستقبال، فارتفعت بنحو 389.4 مليون جنيه لتبلغ 989.1 مليون مقابل 599.7 مليون جنيه في االفترة المقارنة ومن بين البنود التي ارتفعت نفقات للأعياد والمواسم بنحو 43.7 مليون جنيه، مقابل 44.3 مليون في الموازنة السابقة، ونفقات الخدمات الإعلامية بقيمة 1.226 مليون مقابل 1.120 مليون، بجانب نفقات إيجار وخيام بنحو 25.2 مليون جنيه مقابل 22.8 مليون جنيه في العام السابق.

كما ارتفعت نفقات إقامة المعارض والمؤتمرات إلى 193 مليون  في العام المالي الحالي مقابل 148.9 مليون جنيه في العام السابق،  وتكاليف تبادل البعثات والوفود مع الحكومات الأجنبية وتنفيذ المعاهدات الثقافية إلى 116.8 مليون جنيه مقابل 108.2 مليون جنيه، ورغم تراجع مخصصات خدمات التليفون إلى 273 مليون جنيه مقابل 301.6 مليون جنيه، ارتفعت خطوط الانترنت المؤمنة من 6.9 مليون مقابل 5.3 مليون جنيه في الفترة المقارنة.

بحسب الخبير الاقتصادي نادي عزام ، فإن ارتفاع تلك الأرقام ناجم عن التضخم الذي رفع معه تكاليف الخدمات كلها بلا استثناء، لكن الدولة يجب عليها إعادة العمل بقرار ترشيد الإنفاق خاصة أن مسبباته لا تزال قائمة من وجود مشكلة دولارية تضغط على الاحتياطي النقدي، ومستهدفات يجب تحقيقها فيما يتعلق بالدين العام والفوائد.

يضيف أن القرارات الحكومية لترشيد الإنفاق العام، أسهمت بشكل إيجابي في التخفيف من عجز الموازنة، وتوفير عملة دولارية في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، كما وضعت خريطة للإنفاق مع ما سيتم إقراره من قرارات وإجراءات تنظيمية، بحيث تُقر الأولويات والضروريات وتستغني عن الكماليات.

تضمنت الخطة عدم السماح لأية جهة حكومية أو مسئول بالسفر للخارج أو إرسال وفود للخارج، وإيقاف كافة أشكال المنح التعليمية للخارج التي لها مكون بالدولار، إلا بعد الرجوع لرئيس مجلس الوزراء وأخذ موافقته، والتي ستساهم في الحفاظ على الدولار، لكن لم تلتزم بهها بعض الجهات كاتحاد كرة القدم الذي قام بتسفير وفود في مناسبات لا تتطلب  كمبارا ة مصر وغينيا يونيو الماضي.

مشروعات الدولة… ما الذي تم إرجاؤه؟

بالنسبة لوزارة التخطيط، كانت مسئوليتها تحديد المشروعات المستبعدة أو التي تم تأجيلها،  والتي لم يتم الإعلان عنها ولكن تقدير قيمتها بنحو 247 مليار جنيه وكذلك تحديد القطاعات التي تضمنه وهي الاسكان والمرافق، والنقل والطرق، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

“حياة كريمة”  كان من ضمن المشروعا التي أعلنت الحكومة استمرارها في تنفيذها لكنها تعرضت لتأخر مرحلته الأولى خاصة أنـه يتضمن إدخال الغاز الطبيعي وخطوط الانترنت الفايبر للريف المصري، وبعض مكوناته تستخدم آلات مستوردة من الخارج بالعملة الصعبة.

وزارة النقل قالت إن مشروعاتها تسير وفق جدول زمنى محدد ولا يوجد ما يضطرها للتوقف أو التأجيل خاصة أن بعضها مرتبط بقروض خارجية واستكمالها يساعد على الالتزام بسدادها في المواعيد المحددة، لكنها ألغت مشروع الخط الخامس لمترو الأنفاق واستبداله بالأتوبيس الترددي، على اعتبار ان الأخير تكاليفه أقل ومكوناته الدولارية في الحافلات فقط.

وشملت خطة وزارة النقل خلال الفترة من 2014 ـ 2022 أعمالاً بقيمة 1.96 تريليون جنيه تتضمن مشروعات طرق وكبارى  بحانب إنشاءات وتطوير السكك الحديدية، ومترو الأنفاق والجر الكهربائى، وتدشين وتطوير الموانئ البحرية، وكذلك المواني البرية والجافة والمراكز اللوجيستي، فضلاً عن تأهيل قطاع النقل النهري.

على العكس  تمامًا، كان قطاع العقارت المستهدف من القرار، وقدر الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء تداعياته بنحو  40 مليار جنيه بسبب إجراءات خفض الإنفاق العام على مشروعات عقارية، فالحكومة كانت تخطط لإنفاق 357 مليار جنيه على مشاريع قومية في العام المالي 2023/2022

رئيس مكتب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ستاندرد آند بورز جلوبال ماركت إنتلجنس، جاك كينيدي  يقول إن تنفيذ المشروعات المرتبطة بالعاصمة الإدارية الجديدة من ضمن المشروعات التي ارتبطت بالقرار الحكومي، لكن الدولة انتهت أخيرا من انتقال جميع الموظفين للحي الحكومي.

منحت شركة العاصمة الإدارية الشركات العاملة بالعاصمة مهلة تنفيذ المشروعات بدون توقيع غرامات إلى سنة بدلاً من ٦ شهور فقط، بالإضافة إلى إنشاء حسابات بنكية مشتركة مع المطورين لإعادة جدولة الأقساط المتبقية، كما تقوم شركة العاصمة أيضا بمد يد المساعدة الفنية والمالية والعقارية لكل مطور جاد يرغب في العمل.

يضيف عزام أن القرار الحكومي ارتبط بالمشروعات التي لم يتم البدء فيها لكن التي تم تدشينها بالفعل فاستمرت فهي عقود إلغائها يتضمن شروطًا جزائية وتنعكس على سمعة الاستثمار في مصر بشكل عام، كما أنها الداعم الأول للنمو الاقتصادي والتوظيف إذ وفرت نحو 5 ملايين فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة فالحكومة تحتاج لتوفير مليون وظيفة كل عام،  علاوة على رفع معدلات النمو بعد التباطؤ الاقتصادي بين عامي 2011 و2015.

لا يمكن للحكومة التوقف عن المشروعات القومية حاليًا خوفًا من الانزلاق للركود، فبحسب الدكتور شريف كامل ، عميد كلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ، فإن الاقتصاد المصري يصادف في 2023 عاماً مليئًا بالتحديات، نظرًا للتداعيات المتوقعة للركود العالمي وارتفاع التضخم، الذي يضيف مزيدًا من الضغط لاتخاذ بعض إجراءات الإصلاح الهيكلي وتوفير بيئة مواتية أكثر للأعمال والاستثمارات.

يقول كامل إن ترشيد الإنفاق العام والتركيز على قطاعات مثل التعليم والصحة، وجعل البلاد أكثر جاذبية كوجهة أعمال للمستثمرين الدوليين ، والتي يمكن أن تدر استثمارات أجنبية مباشرة عبر مختلف القطاعات الاقتصادية ليس فقط في النفط والغاز، والاستفادة من التجارة عبر الحدود والعمل على خفض الدين الوطني، عوامل أساسية لمواجهة تلك التحديات.

الركود التضخمي يطرق أبواب الاقتصاد

تتزايد المخاوف حاليًا من “الركود التضخمى” فمعدلات التضخم تواصل الارتفاع وسجلت 35.7%  في يونيو/حزيران من 32.7%  في مايو/ أيار  مسجلا أعلى مستوى على الإطلاق، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج رغم عدم قدرة الموطنين على شرائها ما يقلص من المبيعات وتوسع الشركات ويزيد من معدلات البطالة، وهي حالة تؤدي إلى ركود الأسواق وتعطل دورة الإنتاج.

محمود العسقلاني، مدير جمعية مواطنون ضد الغلاء، يحذر من حالة ركود غير مسبوقة ناتجة عن اختفاء وجفاف السوق من السيولة المالية أو عجز المستهلكين عن الشراء، واحتباس مدخراتهم لشراء الذهب أو الدولار باعتبارهما مخزن قيمة، أو شراء الشهادات ذات العائد 20% وأكثر، وفي الوقت ذاته هناك قطاع من عمال “التشييد والبناء” متوقفون نتيجة إيقاف تراخيص البناء، وهم يمثلون دورة اقتصاد وحياة كاملتين.

يقترح  الدكتور علاء بسيوني، مدرس الاقتصاد بكلية التجارة بجامعة الأزهر، سياسة توجيه الطلب إلى معالجة كل من التضخم والبطالة فى آن باستهداف البطالة والتضخم معًا ، باتباع سياسة اقتصادية تعمل على تحويل الطلب داخل المجتمع المعني بالدراسة من طلب استهلاكي إلى طلب استثماري، ومن ثم زيادة مستوى التشغيل والإنتاج وانخفاض معدل البطالة معًا.

يقصد بسيوني بتحويل الطلب إغراء المواطن على الاستثمار والتوقف عن المضاربة عبر تخصيص مساحات من الأراضي غير المستغلة بسعر التكلفة للأنشطة الصناعية والزراعية، وفرض ضريبة على الاستهلاك التفاخري وأخرى على شراء الذهب بغرض الاستثمار  وحفظ القيمة لتوجيه الأموال نحو مشروعات تستهدف التشغيل.

يقترح أيضًا أن يتحول المجتمع صوب الإنتاج بتولي مؤسسات المجتمع المدني والوحدات المحلية بالمدن والقرى استطلاع رأي البشر بخصوص المشروعات العامة التي يُحتاج إليها وترتيبها وفقًا للأهمية وأولويات التنفيذ، وكذلك رفع نسبة الإدخار إلى الناتج المحلي التي تبلغ 12.6% في المتوسط للفترة من 2011 ـ 2019 مقارنة بـ 24.69% في العالم.