في مثل هذا اليوم، قبل 71 عاماً، في 26 يوليو 1952م، أجبر الضباط الأحرار الملك فاروق على التنازل عن العرش وتعيين نجله الرضيع ولياً للعهد، حدث ذلك برضا كافة القوى السياسية، وعدم ممانعة القوى الدولية، وبالذات بريطانيا قوة الاحتلال، وأمريكا راعية وكفيلة العهد الجديد في أيامه المبكرة، قبل أن تنشب الخلافات في وقت لاحق، ثم بعد عام إلا قليلاً، وبالتحديد في 18 يونيو 1953م تأسست الجمهورية وذهبت الملكية أدراج الرياح .
كانت مشكلة مصر الأولى، قبل سبعين عاماً، أي زمن الملكية، وربما قبل مشكلة الاحتلال ذاتها، هي التفاوت الاجتماعي الصارخ بين أقلية لها كل شيء وأغلبية عليها كل شئ. وكان ذلك في حد ذاته، دافعاً كافياً لإلغاء الملكية ومبرِراً أخلاقياً لتأسيس الجمهورية .
ثم بعد سبعين عاماَ من الحكم الجمهوري، عادت المشكلة ذاتها لتحتل المركز الأول، حيث تفاوت اجتماعي صارخ، فأقلية لها كل شيء، وأغلبية عليها كل شيء، ترف الأقلية في برج عال، وفقر الأغلبية يملأ الأفق ما بين الوادي والدلتا .
السنوات العشر الأخيرة ، تمتاز عن كل ما سبقها من فترات العهد الجمهوري ، بأنها تمادت في سياسات نيوليبرالية منزوعة الحد الأدنى من الطابع الإنساني ، فنزعت رداء الستر عن كثيرين من شرائح الطبقات الوسيطة ، ثم زادت من قسوة الحياة على الطبقات الفقيرة ، خلقت أقلية محدودة ومعدودة ذات حظوة وامتيازات فنالت الثراء الفاحش بغير حق ولا جدارة إلا القرب من الحكام ، ووسعت من القواعد العريضة للفقر والفقراء ، فدخل تحت خطوط الفقر كثيرون لم يكونوا تحتها من قبل ، وليس لهم من ذنب إلا أنهم على قيد الحياة في هذه السنوات العشر الأصعب في تاريخ النظام الجمهوري ، فهي – من ناحية تأثيرها الاقتصادي على الحياة اليومية للمصريين – أصعب من السنوات العشر التي خاضت فيها مصر أربعة حروب متواصلة دون انقطاع يوماً واحداً ، من حرب اليمن ، إلى حرب 1967م ، إلى حرب الاستنزاف ، ثم إلى حرب 1973م .
السؤال رقم واحد ، الآن ، في كل بيت مصري ، بالذات من الطبقات الوسيطة والطبقات الفقيرة ، هو ماذا نطبخ اليوم ؟ هو ماذا نأكل في الوجبة المقبلة ؟ سؤال يؤرق بال وعقل وقلب وضمير كل ربة بيت وكل رب أسرة وكل من يقوم على تربية عدد قليل أو كثير من الابناء ، تدبير الوجبات الثلاث بانتظام بات نوعاً من المجاهدة والمكافحة الشاقة العسيرة ، دخول الناس كما هي لا تزيد ، يأكلها التضخم ، يزحف عليها غلاء الأسعار ، تنخفض القوة الشرائية للناس ، يقللون كمية ما يستهلكون ، ويقبلون بجودة أقل للسلع والخدمات ، هذا السؤال المؤرق للناس لا يؤرق الحكام ، فالحكام يعتقدون – كما يجهرون ويعلنون – أنهم يبنون للمصريين دولةً جديدة ، وأنه يجب على المصريين التحمل مهما كانت المشقات لأجل بناء هذه الدولة الجديدة ، الحكام يعتقدون في فكرة الدولة في ذاتها ، الدولة القوية مع نفسها ، الدولة التي لا تضعف ولا تلين ولا تستجيب لضعف الناس مهما توسلوا أو حتى تسولوا . المصريون متروكون – وحدهم – يقاتلون على ثلاث جبهات في الأربع وعشرين ساعة ، جبهة الفطور ، جبهة الغداء ، جبهة العشاء ، نضال يومي شاق يستنزف الأعصاب ويكدر راحة البال .
_1الخبير الاقتصدي الدكتور عبدالخالق فاروق ، رصد في فقرات موجزة ، كيف تضاعفت الأسعار في سنوات الجمهورية الجديدة ، عدة مرات ، بسرعة مذهلة ، في السنوات العشر : فأسعار اللحوم قفزت من خمسة وخمسين جنيهاً إلى أربعمائة جنيه . ( قفزت إلى أربعمائة وخمسين جنيهاً بعد ذلك ) . ثم الأرز قفز من ثلاثة جنيهات إلى ثلاثة وثلاثين جنيهاً . ثم كيلو الفراخ من ثمانية جنيهات إلى مائة جنيه . ثم لتر البنزين من جنيه واحد إلى اثني عشر جنيهاً . ثم الدولار من سبع جنيهات إلى خمسة وأربعين جنيهاً . ( يقصد في السوق السوداء ) . انتهى الاقتباس . ومعنى ذلك ، أنه بينما ظلت دخول المصريين في ثبات يأكلها التضخم فإن أسعار السلع تضاعفت قريباً من عشر مرات في سلع معينة وأكثر من عشر مرات في سلع أخرى .
_2الأستاذ تامر افندي مدير تحرير صحيفة البوابة ، عبر عن المعضلة بطريقة فلسفية ، بدون أرقام لكن بصدق تام ، كتب يقول ” بالورقة والقلم سيعجز عقلك عن استيعاب كيف يعيش الناس هنا في مصر ، سترى الناس تقف صفاً واحداً من أسوان في الجنوب حتى البحر المتوسط في الشمال ، كل شخص يضع يده في جيب الآخر ، من تحت خط الفقر حتى فاحش الثراء ، سترى سيارة فخمة تجاور كارو ، وترى أناساً يتصببون عرقاً وآخرين يتأففون منهم ، أقواماً مكدسين على كابينة المعاشات وآخرين يتزاحمون على حفل في مراسي ( يقصد أثرياء الساحل الشمالي ) ، سوف ترى منتجعات وفيلات شاغرة وفقراءً ينتظرون على باب غرفة حتى يغادرها الذين فيها ثم يحلون محلهم للنوم فيها . أطقال يحصلون على مصروف يومي يتخطى العشرة آلاف جنيه ، وأطفالاً آخرين ينتظرون وفاء الآباء لهم بوعد الملابس الجديدة حين تطبق الدولة الحد الأدنى للأجور . لولا بقايا من إيمان في القلب ، وإرث من الرضا تعاود الروح أن تمضغه ، ولولا تصاريف من الرب ، لدهست علاماتُ الاستفهام ما تبقى من صبر ، لكانت الإجابة إما جنون وأما كُفر . انتهى الاقتباس ، وهو يدخل تحت بند بلاغة الصدق في رسم ملامح التفاوت الاجتماعي بين الذين يملكون والذين لا يملكون في السنوات العشر الأخيرة من تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي .
_3لكن الدكتور محمد أبوالغار مؤسس الحزب الاجتماعي الديمقراطي ، ذهب إلى ما هو أبعد ، فقد اعتبر أن الأمر يتجاوز ارتفاع الأسعار ، وأن الخطر يتجاوز الانقسام الاجتماعي الحاد بين أقلية غنية جداً وأغلبية فقيرة جداً ، ذهب إلى أن الخطر أكبر من ذلك ، الخطر – عنده – يتهدد وجود المصريين في جملتهم ، وجودهم في أطار الدولة التي هي السياج العام الجامع لهم والتي هي المظلة المشتركة التي يأتلفون تحتها ، كتب تحت عنوان ” مخاطر تفكك الدولة ” ينتقد مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وطرق الحكم وأساليب الإدارة التي انتهجتها السلطة – ومازالت – في السنوات العشر الأخيرة ، يقول ” ما يقوم به النظام المصري ، هو السير بخطوات سريعة ، لتفكك الدولة وانهيارها . ما يحدث من انقطاع الكهرباء كان أمراً متوقعاً ومعروفاً ، حين اتُخذ قرار تصدير الغاز اللازم لتشغيل المحطات مقابل دولارات لدفع فوائد الديون . السياسة الكارثية في استيراد محطات التوليد ، بدون الحاجة إلى نصفها ، مقابل قروض من البنوك الألمانية ، أوضح حجم السياسات الاقتصادية البائسة ، كما أوضح كارثة عدم إجراء درسات جدوى ” . ثم يقول أبو الغار ” الأصوات ارتفعت في كل مكان تعلن غضبها ” ، ثم طلب من قيادة الدولة أن تعترف أنها أخطأت في سياسة القروض ، وأنها أخطأت في جزء كبير من العاصمة الإدارية ، وأنها أخطأت في الاعتقال والمحاكمات بقوانين القرون الوسطى ، وأنها حبست عشرات الآلاف ممن لم يحملوا سلاحاً ولم يحرضوا على عنف ، وأنها أخطأت في سياستها الخارجية بصدد نهر النيل كما بصدد العلاقات مع الدول العربية ، وأخطأت في الاستعانة بأهل الثقة وإهمال أهل الخبرة ، وأنها شوهت القاهرة ، وأنها دمرت الاسكندرية ، ولا أحد يعلم كيف سيتم سداد الديون . وختم أبو الغار بأن طلب من سلطة الحكم أن تعتذر للشعب ، ثم تطلق الحريات . أنتهى الاقتباس ، وهو أقوى بيان صدر عن رمز مصري محترم ، قوي في مباشرته ووضوحه وتسميته الأشياء دون لف حولها ولا دوران .
تاريخ مصر ، في السنوات العشر الأخيرة ، هو تاريخها في كل عهودها ، فهي ملك من يحكمها ، ويحكمها الأقوى ، والأقوى كان على مدى ألفين وخمسمائة عام من الغزاة ، ولم تُفلح السبعون عاماً الأخيرة في الخروج عن هذه القاعدة ، فمازال الحكام هم الملاك ، يجمعون بين الحكم والملكية ، أي يجمعون بين القرارين السياسي والاقتصادي ، طالما بقيت لهم القوة، واستمرت لهم السيطرة ، ودان لهم الناس ، ولم توجد مؤسسات سياسية أو شعبية حقيقية تعبر عن مصالح الشعب أو تبلورها أو تفرضها .
ثم من اجتماع القوة مع الحكم مع الملكية ينشأ التفاوت الاجتماعي ، وينشأ الانقسام بين من يملكون ومن لا يملكون ، بين الأغنياء والفقراء ، بين المتخم والجائع ، بين الثراء الفاحش والفقر المدقع . توزيع الثروات في مصر لا يتم نتاج قواعد عادلة ، بين من يعملون ومن لا يعملون أو بين من يعلمون ومن لا يعلمون أو بين من يبذلون جهداً أكبر ومن لا يبذلون ، التوزيع في مصر ، كان ومازال – نتاج القرب أو البعد عن مراكز السلطة ، الثراء في مصر عمل من أعمال السلطة ، والفقر في مصر عمل من أعمال السلطة ، السلطة في مصر – كانت ومازالت – تملك المفاتيح والمقدرة على تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي ، لديها القدرة على أن ترفع من تشاء ، ثم تخفض عن عمد أو عن جهل من تشاء ومن لا تشاء . الثراء في مصر ابن السلطة ، والفقر فيها نتاج السياسة ، والفساه هو تربة الثراء ، والاستغلال هو منشأ الفقر ، ودليل ذلك السنوات العشر الأخيرة فقد أثرى فيها اناس دون سبب معقول من جدارة أو تفوق أو جهد زائد أو استحقاق ، كما زجف الفقر على كثيرين دون تقصير منهم ، فما قعدوا عن العمل ، ولا توقفوا عن السعي على الرزق ، ولا ناموا في البيوت وانتظروا عطايا السماء .
في ص 121 من الجزء الثاني من تاريخ الجبرتي ، نقرأ في رصده لأحداث العام الهجري 1198 أي ما يوازي 1784م مايلي : ” وانقضت السنة ، كالتي قبلها ، في الشدة ، والغلاء ، وقصور النيل ( يقصد نقص الفيضان ) والفتن المستمرة ، وتوافر المصادرات والمظالم من الأمراء ( يقصد طيقة الحكم العسكري من بكوات المماليك الذين هيمنوا على السياسة والاقتصاد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ) ، وانتشار أتباعهم في النواحي ، لجباية الأموال من القرى والبلدان ، وإحداث أنواع المظالم ، ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة ، حتى أهلكوا الفلاحين ، وضاق ذرعُهُم ، واشتد كربُهم ، وطفشوا من بلادهم ، فحولوا الطلب على الملتزمين ( يقصد أن الناس لما هربت من كثرة الجبايات سحب أمراء المماليك وقادة الجند جباتهم المباشرين وحولوا أداء المهمة على عاتق الملتزمين وهم لا يقلون في قسوتهم عن هؤلاء ) .
ثم يقول : ” فاحتاج مساتيرُ الناس لبيع أمتعتهم ، ولبيع دورهم ، ولبيع مواشيهم ، بسبب ذلك ، مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك “. ثم يشرح كيف أن السلطة تتبع من تشم منه رائحة الغنى ، فتلقي القبض عليه ، ثم تحبسه ، ثم تحت قهر الحبس تطلب منه أداء أضعاف ما يقدر عليه ، يقول الجبرتي : ” وتتبع من يُشم فيه رائحة الغنى ، فيؤخذ ، ويُحبس ، ويُكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه ” . ومثلما تستدين السلطة الحالية من البنوك المحلية فزاحمت المستثمرين ولم تترك لهم من ائتمان البنوك شيئاً ، كان بكوات المماليك يستدينون من كبار التجار قهراً وجبراً ، يقول الجبرتي ” وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار ( كانت تجارة البن والبهار العالمية حتى ذاك الوقت بين يدي التجار المصريين ) ولما تحقق التجار عدم الرد – يقصد تأكد لهم أن الحكام لن يردوا لهم ما استلفوه منهم – استعوضوا خساراتهم من زيادة الأسعار ( يقصد أن التجار لجأوا إلى رفع الأسعار كحل لتعويض ما استلفه منهم الحكام ولم يردوه لهم ) . ثم يشرح الجبرتي كيف أن الجكام من بكوات المماليك وقادة الجند مدوا أياديهم إلى تركات الموتى ، سواء كان للميث ورثة شرعيون أم لم يكن ، يقول ” ثم مدوا أيديهم إلى المواريث ، فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده ، سواء كان له وارث أو لا ” . ثم يشرح الفساد الذي ترتب عليه أن منصب الإشراف على بيت المال أصبح يُباعُ ويُشترى في مقابل مادي معلوم ، يقول ” وصار بيت المال من جملة المناصب التي يتولاها شرار الناس ، بجملة من المال ، يقوم بدفعه في كل شهر ، ولا يُعارض في الجزئيات ، أما الكليات فيختص بها الأمير ” . ثم يشرح الجبرتي خلاصة الأوضاع الاقتصادية البائسة من جراء سياسات الحكم الظالمة في ذلك العام من الثلث الأخير من القرن الثامن عشر ، فيقول ” فحل بالناس ما لا يُوصفُ من أنواع البلاء ، إلا من تداركه الله برحمته ، أو اختلس شيئاً من حقه – ضع سطراً تحت اختلس شيئاً من حقه – فإن اشتهروا عليه أي لو اكتشفوا أنه أخفى عنهم بعض ما يملك ، عوقب عليه ، أي عاقبوه على ذلك ” .
بعد فساد السياسة ، وتدهور الاقتصاد ، لازم يدخل المجتمع في طور تحلل لكل ما فيه من قيم وتدهور لكل ما فيه من أخلاق واصمحلال لكل ما فيه من أصول ينهض عليها العقد الاجتماعي الذي يجعل من مجموعات من الناس أمة أو شعباً أو كياناً حضارياً وثقافياً قائماً بذاته ، ففي ص 122 من الجزء الثاني ، يقول الجبرتي ” وفسدت النيات ، وتغيرت القلوب ، ونفرت الطباع ، وكان الحسد والحقد في الناس لبعضهم البعض ، قيتتبع الشخصُ عورات أخيه ، ويُدلي به إلى الظالم أي يمارس فعل الوشاية القبيح ضد أخيه لدى الحكام الظلمة ، حتى خرب الإقليم ، وانقطعت الطرق ، وعربدت أولادُ الحرام ، وفُقد الأمن ، ومُنعت السبل إلا بالخفارة وركوب الغرور أي امتنع السفر إلا في وجود حراسة وفي أوقات غير معلومة ” . ثم يشرح أثر ذلك كله على الريف الذي هو قوة الانتاج ومصدر الثروة ، فيشرح أن الفلاحين هجروا قراهم لسببين : لنقص المياه ، ولوفرة الظلم الواقع عليهم ، ثم لجأوا إلى المدن ، وهذا يضع أيادينا على جذور الهجرة من الريف وتكوين العشوائيات على أطراف المدن ، يقول الجبرتي ” وجلت الفلاحون من بلادهم من الشراقي ومن الظلم ، وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم ، يصيحون من الجوع ، ويأكلون ما يتساقط في الطرقات من قشور البطيخ وغيره ” . ويشرح الجبرتي شيئاً يشبه ما نعيشه هذه الأيام ، فمع زحف الفقر على الطبقات الوسيطة – في السنوات الأخيرة – فقد زبالتهم وقمامة بيوتهم ما كان يطعمه الكلاب والقطط من صناديق الزبالة العمومية ولذلك باتت الكلاب بالذات تبدو متوحشة مسعورة ، لكن في أيام الجبرتي كانت زبالة المدن يأكلها الفلاحون الهاربون من قراهم جراء الجفاف والمظالم معاً ، يقول الجبرتي ” فلا يجد الزبال شيئاً يكنسه من ذلك أي من قشور البطيخ وغيرها ” .
ثم يشرح ما وصلت إليه أوضاع هؤلاء الفقراء فيقول ” واشتد بهم الحال ، حتى أكلوا الميتات من الخيل والحمير والجمال ، فإذا خرج حمار ميت ، تزاحموا عليه ، وقطعوه ، ومنهم من يأكله نياً من شدة الجوع ، ومات الكثير من الفقراء من شدة الجوع هذا ، والغلاء مستمر ، والأسعار في الشدة ، وعز الدرهم والدينا من أيدي الناس ، وقل التعامل إلا فيما يؤكل – يقصد أن اقبال الناس على البيع والشراء اقتصر فقط على الطعام وركدت السلع الأخرى نظراً لتدني القدرة الشرائية لديهم . ثم يقول ” وصار سمر الناس وحديثهم في المجالس ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير ” ، ثم يقول ” ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهل مصر من الجوع ” .
ثم يرسم مشهد الخلاصة فيقول : ” بلغ سعر أردب القمح ألفاً وثلثمائة نصف فضة ، وسعر الفول والشعير قريباً من ذلك ، وأما بقية الحبوب والأبزار – يقصد البذور – فقل أن توجد ، واستمر ساحل الغلة خالياً من الغلال بطول السنة ، والشون كذلك مقفولة ، وأرزاق الناس وعلائفهم مقطوعة ” . انتهى الاقتباس من الجبرتي .
عندي تعليق موجز على كلام الجبرتي ، فيما يخص قوله أن الشخص الذي يشم منه الحكام والجُباةُ رائحة الغنى والثروة ، يؤخذ ، ثم يُحبس ، ثم يُطلب منه أداء أضعاف ما يستطيعه ويقدر عليه . هذا القول من الجبرتي فسر لي ماذكره المستشرق الفرنسي – دي شابرول – أحد رفقاء حملة نابليون على مصر ، في دراسته عن المصريين المحدثين في المجلد الأول من الطبعة العربية من موسوعة وصف مصر ، إذ يقول في ص 260 ما معناه أن رأى كثيرين من الفلاحين يتسولون ، ثم اكتشف أن هذا التسول ليس إلا من باب الخداع للسلطة الحاكمة ، حتى لا تظن أن لديهم أموالاً فتنهبها وتسلبها ، يقول دي شابرول ” الفلاح ، لا يلجأ ، لهذا التسول المظهري ، إلا ليخدع مضطهديه ، فمن المهم بالنسبة له ، أن يظنه الناس بلا مورد رزق وبلا وسيلة للعيش ، ذلك أنه يرتجف على الدوام خوفاً من أن يرى نفسه وقد انتزع منه القليل الذي يملكه ، لهذا فإنه يشهد العالم كله على فقره وعوزه ” ثم يقول ” وقد لا يدرك الغريب الذي لا يعرف عادات البلاد ، أن هؤلاء الذين يتسولون بهذا الإلحاح ، يدفعون إيجار أرض يفلحونها ، ويمتلكون ماشيةً وخيولاً وحميراً ، ويعولون عائلات كبيرة العدد ، عن طريق زراعتهم الفاكهة والخضروات ، التي يعرفون كيف يعودون منها بالنفع على أنفسهم وعلى أسرهم وقت الحصاد ” . انتهى الاقتباس .
ومن عندي ، أضيف ، أن الجمهورية الجديدة ، اشتدت وقست على المصريين ، من اعتقاد لديها أن معهم فلوساً في الباطن أكثر مما يبدو في الظاهر ، اعتقاد وهمي لكن ترتب عليه إرهاق قاسي .
المؤرخ الشاب والصحفي المثقف الأستاذ حسن حافظ له قراءة عميقة ، في حالة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الصارخ الذي تعيشه مصر ، يلخص قراءته في سيطرة طبقتين متباعدتين متناقضتين في الظاهر هما طبقة الكومبوندات المترفة وطبقة العشوائيات البائسة ، لكنهما – في الحقيقة – وجهان لحقيقة اجتماعية واحدة ، هذه الحقيقة هي غياب الطبقات الوسيطة ، هذه الطبقات الوسيطة تركت – بغيابها – فراغاً قيمياً وأخلاقياً ورسالياً عجزت عن أن تملأه كل من طبقة الكومبوندات ونقيضها من طبقة العشوائيات . يقول ” هما معاً ، يقصد طبقة الكومبوند وطبقة العشوائية ، يقدمان قيمةً واحدةً ، هي قيمة البحث عن الثراء السريع ، واحتكار السلطة ، ودهس القانون ، ودهس الآخرين على حد سواء ” . ثم يقول ” لا اختلاف هنا ، بين ابن الكومبوند ، وابن العشوائية ، فالقيمة التي يروج لها الطرفان واحدة ، بل أي غطاء أخلاقي أو ديني أو قيمي ، فالغاية تبرر الوسيلة الحقيرة ، في ظل مجتمع يعاني من فردية قاتلة ، إذ يعتنق الفريقان أن الحرية هي أن تفعل ما تريد تحت غطاء البلطجة والسرسجة ” ، ثم يقول ” لذا يبدو كل ما يُقدم في مصر ، اليوم ، بلا روح ، بلا هوية ، بلا عمق ، لأنه ابن هذه اللحظة العفنة ، لحظة لا ظهير فيها لأي خطاب عقلاني أو جاد ، يحاول أن يناقش الأمور – بجدية – في مقابل صعود خطاب التفاهة والسطحية الرائج عند أبناء الكومبوندات وأبناء العشوائيات ، وهم في الحالتين ضائعون في اللهاث الاستهلاكي الرأسمالي ” . انتهى الاقتباس .
عندما تبحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمصريين عند مطلع الدولة الحديثة ، أو عند خواتيم العصر المملوكي العثماني مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، أو عند السنوات الأولى من القرن التاسع عشر أي مع قدوم الفرنسيين ثم تولية محمد علي باشا ، عندما تبحث في بواكير تشكلنا الاقتصادي الاجتماعي الحديث ، تجد أن ما ذكره المؤرخ الشاب والصحفي المثقف حسن حافظ له جذور من الصواب قديمة متأصلة ، حيث المجتمع منقسم ما بين ارستقراطية تنهب ، وعشوائية تستبيح ، وطبقات وسيطة مهمشة أو غائبة . ثراء الكومبوندات والساحل جديد في تشكله لكن قديم متأصل الجذور في البنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، كذلك فقر العشوائيات ليس مستجداً ، أما كفاح الطبقات الوسيطة ضد التهميش والتغييب فهو جوهر التاريخ المصري الحديث .
أول ما تقرأ في هذا الباب ، ما كتبه المستشرق الفرنسي آدم فرانسوا جومار 1777م – 1862م في دراسته – قبل وأثناء وبعد الحملة الفرنسية – عن مدينة القاهرة ، وقد وردت في المجلد العاشر من الطبعة العربية من موسوعة ” وصف مصر ” ، وقد أشاد به الشيخ رفاعة الطهطاوي 1801 – 1873 م في الباب الرابع من كتابه ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” في طبعته الأولى الصادرة عام 1834م ، وجومار هو ثاني من تولى رئاسة المجمع العلمي المصري الذي أسسه نابليون ليكون أكاديمية على النمط الفرنسي ، وجومار هو من تبنى فكرة نابليون في ضرورة ابتعاث عدد من المصريين للدراسة في فرنسا ثم العودة للدعوة للقيم الفرنسية ، وجومار هو من ملأ دماغ محمد علي باشا بهذه الفكرة ، ولهذا ولاه الباشا مسؤولية الإشراف العلمي على المبعوثين المصريين في جامعات فرنسا ، في ص 47 من المجلد الثاني من مجموعة الأعمال الكاملة ، يقول عنه الطهطاوي ” جناب مسيو ” جومار ” الذي ولاه صاحب السعادة – يقصد محمد علي باشا – ناظراً على الدروس ، وهو أحد علماء ” الإنستتيوت ” أي مشورة العلوم ، وأكابرهم ، والذي يتراءى في طبعه حب حضرة صاحب السعادة وخدمته بنُصح ، ويُشاهد منه دائماً أنه يرغب في الاعتناء بمصالح مصر من جهة نشر العلوم والمعارف فيها ، بل وفي سائر بلاد الإفريقية ، وشُهرة معراف مسيو ” جومار ” وحسن تدبيره يوقع في نفس الإنسان من أول وهلة تفضيل القلم على السيف ، لأنه يدبر بقلمه مالا يدبره غيره بسيفه ألف مرة ، ولا عجب فبالأقلام تُساسُ الأقاليم ، وهمته في مصالح العلوم سريعة كثيرة التأليف والاشتغال ، والغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج ، فإن الكاتب مثل الدولاب إذا تعطل تكسر ، ومثل المفتاح الحديد إذا تُرك ركبه الصدأ ، وجناب مسيو ” جومار ” يشتغل بالعلوم آناء الليل وأطراف النهار ” . انتهى تعريف الرافعي لشخص جومار .
قبل أن نذهب إلى دراسة مسيو جومار ، وقبل الذهاب إلى حديثه عن طبقات الترف الزائد والثراء والفاحش في مدينة القاهرة ، أحب أن أشير إلى شريحة اجتماعية وجودها من لوازم الارستقراطية ، هذه الشريحة هي فئات الخدم بكافة مهامتهم في قصور الأغنياء ، فوجود الأثرياء يترتب عليه وجود الخدم كمهنة وحرفة وصنعة ومركز اجتماعي ، ففي خاتمة دراسة دي شابرول 1773 – 1843م عن ” المصريين المحدثين ” تحدث في ص 264 وما بعدها عن فئات الخدم ، يقول ” ويبلغ عدد الخدم العاملين في القاهرة ، ثلاثة آلاف ، يشكلون طبقات متمايزة فيما بينهم حسب طبيعة أعمالهم :
_1سُياس الخيول ، والسايس ينام بالقرب من الخيول التي يوكل إليه أمر العناية بها ، ويكاد السايس لا يتقاضى أجراً ، لكنه يحصل على عدد لا يُحصى من المكاسب الصغيرة المحظورة ، ويحصل في معظم المناسبات على هدايا مثل العيدية في الأعياد ، وباختصار فهو يعيش في بحبوحة ، ومعظم هؤلاء الخدم لا يتزوجون ، وهم نظفاء ، وملابسهم حسنة ، وعنيدون ، لا يعبرون عن غضبهم إلا فيما بينهم وبين غيرهم من الخدم ، لكنهم يبدون الكثير من الخضوع نحو أسيادهم .
_2فراشو المنازل ، فراش المنزل هو الذي يُعنى بالأثاث ، وهو الذي يسهر على نظافة البيوت ، وعلى الإضاءة ، وهو يقيم عند سيده ، ولا يترك مسكنه إلا عند زواجه ، وهو على الدوام حسن الملبس ، وهذه الطبقة هي التي تساهم في إعداد ملذات أسيادهم المنحطة ، وهم يندفعون في القيام بإعداد هذه الملذات المنحطة لأبعد مما كان السادة يرغبون ، وأجرهم ليس محدداً ، لكن يتوقف على مشيئة السادة . وعندما يترقى فراش المنزل إلى رئيس خدم ، يصبح له منزل ، أو منزلان ، وزوجتان ، في كل منزل زوجة ، وأثاث بيوتهم فاخر إلى حد ما ، وتمتلك زوجاتهم بعض الحلي .
_3القواسون ، القواس خادم متعدد المهمات ، يسبقون سادتهم في الطريق ، يمشون على الأقدام ، يحملون العصا ، يبعدون بها المشاة عن طريق أسيادهم . ثم هم ينقلون أوامر أسيادهم داخل المدينة وإلى القرى المجاورة ، يتم اختيار القواسين من الفلاحين وأبناء الريف ولا يصلح لهذه المهمة أبناء المدن ، والقواس لا يحصل على أجر ، فقط يحصل على الخبز ، لكنه يعوض ذلك عن طريق تحصيل المغارم والأتاوات من الذين ينقل إليهم أوامر سيده .والقواس – عند الأسياد الكبار – هو من يقوم بأعمال السلب والنهب لحسابهم وبأوامر منهم . هؤلاء النوع من الخدم متزوجون ، وزوجاتهم تعيش مثل زوجة حرفي مستور ، وعندما يترقى القواس فإنه يحمل لقب ” مقدم ” ويغتنون بسرعة من فرض وتحصيل الإتاوات .
_4السقاؤون ، السقاء – على نحو ما – هو رسول بين الحريم ، وينتهي بهم الأمر إلى تكوين ثروات كبيرة ، والنساء هن من يخترن السقائين ، ثم يتبادلنهن فيما بينهن ، وتتمتع هذه الشريحة من الخدم بحظوظ أفضل من الآخرين ، إذ يوليهم أرباب البيوت أكبر قدر من الرعاية ، وتبسط عليهن النساء حمايتهن ، ويحرصن على راحتهم . ( واضح من نص الكلام أن هؤلاء السقائين خدم منازل ، احضار الماء والسقاية داخل القصور ـ وليسوا باعة مياه يتجولون في المدينة ).
ويختتم دي شابرول بأن طبقة الخدم في مصر تلقى معاملة طيبة من الأسياد إلا نادراً ، وأن مشاجرات تنشب بين البكوات والأثرياء بسبب تحيز كل طرف منهم لخدمه .
ثم يتحدث عن أخلاق عموم طبقات الخدم ، فيقول : ” وطبع هؤلاء الخدم – عادةً – سئ مرذول ، ومن يصل منهم إلى درجة الثراء يصبحون وقحين متعاظمين ، وهم وشاة ، غدارون ، مُخاتلون ، ماكرون ، وويل لمن لا حماية له ولا جاه إذا تعامل معهم ، إنهم أكثر غلظة وقسوة من المماليك الذين يخدمونهم ” . انتهى الحديث عن طبقة الخدم عند بواكير التاريخ الحديث .
في ص 220 من المجلد الثاني من الطبعة العربية من موسوعة ” وصف مصر ” دراسة مهمة عن العربان في مصر الوسطى ، بقلم جومار ، يتحدث فيها عمن أسماهم ” الأثرياء العاطلون ” ، وقفت عند عبقرية هذا المصطلح كثيراً ، ورأيته يفسر الكثير من ظواهر التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الصارخ في مصر الحديثة ، فالذين يعملون ، ويكدون في العمل ، ويخلصون فيه ، فقراء ، ويستمرون فقراء ، بينما ذوو الحظوة وأصحاب الامتيازات والمقربون من السلطة أثرياء سواء عملوا أو تبطلوا ، الثروة تلد ثلد الثروة ، والتزاوج مع السلطة يضمن زيادتها ونماءها طالما بقي التزاوج قائماً ، وهذا ما يطرح أعظم وأخطر الأسئلة التي تعيد فهم وبلورة وقراءة وكتابة تاريخ مصر الحديث : كيف يُصنع الفقر في مصر ؟ كيف تُصنع الثروات في مصر ؟ من جعل هذا المصري فقيراً ؟ ومن جعل ذاك المصري غنياً ؟ . دون فتح هذه التساؤلات على أوسع مدى ممكن سوف يظل تاريخ مصر مُبتسراً ومُختزلاً وعقيماً .
الأستاذ جمال زايدة من شيوخ الصحافة الاقتصادية في مصر ومدير تحرير صحيفة الأهرام لسنوات عديدة في أيام مجدها ، كتب عن أثريا مصر الجدد ، فقال ” الألف الكبار منهم أموالهم وممتلكاتهم في أوروبا وجزر الكاريبي “.
نستكمل في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى .