حان وقت فتح نقاش عام حول المسار الاقتصادي الحالي، وجدوى الخيارات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة طوال السنوات الأخيرة، وكيف يمكن الخروج من الأزمة الحالية بمراجعة جراحية لهذه الخيارات.

والحقيقة، أن هذا النقاش يجب أن يبدأ بطرح أسئلة حول الواقع الحالي، بعيدا عن أي استقطاب سياسي، ينطلق من لغة الأرقام والأولويات التي يجب أن تحكم التساؤلات الحقيقية حول الوضع الاقتصادي، لأن ذلك وحده هو الذي سيؤدي إلى تقديم إجابات جديدة تنقلنا للأمام.

أسئلة حقيقية وإجابات جديدة

الأسئلة الحقيقية حول طبيعة الأوضاع الاقتصادية في مصر، تعني تجاوز خطاب أهل الشر، والمتربصين بمصر والمتآمرين عليها لصالح العودة للعلم، ولغة الأرقام ودراسة الجدوى، وعدم البدء في أي مشاريع ليس لها عائد إنتاجي، والتوقف عن الأخرى التي لن يكون لها عائد إنتاجي، وأن طرح هذه التساؤلات حول المسار السابق، ليس من أجل تصفية حسابات مع الماضي، إنما من أجل المستقبل، وطرح مسار جديد يتجاوز أخطاء الماضي، وهنا نتساءل:

1- هل هذا السيل الذي شهدته مصر من بناء الكباري، والمحاور كان سببا وراء إنفاق مليارات الجنيهات في إنشاءات بعضها بالقطع مفيد، ولكن مؤخرا بات كثيرا منها غير مفيد؟ وألم يحن الوقت للتوقف عن هذه الإنشاءات، مهما كانت ضغوط الشركات المستفيدة منها.

2- هل الإصرار على نقل الوزارات والموظفين في أقرب فرصة إلى العاصمة الإدارية، وإنفاق المليارات من أجل ذلك، أمر يجب التمسك به تحت كل الظروف، أم يجب مراجعته وتأجيله، كما نرى وفق حسابات الرشادة الاقتصادية ؟؟؟

صحيح أن مصر تشهد زيادة في عدد السكان، ومفهوم أن يمتد البناء والعمران إلى أماكن جديدة، كما جرى من قبل، إلا أن الإصرار على الانتهاء من أعمال البناء في العاصمة الإدارية في وقت قياسي، أمر كلف البلاد مليارات إضافية، وهي تكلفة كانت البلاد في غنى عنها.

3 – هل الاقتراض من أجل المونوريل والقطار السريع والكهربائي، يمثل أولوية بالنسبة لعموم المصريين، وألم يكن من باب أولى تطوير سكك حديد مصر تطويرا حقيقيا وجذريا، وهو المرفق الذي يستخدمه ملايين المصريين من مختلف الشرائح الاجتماعية، وتكلفته ستعتبر محدودة مقارنة، بما كلفته هذه القطارات من قروض ونفقات.

4 – هل الاهتمام بالتطوير الشكلي للحدائق والشوارع، والميادين بجانب هدم جانب من المقابر التاريخية لصالح بناء محور، أكد خبراء العمارة في تقريرهم الذي رفعوه لرئيس الحكومة، إنه غير ذي جدوى مرورية أو اقتصادية، هل كل ذلك يمثل أي أولوية؟؟ وكأن المطلوب هو تغيير الهوية البصرية للمدن المصرية، وتشويه كثير منها، ويجب التوقف عن ذلك.

5 – كم كلفت العملة الورقية الجديدة، وما هو الهدف من صرف مليارات الجنيهات على شكل جديد للعملة، في وقت يئن فيه عموم الشعب المصري من أزمة اقتصادية، وتعاني البلاد من ديون متزايدة؟

6 – يجب التوقف عن بناء مزيد من المنشآت الضخمة على طريقة أكبر برج، وأكبر مسجد، و أكبر كنيسة في حين تراجع حجم الإنفاق على التعليم بصورة غير مسبوقة ليصل؛ إلى 1.6%، وهو أقل من النسب السابقة التي عرفتها مختلف نظمنا الجمهورية، حيث تراوحت ما بين 4 إلى 5% من ميزانية البلاد.

الحصيلة الصعبة

هذه الخيارات السابقة، كانت سببا أساسيا وراء تفاقم أزمة الديون، والأزمة الاقتصادية في البلاد، وهو أمر يتطلب تأمل جاد للوضع الحالي، ومراجعة جراحية لكل التوجهات السابقة، وهنا سنقول:

  • الدين الخارجي وصل لحوالي 165 مليار دولار أمريكي، وهو رقم ضخم وغير مسبوق، ومطلوب من مصر أن تسدد حتى يناير من العام المقبل حوالي 11 ونصف مليار دولار، وهي عبارة عن 3 مليارات $ منهم فوائد ديون + 8.4 مليارات $ أقساط ديون مستحقة.
  • سيكون مطلوب من مصر في العام المقبل، أي في 2024، سداد حوالي 28 مليار دولار (5.5 مليارات $ فوائد ديون + 22.5 مليارا $ أقساط ديون)أي بمعدل 2.3 ملياري دولار كل شهر، ويكفي الإشارة لحجم الإرباك الذي سببه تسديد خدمة دين حاليا تقدر بحوالي 2 مليارين، اضطرت فيها الحكومة إلى بيع  أصول تملكها في  شركات الفنادق (بعضها تاريخي) بجانب “باكين” و”الحفر الوطنية”، و”إيلاب”، و”جبل الزيت”، و”سيمينز”، و”عز الدخيلة”، و”المصرية للاتصالات”، دفع فيها 1.65 مليار  بالدولار الأمريكي، والباقي بالجنيه المصري، وهو ما يعني أن عملية بيع الأصول على مخاطرها ليست سهلة، خاصة بعد أن انسحب كثير من المستثمرين من السوق المصري، كما اتضح عدم حماس شركاء إقليميين لضخ استثمارات جديدة، وبات ما ينشر من مؤشرات في كبريات الصحف العالمية عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية، يثير المخاوف ولا يشجع على أي استثمارات جديدة.

الأمر المقلق أن الاستمرار في بيع الأصول كمخرج يبدو وحيدا أمام الدولة؛ لحل مشكلة تراكم الديون، يعني ببساطة انخفاض الدخل، وتراجع الإيرادات السنوية في وقت تشهد البلاد عجزا في ميزانيتها الجديدة، يقدر بحوالي 849 مليار جنيه، وهو الفارق بين إيرادات الموازنة التي تم الموافقة عليها بدايات هذا الشهر، ويقدر بحوالي 2.15 تريليوني جنيه، وبين المصروفات التي تقدر بحوالي 3 تريليونات جنيه.

تبقى المشكلة الحقيقية،أن تعامل الحكومة مع هذا الوضع الاقتصادي المأزوم، وشديد الخطورة يتركز في مسألتين: الأولى، هي بيع الأصول، بما يعني نقص إيراداتها، والثانية: هو طلب مزيد من القروض؛ لتسديد القروض القديمة، وهو خيار يرحل المشكلة ويزيدها تفاقما.

إن هذين الحلين اللذين تطرحهما الحكومة، يعقدان الأزمة الاقتصادية، لأنها “أي الحكومة” حتى اللحظة لا ترغب في الاقتراب من جوهرها، وتعرف أنها بسبب النموذج الاقتصادي الحالي، وأولويات المشاريع القائمة، وهنا يجب نقد السياسات السابقة ليس بغرض البكاء على اللبن المسكوب، إنما من أجل تقديم إجابات جديدة تُحدِث قطيعة مع الحلول الحالية.

مظاهر الخلل في الأولويات تحتاج إلى الاعتراف بكل هذه الأخطاء السابقة، ليس بغرض تصفية الحسابات، إنما من أجل تصحيح المسار بأسرع ما يمكن، والرهان فقط على الاستثمار المنتج خاص وعام بمعايير واحدالحقيقةة، حتى نستطيع أن نخرج من أزمتنا الكبيرة.