في مساجلات يوليو التي تعيد إنتاج نفسها كل عام، يُطرح سؤال المستقبل نفسه في ثنايا الكلام.
هناك من تساءل بجدية: متى وكيف تنقضي حقبة يوليو؟
السؤال محمل على افتراض أن الحاضر ينتمي إلى ثورة يوليو، وأن مصر حكمها نظام واحد، وجمهورية واحدة، حقبة سياسية متصلة على مدى أكثر من سبعين عاما.
بقوة التاريخ المشترك، ثورة يوليو إرث عام، لا يخص تيارًا سياسًيا دون آخر، ولا جيلًا دون آخر، ومن حق جميع الأطراف الوطنية أن تبدي وجهة نظرها فيها، وأن تختلف معها في موضع أو آخر، لكن بشرط ألا تزيف التاريخ وحقائقه الأساسية، أو أن تقول كلامًا عامًا مرسلًا لا يستند إلى دليل أو منطق.
ثورة يوليو انتهت تمامًا في السبعينيات، والرئيس الأسبق “أنور السادات” يعلن نهاية “الشرعية الثورية” والانتقال إلى “الشرعية الدستورية”.
لم يكن “السادات” جادًا في الالتزام بالدستور وقواعده الملزمة، وكان اعتقاده أن الدستور يحكم من بعده، وأنه آخر الفراعين الذين لا يحكمهم دستور!
أنهيت الشرعية الثورية دون أن تتأسس شرعية دستورية.
استخدمت الثورة أدوات الدولة لإحداث أكبر تغيير اجتماعي.
بنفس الأدوات جرت الثورة المضادة.
إرث يوليو الوطني والاجتماعي تقوض تمامًا وإرثها في إدارة الدولة وتأكيد سطوتها امتد بعدها.
الانقلاب على يوليو وشرعيتها وإنجازاتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسي، بصورة تسمح بانتقال واسع لدولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات.
كأي نظام ثوري فهو فعل استثنائي انتقالي، قاد أوسع عملية تغيير في البنية الاجتماعية، أخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض في الوقت نفسه معارك مفتوحة في إقليمه وعالمه، ودخل حروبًا طاحنة في الصراع على المنطقة.
الثورات لا تحاسب بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التي تبنتها، أو خارج السياق التي عملت فيه والعصر الذي احتضن تفاعلاتها.
لسنوات طويلة كان السؤال الرئيسي: “ماذا تبقى من ثورة يوليو؟”.
السؤال- بذاته- يعني أن نظامها انتهى وتوجهاتها جرى الانقضاض عليها.
مع بداية الانفتاح الاقتصادي عام (١٩٧٤) تردد في السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية في البنية الطبقية للمجتمع، التي نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية “يوليو”.
كانت انتفاضة الخبز في يناير (١٩٧٧) ذروة الصدام الاجتماعي، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتي “كامب ديفيد” عام (١٩٧٨).
“حسني مبارك” مضى في الطريق نفسه الذي خطه “السادات”، وكرس الخيارات النقيضة دون صدمات كهربائية كان يتبعها سلفه.
في “يناير” عاد الكلام مجددًا عن يوليو من منظور جديد.
هناك من حاول أن يسوغ أنها ثورة على يوليو!
كان ذلك استخفافًا بحقائق التاريخ وهزلًا في مقام الجد.
تغييب التراكم والتواصل بين ثورتي “يناير” و”يوليو” من أسباب ما جرى للأولى من إجهاض مبكر.. وما تعرضت له الثانية من تشويه زائد حتى توأد تماما فكرة الثورة.
من طبائع الأمور أن تختلف التقديرات السياسية بشأن الأحداث الكبرى وأدوار الثورات وإرثها في حياة الشعوب، غير أنه لا يصح أن تمضي بعض التقديرات إلى حد إهدار الذاكرة الوطنية، وإطلاق أحكام تفتقر إلى أدنى احترام لوقائع التاريخ الثابتة، مستبدة بها ثأرات تاريخ أو أفكار.
حدة السجال تعبير عن صدام في النظر إلى المستقبل بين توجهين رئيسيين.
الأول، يعمل على شطب إرثها السياسي بكل معاركه وخياراته حتى لا يعود مرة أخرى.
وقد كان السيناتور الأمريكي البارز “جون ماكين” واضحا وصريحا عندما قال: “لا نريد أن نرى في مصر عبدالناصر آخر”.
هذه حسابات مصالح واستراتيجيات وجدت ظهيرا اجتماعيا لها بعد نشوء طبقة جديدة من “أثرياء الانفتاح”.
الثاني، يعتقد أن قوة يوليو في مشروعها، وأن ما تبنته من قيم تحررية واجتماعية ينتمي إلى إرث الوطنية المصرية، لم تخترعه من فراغ ولا أتت به من مجهول، لكنها وضعته موضع التنفيذ، انتصرت وانتكست، لكنها لم ترفع الرايات البيضاء.
أمام عالم جديد يتبقى من التاريخ دروسه الأساسية وأفكاره وقيمه، التي صاغت مشروعات بعينها.
قوة أي مشروع في قدرته على بناء أفكار وتصورات وسياسات جديدة وفق قيمه الرئيسية بالنقد والتجديد والإضافة، وإلا فإنه يدخل في موت سريري لا قومة منه.
أهم قيم مشروع يوليو: استقلال القرار الوطني وانتماء مصر العربي والانفتاح على العالم الثالث وقضاياه والعدالة الاجتماعية ومناهضة التبعية في السياسة والاقتصاد.
تختلف المقاربات والسياسات باختلاف العصور.
اكتسبت يوليو قوتها من تفاعلها مع حقائق عالمها، تحدت وحاربت واجتهدت في بناء صيغة جديدة لوحدة دول العالم الثالث خارج الخيار، الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، فإما أن تكون داخل المعسكر الغربي الرأسمالي، أو داخل المعسكر الشرقي الشيوعي.
هكذا ولدت حركة عدم الانحياز.
كل تفاعل يكتسب معناه من خياراته الرئيسية.
هناك فارق بين التفاعل بالعشوائية والتخبط والتفاعل بالخيارات والأهداف.
المشروعات التاريخية الكبرى ليست نصوصًا ولا دراسات أكاديمية، وإنما تفاعل بين الفكر والواقع.
استوعب “جمال عبد الناصر” أفضل ما كان مطروحًا من خيارات عصره، دمج التحرر الوطني بالالتزام القومي العربي وبفكرة التغيير الاجتماعي والانحياز للطبقات الفقيرة.
كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق في العمل وفي عائد الناتج القومي، أن يكون إنسانًا كريمًا في وطنه وآمنًا على مستقبله.
وكانت توجهاته العروبية أفق حركته في محيطه.
أية توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.
“أفضل تعريف للناصرية أنها المشروع الوطني والقومي المتجدد” وفق صياغة الأستاذ “محمد حسنين هيكل”.
المشروع لا النظام، المستقبل لا الماضي.. التجدد السياسي لا الوقوف في نفس الخنادق القديمة.
هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أي التواء في صلب المشروع الوحدوي العربي.
لم تكن مصادفة أن صحيفة “العربي” بتوجهاتها الناصرية هي التي قادت مطلع القرن الجديد أطول حملة صحفية ضد سيناريو التوريث والتمديد، انحازت إلى فكرة التغيير الجذري في بنية النظام السياسي، ودعت إلى دستور جديد يبني دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
كان ذلك التوجه وليدا لمراجعات في تجربة يوليو من الداخل والتزاما في نفس الوقت بجوهر مشروعها في طلب التحرر الوطني والعدل الاجتماعي والوحدة العربية.
قيم المشروع وحدها هي التي تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكنًا للبلد أن يقف من جديد على أرض صلبة.
يوليو لا تمثل نظرية يقاس على نصوصها بقدر ما تلخص مشروع يقاس على قيمه.
بصورة أو أخرى فإن هناك سؤالين متداخلين، كل منهما ينتمي إلى ثورة.
الأول- “يوليو” وسؤالها في العدالة الاجتماعية، وهذه مسألة شرعية في بلد أنهك شعبه.
والثاني- “يناير” وسؤالها في الحرية السياسية، وهذه مسألة قواعد الخروج عنها صدام مع العصر.
إنكار العدالة الاجتماعية انتقاص من فكرة الحرية نفسها.
الكلام المرسل عن العدالة الاجتماعية أثناء ثورة “يناير” سهل على الأيدي الخفيفة أن تلتقطه، وتذهب به إلى حيث تريد.
عندما افتقدنا تراكم التاريخ خسرت فكرة الثورة اتصالها بحقائق مجتمعها وتاريخها، وأفقدت نفسها مرجعيات ترشد دعوتها إلى العدالة الاجتماعية من واقع تجربة مصرية معاصرة.
القضية ليست الاتفاق على قراءة واحدة للتاريخ، هذا مستحيل تمامًا.
القضية أن تكون هناك موضوعية في القراءة حتى يمكن أن يتحدد مجرى رئيسي للنقاش العام يساعد مصر على استيعاب أهم تجاربها السياسية وتجديد مشروعها وفق احتياجات العصور الجديدة.
لن نتقدم خطوة واحدة للأمام ولن يكون بوسع هذا البلد أن يتجاوز أوضاعه المأزومة إلى مستقبل جديد يستحقه إلا إذا رد اعتبار التاريخ وأدرك الفارق بين الثورة والثورة المضادة.