ظلت السينما المصرية، وهي من أقدم التجارب عالميا، تناقش مختلف القضايا، وضمن أعمالها، أنماط شخصية مختلفة،

وترتكز الدراما تحديدا على شخوصها ضمن العناصر الفنية، وتظل في أذهان المشاهدين سنوات طويلة، نظرا لما للشخصية من حضور كبير في عناصر الصنعة، بل يذهب البعض أنها أساس تكوين العمل الدرامي.

خلال سنوات مضت، أصبح وجود شخصيات تنتمي إلى بعض الفئات المهنية في الأعمال الدرامية محل نقاش، وأحيانا اعتراض، بدعوى أن العمل الدرامي يسيء إليهم، مؤخرا أثار مسلسل “ليه لأ” غضب بعض خريجي أقسام المسرح بالجامعات المصرية بسبب؛ جملة وردت على لسان أحد أبطال العمل، لأن المشهد من وجهة نظرهم يفيد بأن أقسام المسرح لا تعلم التمثيل مقارنة بأكاديمية الفنون.

تقول إحدى شخصيات المسلسل “هو إحنا مش بنعلم تمثيل أوي يعني.. أكاديمية الفنون هي بتاعت التمثيل إللي بجد، بس عندنا فرقة مسرح ممكن تجربين معاهم”.

الجملة السابقة أثارت أزمة، كان أحد أطرافها نقابة المهن التمثيلية، حيث قال  أشرف زكي نقيب الممثلين، إنه سيتخذ الإجراءات اللازمة ضد فريق العمل، مضيفا “لن يتم السكوت عن إهانة مؤسسة فنية” وأصدرت النقابة بيانا لها، طالبت فيه بحذف المشهد من المسلسل.

لكن الفنانين انقسموا فيما بينهم، بشأن ما ورد في المسلسل، وما ترتب عليه من رد  فعل نقابة المهن التمثيلية، حيث طالب البعض بحذف المشهد، لكن آخرين اعترضوا على هذا المطلب، معتبرين ذلك حجرا وتضييقا، ويناقض مهنة الفن، و بين الذين اعترضوا على مطالب بحذف المشهد، الفنان صبري فواز، والذي قال عبر حسابه على فيسبوك: قرار النقابة يفتح بابًا نحارب لغلقه.

بينما قال المخرج كريم العدل في تدوينه له: واضح أن الفنانين نسوا، إن كل فنان من حقه “يعرض” وجهة نظره جوه الفن. حتى لو وجهة النظر دي مش تعجبانك.. وأضاف العدل: “مش شرط تبقى وجهة نظر صناع العمل نفسهم.. الفنانون نفسهم نسوا أصل الحكاية وده في حد ذاته شيء حزين جدًا”.

وعلى الرغم من أنها ليست الواقعة الأولى، التي يثار فيها النقاش حول تناول السينما، والدراما لإحدى الفئات المهنية، لكن المثير للاستعجاب مطالبة نقيب الممثلين بالحذف، وهو الذي يتوقع منه أن يكون مدافعا عن حرية الإبداع، وليس الحجر عليها.

ليست الواقعة الأولى

في عام 2016، قدم أحد المحامين بلاغا ضد مسلسل هي ودافينشي، لتصوير العمل، المحامي كشخص يتلاعب بالقانون، وقدم بلاغا مماثلا ضد مسلسل البرنس بدعوى؛ إساءته للمحامين، كما  كررت نقابة المحامين الأمر ذاته مع مسلسل “كلبش” عام 2017، بسبب عبارة وردت في العمل الدرامي.

“مش فاهمين يعنى إيه يطلع عين أهلك عشا تمسك مجرم وييجي واحد بتليفون يطلعه بره أو محام بثلاثة ساغ يطلع ثغرة في القانون ويطلعه براءة.”

 الممرضات والمضيفات

في 2017، هاجمت النقابة العامة للتمريض مسلسل “أزي الصحة”، واعتبرته يسيء لمهنة التمريض، وكرد فعل على ذلك، أعلنت أنها ستحصر الأعمال المسيئة للمهنة، وتقديم بلاغ بشأنها للنائب العام،  بينما في إبريل 2022، أعلنت النقابة إقامة دعوى أمام محكمة القضاء الإداري، تطالب فيها بوقف عرض مسلسل “الكبير أوي”، والذي اُعتبرت أحد مشاهده “إساءة واضحة” للممرضة المصرية.

وكما المحامون والممرضون، قدمت النقابة العامة للضيافة الجوية بلاغا ضد مسلسل “أرض جو”’، بدعوى تشويه صورة المضيفة الجوية.

قيود جديدة

الوقائع السابقة التي هوجم فيها أصحاب مهن أعمال درامية، بالإضافة إلى أنها تعبر عن حساسية مفرطة، فإنها تزيد المخاوف، وتضيف عقبات جديدة أمام المبدعين، يحاولون تفاديها.

يواجه صناع الدراما قوانين تسمح بالرقابة، والمنع أحيانا، تحت عبارات مطاطة، مثل حماية الآداب والنظام العام، وصولا إلى أكواد المجلس الأعلى للإعلام، والتي تستخدم أيضا عبارات فضفاضة مثل، أخلاقيات المجتمع والإساءة للواقع المصري، وتمجيد الجريمة واصطناع أبطال وهميين.

وإن كانت حرية الفن في مصر مكبلة بفعل تلك الأدوات الرقابية، فبعض أصحاب المهن ونقاباتهم، يتحسسون من أي مشهد درامي يمسهم، ما يفاقم القيود، ويجعل الفنان دائما في حالة توجس من رد الفعل على تمثيل تلك المهن.

هذا التحسس المفرط نحو الأعمال يبدو هزليا، خاصة عند رؤية وقائع، مثل، تقديم بلاغ ضد عمل فني لقيام بطلته بارتداء زي ممرضة بغرض الإغراء في مشهد كوميدي، لا يحتوي على أية إثارة، بل يزداد الأمر هزلا، عندما يطالب نقيب الممثلين بحذف مشهد لإساءته لقسم من أقسام الجامعة.

مظلومية مزيفة

أن تشعر بعض المجموعات بالغضب من تجسيد مهنتهم في الأعمال الفنية، ليس بالأمر المستغرب، فعلى سبيل المثال، واجهت الأعمال الفنية الأوروبية والأمريكية لسنوات وحتى يومنا هذا أمورا قد يتصور البعض أنها تماثل ما يحدث عندنا، فهناك انتقادات حادة من قبل النساء والأقليات العرقية والجنسية لإقصائهم من الأعمال الفنية، وتمثيلهم بشكل نمطي والترويج للعنف والكراهية ضدهم.

إلا أن هذا النوع من الغضب مبرر، لكون تلك الفئات معرضة لظلم تاريخي بناءً على هويتهم، ولكن من غير المألوف أن يثار غضب أصحاب مهن ضد الأعمال الفنية التي تجسد سلوكا مرفوضا من أصحاب هذه المهن، للحد الذي يتم تقديم بلاغات والمطالبة بحذف المشاهد.

الأمر يختلف هنا مع اعتراضات مقبولة، فأولا: أصحاب المهن أو خريجو الأقسام الجامعية، لا تجمعهم هوية أو توجه أو نوع اجتماعي أو عرق، يجعلهم يتعرضون تاريخيا للتهميش أو التمييز أو الإقصاء بناء على هويتهم.

ثانيا: أصحاب تلك المهن يتفاوت المستوى المادي لأفرادها، فلا تجمعهم حتى طبقة واحدة تتعرض للتهميش، ربما يكون الكثير من العاملين في مهن مثل، التمريض والمحاماة وغيرها من المهن، يشعرون بنوع من المظلومية نتيجة؛ ظروف عملهم غير العادلة في كثير من الأحيان، ولكن ليسوا فئة مهمشة، ولذلك تلك الحساسية الشديدة غير مبررة، ولا تعطيهم السلطة أو الحق لفرض رقابة على المبدعين، خاصة إن وصل الأمر للملاحقات القانونية ضد الفنانين وليس مجرد الاستنكار.

الفنان وتمثيل فئات المجتمع

جميع المهن، سواء كانت المحاماة أو التمريض أو مهن أخرى، بها أفراد فاسدون، كما بها أفراد نزيهون، كما أن الكليات والأقسام الجامعية لا تعلو عن النقد، وللفن مطلق الحرية لنقاش تلك القضايا بلا قيود، فإن بدأ المبدعون في فرض رقابة ذاتية على أعمالهم بعدم إدراج محام فاسد، أو ممرض غير مهني أو طبيب يستغل عمله، وغيرها من المهن أو وضع خطوطا حمراء؛ لمناقشة الأوضاع التعليمية خوفا من الملاحقة القانونية، فماذا يتبقى للمبدع مناقشته، عندما يصبح كل أصحاب المهن أو خريجو الجامعات متحفزين لتقديم البلاغات؟

التعامل مع الفن بصدر رحب لا يثري الفن فقط الذي يؤثر في وجدان المتفرج، بل يثري أيضا النقاش في المجتمع حول تلك القضايا مثل، الفساد في المهن أو المشكلات التي تواجه المؤسسات التعليمية.

فإن كانت إحدى شخصيات المسلسل المثار بشأنه النقاش يرى أن قسم المسرح بكلية الآداب أقل، من حيث إمكانيات تعلم التمثيل فعلى الأرجح أن هناك قطاعا من المهتمين في المجتمع يرون هذا أيضا، كما هو الحال في المهن المختلفة.

أيضا ما المانع من النقاش حول المحامين الذين يتلاعبون بالقانون، وتجسيد ذلك فنيا، ونقد المشكلات المرتبطة بمهنة المحاماة، قد يبدو هذا الحديث جليا، ومن البديهيات، ولكن يبدو حتى يومنا هذا، أن هناك من لا يزالون ينظرون للفن بشكل طفولي.

الاعتراض بين النقد والحجر

هذا لا يعني التوقف عن نقد تمثيل المهن في الأعمال الفنية المختلفة، فمن المفيد أيضا نقد تجسيد الأطباء أو المحامين أو الممرضين فنيا في السينما والتلفزيون، بل إن هذا التمثيل قد يصبح موضع دراسات تثري النقاشات حول السينما والتلفزيون، وبعض المهن قد تصور بشكل نمطي على الشاشة، ولكن رد الفعل لا يجب أن يتجاوز النقد البناء.

ولا يجب بأي شكل من الأشكال، أن يتحول إلى رقيب يحذف مشاهدا، ويلاحق الأعمال الفنية قانونيا. الحذف والملاحقة ليس رد فعل مناسب لكل مشهد، لا توافق وجهة نظر ممثلي إحدى المهن أو المؤسسات.

يصبح الحذف والملاحقة القانونية ضروريا فقط في بعض المواقف المحدودة مثل، نشر الكراهية أو العنف ضد إحدى المجموعات المهمشة، أو الفئات التي تعرضت تاريخيا للإقصاء بناء على هويتهم في المجتمع، وليس أداة لكبت الإبداع، كلما رأى ممثلو إحدى المهن، أن مهنتهم تتجسد في الأعمال الفنية، بطريقة لا توافق أهوائهم أو نظرتهم الملائكية الزائفة لمهنتهم.