منذ أيام قليلة مضت، وافقت لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب المصري على مشروع قانون، تقدم به مجموعة من النواب، ويستهدف مشروع القانون الذي وُِفِق عليه بشكل أولي إنشاء تحالف وطني للعمل الأهلي التنموي غير هادف للربح، وله الشخصية الاعتبارية، ويتمتع بالاستقلال الفني والمالي والإداري، ويهدف التحالف إلى تعميق مفهوم التطوع في العمل الأهلي وتنمية المجتمع، وتعبئة الجهود الفردية والجماعية؛ لإحداث مزيد من التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالتعاون مع أجهزة الدولة المعنية عن طريق الخبرات المبذولة والمشروعات الطوعية التنموية.
وتشكل السرعة التي مر بها ذلك القانون داخل أروقة مجلس النواب، أمراً لا يبدو هيناً أو سهلاً، وخصوصا بما يتعلق بالموضوع من أهمية، لما يشكله من تماس مع حرية التنظيم وحرية حركة وعمل العمل الأهلي بشكل عام، ولا يخفى على القول كثرة التعديلات التي مر بها قانون الجمعيات بشكل عام، فقد مر التشريع المصري بالعديد من التطورات القانونية في إطار تنظيمه للحق في تكوين الجمعيات الأهلية، كان آخرها القانون رقم 149 لسنة 2019، وقبل أن نتطرق إلى ما جاء بهذا القانون الأخير، لا بد أن نؤكد على أنه يجب ألا يغيب عن بال المشرعين، أن هذه المؤسسات أو الكيانات تمثل واسطة العقد الاجتماعي ما بين المواطنين والدولة، بكونها تسعى لكشف مناطق الخذلان، والخمول ومناطق احتياج المجتمعات، حتى تسعى السلطة إلى معالجتها.
وقد أسس لذلك القضاء الإداري المصري في العديد من الأحكام، وأبرزه ما سطره المستشار الجليل عبد الوهاب خفاجي في القضية الخاصة بالطعن على القرار المطعون فيه الصادر من محافظ البحيرة، فيما تضمنه من حل جمعية رعاية المسجونين، وأسرهم بمحافظة البحيرة والمشهرة برقم 7 لسنة 1966، من أن مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية هي واسطة العقد بين الفرد والدولة، وعن طريقها ومن خلالها تتم تربية المواطنين على الممارسة الديمقراطية، والتوافق مع إطارها وإدراك مناهجها، واستيعاب طبيعتها، مما مفاده إدراك المواطن لضرورة إسهامه في شؤون وطنه، والتحامه مع آماله والتشكي من آلامه، كما أن إسهام المواطن في العمل الوطني، لا يكون فحسب عن طريق التعبير باختيار ممثل له في المجلس النيابي أو المجالس المحلية، وإنما يكون أيضا عن طريق الإسهام في الأعمال المتعلقة بتنمية المجتمع الذي يعيش فيه ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، وأداة ذلك ووسيلته تكوين الجمعيات الأهلية التي تعد الواجهة الأخرى لتحقيق الديمقراطية”.
وإذ إن أي محاولات تحليلية لواقع العمل الأهلي في مصر خلال السنوات الماضية، لا يمكن بحال من الأحوال أن تتجاهل تعقد العلاقة بين هذا القطاع والدولة، وكأنه يُمثل مصدرًا أساسيًا للخطر، ويعوق احتمال بناء أي نوع من الشراكات، ومما لا شك فيه أن البيئة القانونية التي تنظم آليات عمل المجتمع الأهلي هي العنصر الأكثر بروزًا في هذا الشأن. ومع صدور دستور 2014، وما ورد فيه من مواد لتنظيم المجتمع المدني، راعت بدرجة وافية المعايير الدولية، لاحت فرصة في الأفق؛ لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، سرعان ما تم فقد هذه الفرصة بصدور القانون 70 لسنة 2017، وبصدور القانون 149 لسنة 2019، عادت الفرصة للظهور، مما يقتضي البناء عليها، وتجاوز مجرد وجود إطار قانوني مواتٍ إلى تأسيس علاقة قائمة على الثقة بين الدولة والجمعيات الأهلية، وما يعنيه ذلك من تأسيس الإطار القيمي والأخلاقي للشراكة المؤسسية، ولكن هل كانت التعديلات التي أوردها القانون الأخير شافعة لضمان حرية ممارسة العمل الأهلي في مصر، أو ضامنة لحقوق العاملين في المجتمع المدني في ممارسة أعمالهم دونما مضايقات تمنعهم من الوصول لذلك، مع إقرار الجميع بضرورة اتساق تلك التعديلات مع علاقة شراكة حقيقية، تتجاوز الخبرة القديمة الداعمة لدور متعاظم للدولة في تحديد النمط التنموي، والأدوار وتوجيهها إلى علاقة جديدة قوامها توزيع الأدوار بين الشركاء (تخطيطًا – تنفيذًا – متابعة)، والتوازن اللازم بين حرية العمل الأهلي المسئول وحق الدولة في الرقابة والمتابعة، وممارسة سيادتها في إطار ديمقراطي رشيد.
إذن، لماذا وخلال سنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة تسعى الدولة عن طريق كتلتها البرلمانية لاستحداث تعديلات جديدة على قانون الجمعيات الأهلية؟ إذ أن هناك تخوفات حقوقية عديدة؛ لأن تكون هذه الاستحداثات الجديدة تمثل خطورة على حرية العمل الأهلي، إذ أن القانون القائم قبل هذه التعديلات به من التحالفات أو الاتحادات ما يكفيان، حيث إنه يحتوي على ثلاثة اتحادات (نوعي – إقليمي – عام)، فبماذا تبرر الدولة سعيها إلى استحداث النموذج التشريعي الجديد؟ وذلك لأنه ومن الزاوية الموضوعية تمثل حرية التجمع والحق في تكوين الجمعيات ركنا مهما؛ لإنشاء مجتمعات تعددية ومتسامحة، لأنها تؤدي غرض السماح بالتعبير عن الآراء، والمعتقدات والممارسات السياسية الثقافية والدينية، بما في ذلك الدور المهم المتمثل في التعبير عن آراء الأقليات أو وجهات النظر المختلفة.
ولما كانت الجمعية ما هي إلا تجمّع طوعي لمجموعة من الأفراد من أجل؛ متابعة أهداف أو مصالح مشتركة أغلبها طويلة الأمد، فمن ثم يعتبر حق تأسيس الجمعيات من صميم حق التجمّع، أو الحق في التنظيم، والذي يمكن تفسيره على أساس أنه: – حق الفرد في تكوين، والانضمام مع غيره من الأفراد إلى كيان ما يجمعهم، للتعبير والدفاع عن مصالح وأفكار مشتركة. وهو حق فردي وجماعي في الوقت نفسه. أي حق الفرد في الانضمام والعمل في إطار كيان ما؛ للتعبير عن مصالحه، وحق الكيان نفسه في الوجود وممارسة أنشطته. وتلتزم الدولة بحماية هذا الحق؛ حيث إنه مرتبط ارتباطا وثيقا بالحق في حرية الفكر والوجدان والعقيدة، كما يساهم الحق في التنظيم في خلق البيئة المواتية للأفراد؛ للتعبير عن الآراء السياسية، والمشاركة في المساعي الأدبية والفنية والثقافية والاقتصادية، والأنشطة الاجتماعية، والاحتفالات الدينية أو العقائدية الأخرى، والانضمام إلى المنظمات، ونقابات العمال والتعاونيات، وانتخاب القادة؛ لتمثيل مصالحهم ومحاسبتهم. هذا الترابط والتشابك مع الحقوق الأخرى، جعل حماية الحق في التنظيم مؤشرا هاما؛ لحماية الدولة لحقوق الإنسان الأخرى.
كما أنه، وبشكل عام، فإن ما تمر به الحالة التشريعية المصرية، أمر يدعو للاستغراب، حيث إن كثرة التعديلات على القوانين السارية خلال سنوات بسيطة، لا يتفق مع العمر المفترض للقوانين التي يجب أن تكون الهيئة التشريعية هي أحرص عليها، ذلك لكون القوانين يجب أن تتناسب وبشكل عام مع احتياجات المجتمعات، لفترات لا تكون بالقصيرة ولا بالمعمرة الطويلة جدا، كما أنه ومن زاوية مناقضة، فإن هناك تشريعات عمرها أكثر من مائة عام، وبالفعل تحتاج إلى تعديلات تتناسب مع ما تنظمه من حقوق وحريات، وأعني بذلك على سبيل المثال قانون التجمهر، والذي صدر عام 1914، إذ على الرغم من استحداث قانون التظاهر، لم تمتد يد إلى تعديل ذلك القانون، أو تطالب بإلغائه مكتفية بقانون التظاهرات والاجتماعات، وهذا ما يربك الحرية التنظيمية بشكل عام، ويدفع الكثيرين من العاملين بالعمل العام إلى التخوف على مستقبل العمل الأهلي، والعمل العام في مصر، وأعتقد أن ذلك كان من أهم الأسباب التي دفعت بالعديد من الكتل البرلمانية المعارضة، كالوفد أو التجمع إلى رفض ذلك المشروع.