جاء اجتماع الحرية والتغيير [المركزي] بالقاهرة تعبيرا  عن عدد من المتغيرات على الصعيدين المصري والسوداني، ويثير العديد من الأسئلة بشأن طبيعة السياسات المصرية المستقبلية إزاء السودان، وكذلك مناهج “الحرية والتغيير المركزي” إزاء مسألتي وقف الحرب والقدرة على إنجاز تحالف وطني واسع  يستطيع مواجهة تحديين منظورين، الأول: إمكانية اندثار السودان كدولة واتساع رقعة الحرب على كامل الجغرافيا السودانية طبقا لمتطلبات عرقية، أما المنظور الثاني: فهو إمكانية تدشين ديكتاتورية عسكرية لحكم السودان كنتيجة مباشرة للحرب الدائرة حاليا.

على الصعيد المصري نستطيع القول، إنه رغم الفجوة التي نشأت بين القاهرة، ومكون الحرية والتغيير المركزي طوال فترة الانتقال السياسي الناتج عن ثورة ٢٠١٨ الشعبية، والتي يتحمل مسئوليتها الطرفان معا، فقد استجابت القاهرة لتحدي لحرب في السودان الاستجابة الصحيحة كدولة كبيرة، واستضافت كل أطياف المكون المدني، ومكنته من القدرة على ممارسة الفاعلية السياسية، وتدشين ظهور له على عدد من المنابر المصرية، سواء الإعلامية أو الحقوقية، ويبدو لي أن القاهرة قد اتخذت قرارها بشأن ضرورة التوازن في علاقتها الداخلية بين المكونين المدني، والعسكري، كطريق للحفاظ على الدولة السودانية التي تملك سمات خاصة مغايرة لتلك المعروفة في الدولة المصرية.

أما على صعيد الحرية والتغيير، فنستطيع أن نلمح عددا من المتغيرات، تكتنف مسيرتها في ضوء مُخرجات اجتماعها بالقاهرة الذي استمر يومين، والتي تم فيها التأكيد على أدبيات الحرية والتغيير التقليدية من حيث الحاجة إلى إعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس دولة المواطنة المتساوية، والديمقراطية وضرورة تدشين جيش قومي مهني موحد.

أما على صعيد المتغيرات، نستطيع أن نلمح الانفتاح الكبير على فكرة التحالف الوطني الواسع، مع استثناء حزب المؤتمر الوطني الذي تنخرط قيادات له في الحرب الدائرة حاليا، وهذا الانفتاح يعني إمكانية الانفتاح على الخارجين عن المؤتمر الوطني بعد مظاهرات ٢٠١٣ ضد البشير، وكانوا ربما من معطيات انهيار نظام البشير بعد أن فضح “بعض” منهم طبيعة فساد النظام على المستوى المالي، وهذا الانفتاح يعني أيضا إمكانية الانفتاح على الكتلة الوطنية؛ لإعادة توحيد مكون الحرية والتغيير على نحو شامل.

المسألة المركزية الثانية، في البيان الختامي للحرية والتغيير، هي مسألة ضرورة توحيد المبادرات الخارجية الساعية لوقف الحرب في السودان، وهو ما يعني دعم منهج القاهرة في التحرك الشامل، والمنسق في جهود وقف إطلاق النار، والسعي لاستئناف العملية السياسية السودانية.

في هذا السياق، يجوز التساؤل ماهي قدرة الحرية والتغيير المركزي في تنفيذ أجندته المعلنة بالقاهرة في ضوء التنوع النسبي في اتجاهات بعض قياديه من حيث التفاعل على المستويين الداخلي والإقليمي؟

في تقديري، إن هذا التنوع قد يكون فرصة في حالة إن كانت هذه القيادات متمتعة بحس منتمٍ الى فكرة الوطنية السودانية الجامعة، وتكون قادرة على التأثير في اتجاهات بعض العواصم، ولا تكون هذه العواصم  قادرة على توظيفها لأجندتها الإقليمية الضيقة. من هنا، فإن انخراط الاتحاد الإفريقي والإيجاد والاتحاد الأوروبي في مجهودات تدشين مبادرة جامعة، سوف تكون مسئولية بعض قيادات الحرية والتغيير التي نسائلهم عنها.

على مستوى التحالف الوطني الشامل، فإن الأقربين أولى بالمعروف، فالكتلة الوطنية كما غالبية الحرية والتغيير بالعاصمة المصرية، وبالتالي فإن التواصل بين الجانبيين يجب أن يكون قد بدأ بالفعل، فكل من الطرفين يحوز حزبا من الحزبين الكبيرين، وبالتالي فتوحيد الرؤية والعمل بين الجميع أصبح فرض عين على الجميع، وربما يكون من المهم تحرك ” الأجاويد” بين الطرفين أي الوساطات.

وربما تكون إمكانية تكوين التحالف الوطني العريض في السودان، قد أقلقت طرفين كنت أتمنى أن يتحليا بالمسئولية المتوقعة منهما تجاه جهود بلورة التحالف الوطني السوداني، أولهما: الجنرال ياسر العطا الذي نسمع عنه كل خير على المستوى المهني والعسكري، ولكن يبدو أن عواطفه الإيديولوجية قد غلبته، حينما هاجم الحرية والتغيير المركزي، وهم بالقاهرة التي كانت خير سند للمجلس السيادي طوال الوقت، وهو ما أرى أنه أداء قد يكون غير موفق في هذه اللحظة، وقد يحسب كمؤشر أن قيادات من الجيش السوداني لن تسمح بتحول سياسي في السودان، يكون له سمت ديمقراطي، في موقف يجعل مسألة استمرار دولة السودان مسألة مشكوك فيها من ناحية، ويصعد على الجيش وما بقي من الدولة، الضغوط الغربية خصوصا الأمريكية.

على صعيد مواز، فإن أصواتا مدنية محسوبة على التيار الإسلامي، قد نشطت في مهاجمة الحرية والتغيير من القاهرة أيضا، متجاهلة مجهودات القاهرة في رأب الصدع السوداني، حيث اتهمت الحرية والتغيير بالعمالة والفساد المالي دون إفصاح عن أدلة، مشيرة أن الجيش يملك هذه الأدلة. وهو أداء استقطابي لم يتعلم من تجربة اندلاع حرب في السودان، ولم يحترم دماء الضحايا، ولا انتهاك ستر الشعب السوداني، فالوقت ليس وقت اتهامات مرسلة، والوقت ليس وقت الاستقطابات السياسية.

وأقول لهذه الأصوات، إن مثل هذه الاتهامات تجعلكم تصفون في معسكر واحد، مع من يريدون استمرار الحرب حاليا، وهم مدانون من جانب الجنائية الدولية، والتحريض السياسي المرسل قد أصبح بدوره تحريضا على الحرب، والقتل، فكفوا قبل أن تلاحقكم اتهامات التحريض السياسي المفضي للحرب، والتي قد تجد “الجنائية الدولية” تكييفا قانونيا لهذه المسألة،

خصوصا أنه كان من المطلوب أن يتم الرد على تحية الحرية والتغيير، بالاتجاه لبلورة التحالف الوطني الواسع بأحسن منها، ولكنها للأسف نماذج من حالات  ذهنيات صفرية، كان لا بد من التخلص منها احتراما لمعاناة الشعب السوداني الراهنة.

وقد يكون من المهم في إطار بلورة التحالف الوطني العريض هو النظر لحالة كل مكون في الحرية والتغيير على حدة، ذلك أن أحزاب الحرية والتغيير تعاني انقسامات رأسية، سوف تكون تحديا كبيرا، أما قوة وفاعلية التحالف الوطني السوداني العريض فكل من حزبي الأمة والاتحادي، لديهم انقسامات لأسباب عائلية، وسياسية وطموحات شخصية، لم يعد من اللائق استمرارها، حيث يوصم أفرادها بعدم إدراك دقة المرحلة ولا حساسيتها في تاريخ دولة السودان.

في هذا السياق نشير أن أحزابا أخرى تتعدد فيها الأصوات القيادية، وتتناقض في حركتها السياسية إلى حد غير لائق سياسيا، ولا أخلاقيا على صعيد ضرورة توحيد المبادرات الإقليمية، والدولية سعيا وراء إنهاء الحرب.

في الأخير، يبدو لي إن قدرة المكون المدني السوداني على تحقيق تحالفه الواسع المتضمن التنوع السياسي والعرقي، والإيديولوجي السوداني، والتوجه نحو التفكير في تأسيس الدولة السودانية وفقا لمعطيات جديدة، هو الرافعة الحقيقية له على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي، من حيث دعم قدراته التفاوضية مع كل الأطراف لوقف الحرب، وربما يكون هذا التحالف، رافعا أيضا  لقدرة  القاهرة التي تسعى بمناهج التعاون الإقليمي الشامل إلى وقف الحرب في السودان؛ إنقاذا لأرواح البشر ولدولة السودان، وللأمن الإقليمي، وأيضا للمصالح الاستراتيجية المصرية التي يقف على قمتها اجتياز دولة السودان لامتحانها الوجودي، والعودة لأسرتي العرب والأفارقة معا، وعلى نحو متوازن يلبي شروط استمرار السودان الحبيب شعبا أبيا وجارا مستقرا، يلعب دوره في استقرار جيرانه؛ لمجابهة معارك الصراع الدولي على الموارد والمقدرات الإفريقية، وكلها أمور تضع على كاهل القاهرة مسئوليات مستجدة موازية لمجهودها السياسي المرموق حاليا، وهي المجهودات المرتبطة بتفعيل دور مراكز التفكير والأبحاث المصرية التي لها تاريخ في التفاعل مع المكونات السودانية، وذلك  لمناقشة قضايا التأسيس للدولة السودانية الجديدة، حيث تملك النخبة الأكاديمية المصرية الكثير من القدرات لدعم مثل هذا النقاش، ولكن ينقصه تأمين المساحات المطلوبة|، والفضاءات اللازمة لمثل هذا النوع من التفاعل الذي طال انتظار السماح به لأسباب مجهولة لنا.