لا شك أن الانتخابات الرئاسية التي من المتوقع فتح باب الترشح لها أواخر هذا العام، ستحكم المشهد العام في مصر على الأقل حتى نهايتها في الربع الأول من العام القادم، لذا يصبح السؤال ضروريا: كيف يجري تنظيم المجال السياسي في مصر تمهيدا لهذه الانتخابات؟

حين التفكر في إجابة هذا السؤال، فإن الذهن ينصرف للحديث عادة- عن أهداف النظام من ضرورة إدارة المشهد الانتخابي، بما يضمن خروجه بصورة إيجابية لأهل الداخل والخارج -والأخيرين أهم لدى النظام، وموقع الحوار الوطني الجاري من ذلك.

كما يشار إلي قدرة المعارضة -سواء اقتصرت على الحركة المدنية، أم اتسع مفهومها- على التخلص من حالة الشلل، والحصار التي فرضت عليها تدريجيا من ٢٠١٤. ويمتد الحديث إلى القدرة على تقديم بديل قوي يمكن أن ينافس الرئيس الحالي.

اقرأ أيضا الأزمة والفرصة في الحوار الوطني 

ولكن أين موقع هذا المشهد كله لدى عموم المصريين؟

ملاحظات خمس

أولا: أعلنها بصراحة شديدة، أنه إذا عجز الفاعلون السياسيون -موالاة ومعارضة- على خلق الاهتمام لدى المصريين بها، وإقناعهم بالمشاركة المتسعة فيها؛ فإن مأزق الطرفين سيزداد صعوبة، وأخشى أن يلقي بظلاله المؤلمة على مأزقنا الوطني العام -بغض النظر عن الفائز.

هذه الانتخابات مهمة لشرعية النظام القائم في علاقته مع مواطنيه في الداخل وقوى الخارج. هل يمكن أن تضعفه أو تجدد شرعيته فتحمله إلي ٢٠٣٠؟

في الداخل تمنحه القدرة على التفاوض والتسوية، والحوار أساسا حول الاقتصاد والصيغة السياسية التي أنتجته، وفي الخارج فإنها تقويه حين يتفاوض على السياسات الاقتصادية المطبقة أو حتى مسائل حقوق الإنسان.

أما المعارضة، فأمامها تحديات عديدة، تنبع أساسا من قدرتها على تقديم بديل مقنع للحكم في شخصياته ورموزه وسياساته. هو تحد صعب، لأنها هشة وتعاني من انقسام بين مكوناتها، وإنهاك وتضييق امتد لسنوات عشر، بالإضافة إلى ضعف قدراتها التنظيمية والشعبية إلى حد كبير، وتتصرف في أحيان كثيرة على شاكلة من تعارضه.

يظل التحدي الأساسي الذي يواجهها، هو قدرتها على الاستفادة من المكاسب التي تحققت من المعركة الانتخابية، للمراكمة عليها بعدها لتضمن استمرار فتح المجال السياسي وتوسعته.

ثانيا: أظن أن جوهر هيكلة المجال السياسي تدور في الاقتصاد، وما يظهر في السياسة معبرا عنها.

بالنسبة للمواطن، فإنها تتركز حول توقعه لدور الدولة في الإنتاج والتوزيع.

كان تصحير السياسة بعد ٢٠١٤، هدفه إعطاء السياسات النيوليبرالية -التي كانت ذروتها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ٢٠١٦- قوة دفع في الوقت الذي كانت فيه الدولة تنتقل إلى حقبة بعيدة المدى من التحرير الاقتصادي، بما يمثل نقلة نوعية جديدة، ومختلفة عن المسار الذي سبقها. تم تنظيم الساحة السياسية بطريقة استبقت -إلى حد كبير- ظهور معارضة جادة لهذه السياسات.

منذ السادات، استخدمت إجراءات التحرير الاقتصادي؛ لتحرير الدولة من دورها كضامن للحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

تتوقع إحدى الفرضيات المركزية لعلم الاجتماع الانتخابي، أن الأفراد المعرضون بشدة لمخاطر سوق العمل، ولديهم القليل من الموارد الاجتماعية والاقتصادية، يختارون المزيد من تدخل الدولة.

يبدو أن النظام عازم على التخلص من هذه المسئوليات المرهقة، من خلال إعادة تشكيل التوقعات العامة حول دور الدولة في الإنتاج الاقتصادي وتوزيع الموارد.

في المقابل؛ فإن المعارضة غير قادرة على عكس هذا التوجه. إن ما تقدمه في الواقع، هو إما دفاع عن السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي ربما كانت منطقية منذ عقود، ولكنها الآن بعيدة كل البعد عن حقائق الاقتصاد العالمي المتغير، وإما نسخة مخففة من الليبرالية الجديدة.

المعارضة بحاجة إلى تقديم حلول ملهمة، ومقنعة للتحدي طويل الأمد المتمثل في ضرورة دمج الاقتصاد المصري في الرأسمالية الدولية كمحرك للنمو الاقتصادي، مع حماية المجتمع في نفس الوقت من سلبيات هذا الخيار.

ثالثا: التلاعب بالمخاوف، باتت سياسات انعدام الأمن ذات فاعلية محدودة لدى الناس.

اقصد بسياسات انعدام الأمن: إثارة المخاوف بشأن الحفاظ على الدولة المصرية، وعدم الاستقرار. والحرب على الإرهاب، واختطاف الإخوان للدولة، والقضاء على هويتها الحقيقية، بالإضافة إلى تخويف الأقباط حتى لا يخرجوا من أحضان الكنيسة والدولة إلى المجال العام …إلخ.

صحيح أن دولة يوليو ٥٢، قامت -في إحدى مكوناتها- على إثارة المخاوف من الإقطاع والاستعمار والرأسمالية العالمية، والكيان الصهيوني؛ لكن على ما يبدو، فإن هذا الخطاب -تحت وطأة خطاب المعاش- قد تراجعت فاعليته إلى حد كبير.

لم تعد المقايضات البسيطة التي حكمت المجال السياسي على مدار العقد الماضي، تصلح للمستقبل من قبيل: الاستقرار مقابل الاستبداد، وتدخل الدولة مقابل انسحابها، والنمو الاقتصادي مقابل الديموقراطية.

ثبت فشل هذه المقايضات جميعا، ولم تعد تصلح في المستقبل، كما اختفت المخاوف التي أثارها هذا التلاعب، وبالتالي فإن احتكار حكم مصر من قبل بعض الفئات لن يكون حتميًا.

لا تزال المعارضة حبيسة تصوراتها حول تقديم السياسة على الاقتصاد. هي -إلا فيما ندر- لا تربط بين الاثنين.

وفق رؤية أعمق وأشمل على الرغم من أن ما نحن فيه من أزمات، لم يكن إلا نتيجة نمط سياسي قام على الانفراد باتخاذ القرار، وتحديد أولويات الإنفاق العام، وتهميش مشاركة المواطنين في صنع السياسات العامة، ومزيد من تدخل المؤسسات التي يطلق عليها سيادية في الاقتصاد.

نمط قام على احتكار السلطة تمهيدا للاستئثار بالثروة.

اقرأ أيضا التيار الحر والسياسة اللا طبقية في مصر

رابعا: أدى غياب الإخوان لعقد تقريبا عن السياسة الواقعية، وإن تم استحضارهم على المستوى الخطابي إلى تركيز جل الجدل العام الآن حول السياسة والاقتصاد.

أدى تصاعد الأزمة الاقتصادية تدريجيا على مدار السنوات الثلاث الماضية، إلي تعميق هذا التوجه. لم يعد خطاب المواطنين يدور إلا حول الغلاء، وسعر الصرف، ومصاريف المدارس، وأسعار الغذاء وأولوية الإنفاق على الصحة والتعليم.

من خبرة ما بعد يناير ٢٠١١: كان أحد العوامل التي ساعدت المؤسسة العسكرية على استعادة السلطة، هو الانتشار المتزايد للصراعات الأيديولوجية بين الإسلاميين وخصومهم، وتهميش السياسة التي تقوم على الديموقراطية وعدالة التوزيع، وإصلاح المؤسسات الأمنية.

أخشى ما أخشاه أن يعاد هيكلة المجال السياسي على هذه النقاشات مرة أخرى. المهووسون من كل طرف يشحذون الآن ألسنتهم، ويعدون حساباتهم في السوشيال ميديا لهذه المعارك، والتلاعب بهم سهل ميسور.

على الرغم من غياب التيارات الإسلامية عن مركز الصدارة في الحياة السياسية، فإن تسييس الهوية الوطنية من النظام لا يزال مستمرا. يولد هذا التسييس نمطًا جديدًا من السياسة. إنه يدخل مجموعة جديدة من الصراعات الاجتماعية القائمة على الهوية في الساحة السياسية، مما يتسبب في فقدان مطالب الاقتصاد بروزها في كل من تعريف الأجندات السياسية الوطنية، وتشكيل التحالفات والائتلافات السياسية.

خامسا: على ما يبدو، فإن جزءا كبيرا من هيكلة المجال السياسي يجري من خلال الحوار، والتنافس بين أجهزة الدولة المختلفة حول إدارة مشهد الاقتصاد. هذا الحوار والتنافس له تداعيات في السياسة. يلاحظ المراقب وجود أصوات متعددة لهذه المؤسسات، يجري التعبير عنها من خلال بعض الواجهات الإعلامية.

توحدهم السياسة التي تقوم على دعم السلطة القائمة، وما يفرقهم أمران: كيفية إدارة الاقتصاد، وطريقة إخراج المشهد السياسي الحالي، ليبدو جميلا للناظرين.

نص الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أواخر العام الماضي، على المنافسة العادلة بين القطاع الخاص، وبين الشركات التي تملكها الدولة -والمقصود أساسا شركات الجيش- وضرورة خروجها من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص. وفي الوقت الذي يجري فيه الاتفاق على ذلك؛ أصدر رئيس الجمهورية، قرارًا جمهوريًا بتخصيص أراضٍ على جانبي الطرق السريعة للمؤسسة العسكرية، كما قام بافتتاح مصنع كبير لإنتاج المواد الغذائية مملوكًا لها. وأُعلِنَ عن استحواذ إحدى الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية لفندق من فئة الخمس نجوم في شرم الشيخ من القطاع الخاص بمبلغ ٧٠٠ مليون جنيه مصري أي حوالي ٢٣ مليون دولار أمريكي. يجري عرض بيع شركتي صافي ووطنية المملوكتين للجيش، ويقوم جهاز مشروعات القوات المسلحة بشراء ربع أسهم شركة طاقة.

ستتحدد السياسة في مصر وفق ما يجري من تنافس، أو تسويات بين أنصار اقتصاد السوق الحر الذي يقوده القطاع الخاص، وبين اقتصاد سوق تتحكم فيه الدولة. الانتخابات الرئاسية القادمة ستكشف عن طبيعة هذا التنافس أو مآلات التسوية.