في ص 230 ، من كتابه “دراسات في تاريخ العرب الحديث”، يقول الدكتور أحمد عزت عبدالكريم 1909 – 1980م، في الفصل الرابع، تحت عنوان “نهضة مصر في القرن التاسع عشر “، يقول: “قامت الدولة الحديثة التي جمعت السلطة العامة بين يديها ، وتحول الرعايا إلى مواطنين في الدولة الجديدة” . والمقصود بالطبع دولة محمد علي باشا وذريته من بعده على مدار القرن التاسع عشر . معنى ما تفضل به المؤرخ الكبير -الرئيس الأسبق لجامعة عين شمس والحائز على درجتي الماجستير والدكتوراه عن تاريخ التعليم من عهد الباشا حتى عهد الخديو توفيق- معنى كلامه أن أجدادنا في القرن التاسع عشر ذاقوا نعمة التحول من رعوية العصور الوسيطة إلى مواطنة العصور الحديثة ، ولو شاءت الأقدار لهم ، أن يبعثهم الله من قبورهم ، ثم سمعوا هذا الكلام ،  فإنهم سوف يبدون من علامات الاستغراب والاندهاش ما يكفي لنفهم من ردود فعلهم أنهم عاشوا وماتوا يحكمهم الباشا وذريته بالكرابيج ، فإذا كانت الكرابيج هي المواطنة فإنهم إذاً كانوا مواطنين في دولة الباشا الحديثة . صحيح أن الباشا قضى على تعدد المماليك ، لكنه جمع سوءاتهم في مملوك أوحد هو شخصه، وصحيح أنه قضى على تعدد إقطاعاتهم لكنه جمعها في إقطاع واحد موحد كبير يملكه ثم يتوارثه أبناؤه وأحفاده على مدى قرن ونصف من عمر مصر والمصريين ، لهذا قال الدكتور جمال حمدان أن الباشا هو آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد .

ليس أجدادنا الذين عاشوا في القرن التاسع عشر فقط هم من سوف يستغربون رواية أنهم تحولوا من رعايا إلى مواطنين في دولة الباشا الحديثة، بل آباؤنا ثم نحن ثم أبناؤنا ثم أحفادنا، كلنا ، ومن كل الطبقات، سوف تلبسنا الحيرة، لو سُئلنا: هل نحن رعايا كما العصور الوسيطة؟ أم نحن مواطنون كما العصور الحديثة؟ بعد الحيرة سوف نبحث، وسوف نقرأ، ثم سوف نعرف أمرين: أولهما أننا لا نتمتع بمزايا كان يتمتع بها الرعايا في العصور الوسيطة، كانت للناس مزايا يتمتعون بها، مثلما كان للحكام استبداد يتمتعون به، راحت المزايا، فقدناها، وبقي لنا الاستبداد كما هو مضافاً إليه إمكانات السيطرة والقمع والقهر التي تتمتع بها الدولة الحديثة. ثم ثانيهما أن فكرة الشعب مصدر السيادة والأمة مصدر السلطات والمواطن سيد في وطنه له فيها الكلمة العليا فهو من يختار الحكام ويرسم حدود سلطاتهم وصلاحياتهم بالدستور والقانون، هذه الفكرة التي هي جوهر الدولة، لا تزال فكرة ورقية في مواد الدساتير المعطلة فعلياً، فالدولة الحديثة من دولة الباشا في مطلع القرن التاسع عشر حتى الجمهورية الجديدة في خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين هي اسم لا فعل وهي خيال لا واقع وهي حلم لا حقيقة وهي أمل كان وما زال بعيد المنال ، لقد لخص الدكتور جمال حمدان محنة الدولة الحديثة ، حين وصف محمد على باشا وذريته من بعده بأنه ” آخر المماليك العظماء وأول الفراعين الجدد” ، كما وصف جمال عبد الناصر وخلفاءه من ضباط الجيش بأنه “آخر الفراعين العظماء وأول المماليك الجدد”. فلا أجدادنا في القرن التاسع عشر كانوا مواطنين ، ولا نحن وآباؤنا في القرن العشرين كنا مواطنين، ولا ذرياتنا وأحفادنا في القرن الحادي والعشرين يتيسر لهم في الأفق القريب تذوق نعمة المواطنة من حريات وحقوق وواجبات تكفل لهم العدل والمساواة والكرامة، والأرجح أننا -ولعدة أجيال مُقبلة- سوف نكافح ونناضل حتى نتحصل على حريات وحقوق المواطنة كما هي منصوص عليها في الدستور الحالي والدساتير التي سبقته في أبواب الحقوق والحريات والواجبات العامة ، وربما يستمر هذا الكفاح قرناً من الزمن أو قرنين مُقبلين.

الدكتور أحمد عزت عبدالكريم يرد على نفسه في موضع آخر من الدراسة ذاتها ، فيقول في ص 233 “كان الهم الأول لحاكم مصر في القرن التاسع عشر من محمد علي باشا وأبنائه وأحفاده، أن يحتفظ بملكه، وأن يدعم سلطانه”، ثم يقول “وهو ، أي الباشا وذريته ، يخشى الوعي القومي أن يثور على مُلكه وسلطانه” ، ثم هذا المؤرخ العظيم الذي سبق وقال أن المصريين في دولة الباشا الحديثة قد تحولوا من رعايا إلى مواطنين عاد ليشرح مكانة المصريين الفعلية في دولة الباشا فهم ليسوا أكثر من أدوات يستخدمها لتحقيق طموحاته ومشروعاته، يقول “فالمصريون، عنده، في الحقول أو الجيش أو المصانع أو الأسطول أو المدارس، ليسوا إلا أدوات العمل، والمادة التي يصنع منها مجده، حتى إذا حاول المصريون أن يتطلعوا إلى أبعد من هذا، أي إلى أن يأخذوا الأمر بين أيديهم، عن طريق المجالس النيابية، ومسئولية الحكومة -يقصد مساءلة الحكومة أمام برلمان منتخب من الشعب- ليحولوا أداة الحكم إلى خدمة الشعب، شق الأمر على حاكم مصر، ودبر كيده، وسعى سعيه، ليرد المصريين إلى الدور التقليدي، الذي رسمته لهم سياسة الحاكم “. انتهى الاقتباس. وفيه تصويب من المؤرخ لما سبق أن قاله من بدعة التحول من رعايا إلى مواطنين في القرن التاسع عشر، وهي البدعة التي لم تتحقق حتى اليوم، وأصوب ما في هذا الاستدراك من المؤرخ أنه وضع يده على موقع الشعب داخل ما يسمى بالدولة الحديثة، وهو وصف موضوعي سليم ، حيث: 1- الحاكم يخشى وعي المصريين. 2 – وحيث الحاكم يعتبر المصريين مجرد أدوات. 3- وحيث الحاكم يصادر طموح المصريين في حكم نيابي وحكومة تخضع للمساءلة والمحاسبة. 4 – وحيث الحاكم يجتهد في إبقاء الدور السياسي للمصريين تحت السيطرة. وهي الأسس الأربعة التي قامت عليها ما يسمى الدولة الحديثة حتى كتابة هذه السطور.

ثم يستدرك المؤرخ أن المصريين في ثورة 1919م حاولوا الخروج على السقف التقليدي الذي رسمه لهم الحكام ، رفضوا الخضوع للدور المرسوم ، دور أن يكونوا مجرد أدوات في مشاريع الحكام ، وسعوا إلى السيطرة على أداة الحكم نفسها عن طريق الحكم الدستوري السليم ، وتوجيهه في تحقيق الخير للأمة جميعاً “. انتهى الاقتباس ، ولم يتوسع المؤرخ ليذكر أن الملك والاحتلال وأحزاب الأقلية أفشلوا كفاح ثورة 1919م ، ولم يستطرد ليذكر أن ثورة 23 يوليو 1952م وضعت البلاد في مسار لا فرصة فيه لأي تطور ديمقراطي حقيقي ، ولا مكان فيه لمواطنة حقيقية ، فقط أعادت إحياء الأسس الأربعة التي وضعها الباشا لكن في أثواب جديدة ، وسارت الأحوال على هذا المنوال سبعين عاماً ومازالت .

دولة الباشا كانت للباشا وذريته ، لم تكن لمصر ، ولم تكن للمصريين ، هو أباد القديم ، وأسس الجديد على مقاسه ووفق مصالحه ، عاش ومات لم يحمل لمصر والمصريين عاطفة حب أو احترام أو مودة ، لم يؤثر عنه شئ من ذلك ، وبادله المصريون التجاهل ذاته ، فلم يعمر ذاكرتهم الشعبية ، ولم يدخل في نسيج وجدانهم ، النفسية المصرية لم تستوعبه ولم تمتصه ولم تهضمه ، بقي عالقاً في الروح واقفاً في الزور ، حتى وأن تمركز في قلب التاريخ . لم يلجأ لتجنيد المصريين في الجيش أو تعليمهم في المدارس أو إلحاقهم بالمصانع إلا من باب الضرورة التي اضطرته لذلك إزاء توسع مشروعاته وتضخم طموحاته وتزايد توسعاته ، لولا ذلك ما التفت للمصريين إلا كفلاحين يسوسهم بالكرابيج .

لقد ظل الباشا عشرين عاماً الأولى من حكمه لا يرى المصريين ولا يضعهم في اعتباره ولا خططه ، في ص 102 من كتابه ” إدارة الأقاليم في مصر 1805 – 1882م ” ، يقول الدكتور زين العابدين شمس الدين نجم : ” وقد تغاضى محمد علي في بداية حكمه لمصر ، عن الاستعانة بالمصريين في المناصب الرسمية ، وانصرف عن تعليمهم ، ووجه غاية اهتمامه إلى العناصر الأجنبية الدخيلة على البلاد ” . ثم يقول ” حتى أنه عندما أنشأ المدرسة التجهيزيو في عام 1825م بقصر العيني ، ألحق بها خمسمائة تلميذ من جنسيات شتى من الأتراك والشراكسة والألبان والأرمن والأكراد واليونانيين من أبناء الدخلاء المتمصرين الملتحقين بخدمته ، ولم يضم لصفوف المدرسة مصرياً واحداً ، وفرض اللغة التركية فيها لغةً للتعليم ، والفارسية والعربية كلغات إضافية ” . انتهى الاقتباس .

اضطرار الباشا للاستعانة بالمصريين في النصف الثاني من عهده ، تشرحه دكتورة عفاف لطفي السيد مارسو ، في كتابها ” مصر في عهد محمد علي ” ، ففي ص 536 ، تقول : ” وبإنشاء محمد علي لجهاز الدولة ، كان من المحتم عليه تمصير الجيش ثم تمصير الإدارة ، إلا أنه كان ـ ولا يزال ، يأمل في صفوة عثمانية ، لأنه – هو نفسه – لم يكن قادراً من الناحية النفسية  على أن يمر بعملية التحول ليكون مصرياً ” . ثم في ص 538 تصف محمد علي باشا ورجاله بأنهم ” كانوا مهاجرين إلى بلد سعوا إلى استغلاله ، دون أن يُقرنوا أنفسهم به ” ، ثم تصف نموذج حكم محمد علي باشا في مصر بأنه ” حكم تركي – شركسي – ألباني ، يشعرون بتملك مصر ، كمضدر للحياة الرغيدة التي يحيونها ، وكمصدر للسلطة التي عثروا عليها ، لكن لم يكن لديهم حاسة الانتماء إليها ”  . انتهى الاقتباس ، وفي وجهة نظرها فإن الفجوة بين انتماء الباشا ورجاله من جهة ، وانتماء المصريين من الجهة الأخري ، ساعدت كرد فعل من المصريين على بلورة هويتهم الخاصة بها ، خاصة مع اسراف الباشا في تقريب الأجانب والاستعانة بهم .

غير صحيح ، في التاريخ ، أن المصريين في عهد الباشا ، تحولوا من رعايا إلى مواطنين .

الصحيح ، أنهم حرمهم من مزايا الرعايا والرعوية  ، ولم يسمح لهم بمزايا المواطنين والمواطنة ،

هنا يلزم العودة قليلاً إلى الوراء ، إلى ما قبل الباشا ودولته .

بدأت انتبه لما كان المصريون يتمتعون به من مزايا أيام كانوا رعايا –  قبل أن يُقال لهم أنهم أصبحوا مواطنين فيما يسمى الدولة الحديثة – بعد التفرغ لقراءة متأنية لما كتبه المستشرقون الفرنسيون الذين رافقوا نابليون في حملته على مصر ، وأودعوه في مجلدات موسوعة ” وصف مصر ” ، بدأت أتعرف على كم وكيف الخدمات وأوجه الرعاية والعناية والتكافل التي كان يحظى بها عامة المصريين وبالذات الفقراء منهم ، خدمات صحية من علاج بدني ونفسي وأدوية مجاناً ، تعليم أولي ثم عالي مجاناً ، لدرجة أن قرأت قول أحدهم أن كتاتيب القاهرة المجانية توفر التعليم الأولي ل خمس أو ربع الأطفال الذكور ، وأنه لا توجد عاصمة في أوروبا في ذلك الوقت من السنوات الأولى من القرن التاسع عشر تستطيع توفير التعليم الأساسي لخُمس أو ربع أطفالها الذكور ، كما كان من هذه المزايا  توفير ماء الشرب للبشر مجاناً ، توفير ماء الشرب للدواب ومن خيل وبغال وحمير مجاناً وكانت هي أداة المواصلات في ذلك العصر ، بيوت لإستضافة الغرباء والمسافرين والقيام على رعايتهم مجاناً ، ثم بدأت أتعرف على مرافق العدالة والقضاء وأنها كانت ضمانة في صف الناس ضد عسف السلطة ، ثم بدأت أتعرف على كيف أن عدم تمركز السلطة في يد واحدة كان يسمح بتوازنات سياسية تفتح الباب أمام تعددية وتنوع اجتماعي ، ثم بدأت أتعرف على حقيقة أن المجتمع لم يكن بالانسحاق الذي صدرته لنا بعض الكتابات الرسمية ، والعكس صحيح فكان المجتمع – في أسوأ الظروف – لديه المقدرات والأدوات للتعبير عن نفسه ، وأن المجتمع لم يكن كتلة صماء مصبوبة في قوالب من صنع السلطة ، ثم بدأت أتعرف أن التحديث الذي يُقال أنها جرى في القرن التاسع عشر لم يكن أكثر من إلحاق منظم للبلد بأوروبا ، لم يكن أكثر من تأسيس وضع التبعية والدونية والتخلف سواء تحت واقع الاحتلال أو تحت توهم الاستقلال قبل وبعد زوال الاحتلال ، تحديث القرن التاسع عشر وضع الأساس لما نحن فيه : تخلٍ عن أحسن ما في تاريخنا مع الاحتفظ بأسوأ ما فيه ، تعلق بقشور من أوروبا مع العجز عن الإمساك بأحسن ما فيها ، والخلاصة : بقي لنا من قديمنا أسوأ ما فيه ، وأخذنا من أوروبا قشور ما عندها ، فلم نتجاسر على كسر أطواق الاستبداد السياسي والتقليد الفكري والجمود الثقافي ، ولم نتجاسر على أن نأخذ من أوروبا وضع السلطات العامة تحت محاسبة الشعب كما لم نتجاسر على تحكيم العقل الحر والانتصار له .

نبدأ بالمستشرق جومار – آدم فرانسوا جومار – 1777م 1862م – في دراسته التي عنوانها ” وصف لمدينة القاهرة وقلعتها ، مصحوب بشرح لخرائط هذه المدينة وضواحيها ، مع بيانات عن أقسامها الإدارية ، ومعالمها ، وسكانها ، والتجارة والصناعة فيها ”

كان أول ما قرأته ، وما لفت انتباهي ، أن جملة المزايا والخدمات والمنافع والمرافق ووجوه التكافل الاجتماعي ، إنما تتم في شكل مؤسسات منتظمة لها صفة الدوام ، فليست مجرد حسنات ولا صدقات في مواسم وأوقات معينة ، ثم هي نابعة من صميم المجتمع أو من صميم الهيكل الاجتماعي القائم ، وأنها مستقلة عن تدخل السلطات الحاكمة ، ثم هي محمية بتقاليد ونظم وشرائع محل توافق من الجميع ، لم تكن الدولة – في تلك العصور – سواء عندنا أو عند غيرنا تتكفل بتقديم تعليم منظم في مدارس حكومية ولا علاجاً منظماً في مستشفيات حكومية لكن المجتمع كان هو من يتولى ذلك .

ففي ص 25 من المجلد العاشر ، يتحدث جومار عما أسماه ” المنشآت العامة ” وهي : الحمامات ، والأسبلة ، والأحواض ، والمدارس ، والقناطر المُقامة فوق الخليج ، الخ ” ، ثم يتحدث عن الحمامات في القاهرة وحدها ، فيقول ” ويبلغ عدد الحمامات الرئيسية خمسة وأربعين حماماً ، تتميز باتساعها وفخامتها ” ، وبعد أن يذكر بعضها بالاسم ، يعود فيقول ” ويتعرض مرتاد الحمام للبخار أولاً ، قبل أن ينغمس جسد في الماء ، ثم يقوم خادم الحمام بتدليكه بعد ذلك ، ولا تخرج النسوة مطلقاً من البيوت إلا للذهاب إلى الحمامات ، ويترددن هناك عادةً مرةً كل أسبوع ، حيث يستعرضن كل ما هو مباح لهن من الزينة ، ويتعطرن ويلبسن أجمل ملابسهن ، وتُبحث مسائل الزواج في هذه الحمامات ، التي لا غنى لأي من الجنسين ، عن التردد عليها ، في مثل هذا الجو شديد الحرارة ” .

ثم يتحدث عن الأسبلة ، فيقول ” وغالبية الأسبلة ، منشآت مخصصة لتزويد الشعب بالمياه مجاناً ، وهي كثيرة العدد ، وتُجلب مياهها من النيل محمولة على ظهور الجمال ” ، ثم يتحدث عن جمال هذه الأسبلة ، فيقول ” وتُزين هذه المنشأت بأعمدة من الرخام وشبكات من البرونز مصنوعة بمهارة ” . ثم يتحدث عن الكتاتيب فيقول ” ومن المُتبع أن يُخصص الطابق العلوي من السبيل لكُتاب مجاني يتولى تعليم القراءة والكتابة والحساب فقط ، ويتم الإنفاق عليه من الوقف المخصص للسبيل ذاته ، والتعليم هنا على نحو متزامن ، حيث يتعلم التلاميذ القراءة والكتاب في وقت واحد ” . ثم يتحدث عن الأحواض التي تشرب منها الدواب والبهائم ، ويصف جمالها والاعتناء بها وبزينتها ، يقول ” وليست الأحواض بأقل نفعاً للسكان الذين يستطيعون في أي وقت سقاية الخيل والحمير والجمال وغيرها من الدواب ” ، ” والأحواض فخمة البناء ومدعومة بالأعمدة “.

ثم يتحدث عن التكايا ، فيقول ” ويُعرف بالقاهرة نوع آخر من المنشآت ، هو التكايا ، أو المنازل ، التي يتلقى فيها المسافرون ، وكذلك المرضى ، واجب الإقامة والضيافة ، مجاناً ” .ثم يقول ” لكن لم يبق منها – أي في زمن الحملة الفرنسية – سوى ملجأ واحد ينطبق عليه هذا الوصف ، وهو المارستان – يقصد مستشفى الأمراض النفسية والعقلية – ويوجد به خمسون سريراً ، وفيه يتم استقبال مرضى العقول ” .

ثم يعود المستشرق جومار إلى تفصيل أكثر ، في ص 202 ، وما بعدها ، فيعود بجذور مؤسسات النفع العام في مصر إلى خمسة أو ستة قرون ، يقول : ” كان في القاهرة  ، من خمسة أو ستة قرون ، الكثير من المستشفيات المخصصة لإيواء العجزة والمرضى والمعتوهين ، ولكن لم يعد متبقياً منها سوى واحد فحسب ، وهو المارستان الذي يضم المعتوهين من الرجال والنساء ” ، ثم يقول ” لقد أقام السلاطين والبكوات والأغنياء هذه المنشآت على نفقتهم ، وأوقفوا عليها عند وفاتهم أموالاً ثابتة ، تدر عوائد توظف في صيانتها ، وتكفي لتغطية نفقاتها السنوية ” ، ثم يعود إلى تاريخ عام 1427 م ، ليذكر أن ” دمشق كان بها مستشفى ، يقدم فيه العلاج والغذاء الذي يحتاجه المرضى بسخاء ، حيث كان المرضى يتمتعون بأكبر نصيب من الرفاهية وكل مقومات الحياة الرغيدة ” ، ثم يقول ” لكن مارستان القاهرة أكبر من مارستان دمشق ، وكان تخصصه فقط استقبال وعلاج المعتوهين ” . ثم يذكر أن من الوصفات العلاجية التي كانت متبعة أن ” المرضى الذين كانوا يعانون من الأرق ، كان يتم نقلهم إلى قاعات منفصلة ، ويقوم على رعاية كل مريض شخصان ، وفي هذه القاعات يسمع المرضى موسيقى منسجمة الأنغام ، ويسرد لهم القصاصون حكايات تروح عن أعصابهم ، وعندما يبدأ المريض في استرداد صحته يتم نقله إلى قاعات جديدة ، يُسمح لهم فيها بالاستمتاع بمشاهدة الرقص ، وتُعرض عليهم أعمال من الكوميديا ، وأخيراً ، وعند مغادرة المستشفى يُمنح كل مريض خمس قطع ذهبية لكي لا يضطر لمزاولة الأعمال الشاقة فور خروجه من رحلة العلاج ” .

ثم يذكر المستشرق جومار في ص 204 أن هذا المستشفى للأمراض النفسية والعقلية ، كانت تتبعه مدرسة يدرس فيها الطب مع العلوم الدينية ، وقد أنشأها السلطان الناصر قلاوون 1285 – 1341م ، وفي المكان ذاته منشأة أقامتها ابنة المعز لدين الله ثاني الخلفاء الفاطميين ، كانت تؤوي وتطعم ثمانمائة فتاة .

ثم يقول ” وفي زمن الحملة الفرنسية ، كانت هذه المؤسسة الشهيرة – التي كانت ملاذاً مفتوحاً للبؤساء – قد فقدت تماماً ازدهارها القديم ، أو بعبارة أفضل ، لم يكد يبقى منها سوى ظل باهت ” ، ثم يحكي المستشرق جومار أنه قام بزيارة تفقدية للمستشفى – المارستان – فوجد عدد المرضى بين خمسين وستين مريضاً بمن فيهم البلهاء ، المرضى يشغلون قاعات مفتوحة بالدور الأرضي ، والبلهاء يشغلون قسماً آخر من المبنى ، أما المجانين فكان عددهم عشرة معزولين في حجرات ذات قضبان وفي أعناقهم السلاسل ،،، إلى أن يقول ” ويجاور هذا المبنى الواسع جامع السلطان قلاوون ” . ثم يذكر أن الجنرال الفرنسي – يقصد نابليون – أعطى أوامره لكبير أطباء الحملة الفرنسية ليقوم بزيارة المستشفى ، وتفقده ، واقتراح الأفكار لأجل إصلاحه ، وقد ذهب كبير الأطباء مسيو ديجينيت لأداء مهمته يرافقه الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر الشريف . ( تقرير كبير الأطباء متاح في الكتاب لمن يحب الرجوع إليه ) .

ثم يتحدث عن مستشفى مخصص فقط لأمراض النساء أنشأه عبدالرحمن الكيخيا ( توفي 1776 م ) .

ثم يختم جومار حديثه عن الخدمات الصحية المجانية التي كانت متاحة لأهل القاهرة عند قدوم الحملة الفرنسية بالإشارة إلى نفقاتها ، فيقول ” وأُنهي هذا المقال حول المؤسسات الخيرية بذكر المبالغ المخصصة لهذا الغرض ، والتي كانت تشكل في زمن الحملة الفرنسية جزءاً من النفقات العامة كان تُقتطع من : الميري أو ضريبة الأطيان ” .

الأهم من ذلك كله ، أنه يعترف أن الأوربيين عندهم تصورات مسبقة خاطئة عن مجتمعاتنا ، فيقول ” كانت عندنا في أوروبا ، تصورات خاطئة عن النقص في مؤسسات الإحسان عند الشرقيين ، وعن الإهمال الشامل من قبل حكامهم ، فيما يتصل بالمساعدات العامة  ” ، ثم يعترف المستشرق جومار أن مصر وسوريا عرفت مستشفيات رعاية العميان والمكفوفين قبل أن تعرفها فرنسا بوقت طويل ، ويرجح أن ملك فرنسا لويس التاسع 1214 – 1270 م قد اقتبس فكرة مستشفيات المكفوفين من مصر وسوريا ، ثم يقول ” وهكذا قدم لنا المشارقة النموذج الأول في هذا الشأن ” .

لما كانت تلك من انجازات عصر المماليك 1250 – 1517م ، فإن جومار لم يغفل الإشارة إلى العصر العثماني 1517 – 1798م ، فيقول ” عند استيلائهم على مصر ، لم يلغ العثمانيون إطلاقاً مؤسسات البر والإحسان ، بل على العكس من ذلك أضاف إليها سليم – يقصد السلطان سليم الأول 1470 – 1520 م – ونماها أيضا سليمان – يقصد السلطان سليمان القانوني 1494 – 1566م ، كما ضاعف حكام آخرون وبعض الأغنياء هذه الأوقاف ” .

ثم يورد جدول النفقات العامة عن عام 1798م – أي عام قدوم الحملة الفرنسية – وفي الجدول تفصيل بالفئات والشرائح الاجتماعية المستحقة للدعم ، كما فيه بيانات تفصيلية عن موارد هذا الدعم ، وهي في ص 208 من المجلد العاشر من الطبعة العربية لمن يحب الاستزادة من المعرفة .

كنت أتساءل : هل هذه الخدمات الطبية والعلاجية كانت مقصورة على القاهرة حصراً ؟

ثم عثرت على الجواب في ص 209 ، حيث يقول جومار : ” وعلاوة على المُنشآت المُخصصة لمدينة القاهرة ، كانت هناك أيضاً مصروفات كثيرة من نفس النوع تُخصص للأقاليم ، يقصد تُخصص للإنفاق على خدمات ومرافق ومؤسسات تخدم أغراض الصحة والتعليم وغيرها .

من إنصاف جومار ، لما كانت عليه مصر ، قبل قدوم نابليون وتنويره المزعوم ، وقبل تحديث محمد علي باشا وهو تحديث سلبي فرم ما في المصريين من حيوية وأحل الدولة محل الأمة في تناقض حاد عنيف قائم ومستمر منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى كتابة هذه السطور ، إذا يتحدث – بنزاهة شريفة – عن مجالي الحريات الدينية ثم عن حقوق التعليم  .

1 – تحدث جومار عن حريات العقيدة والعبادة المتاحة للكنائس المسيحية والمعابد اليهودية  – بمختلف طوائفها ومذاهبها – قبل قدوم الحملة الفرنسية ، يقول ” سوف يأخذك العجب ، أن ترى العوام الموسومين بالجهل والتعصب ، لا يلعنون اليهود أو المسيحيين الكاثوليك أو الأقباط والأرمن والسوريين والروم ،،، الخ ، لأنهم قد ألفوا ، ويألفون ، مشاهدتهم ، في جميع الأيام ، ينتشرون بأعداد كبيرة ، يتاجرون – بحرية – في الشوارع والأسواق والأماكن العامة ، وتنتشر الأحياء التي يسكنها الأقباط والإفرنج والروم واليهود ، في كل أنحاء مدينة القاهرة ، دون أن تحميها أيةُ أسوار خاصة ، وكل طائفة لها كنائسها التي تمارس فيها شعائرها في سلام ، ودون أي نوع من المضايقات ” .

ثم يعترف – في نزاهة وشرف – فيقول عن تسامح المصريين فيما بينهم بكل عقائدهم وعن القدر الكبير من الحريات الدينية ، يقول ” وهذه أيضاً مسألة لدينا عنها في أوروبا تصورات قل أن تطابق الواقع ” .

2 – ثم يعود للحديث المفصل عن مرفقي المياه المجانية والتعليم المجاني ، عن الأسبلة الجميلة التي توفر المياه لكل المصريين بالمجان ، ثم عن الكتاتيب التي تعلوها توفر لهم أساسيات التعليم من قراءة وكتابة وحساب ، كأنها خدمة واحد : بل الظمأ وبل الجهل ، بل العطش إلى الماء ، وبل العطش إلى المعرفة ، ري الأبدان بالماء ، وري الأذهان بالعلم ، يقول ” ذكرتُ من قبل أن الأسبلة والكتاتيب العامة في القاهرة ، قد نتجت في معظمها عن منشآت وأوقاف لأمراء وأثرياء كرسوها لصالح سكان هذه المدينة الكبيرة وراحتهم  ” . ثم يعترف فيقول ” وقد لا تكون هناك مدينة في أوروبا تضم هذا العدد من الأسبلة ” ، ثم يشهد بفخامتها وجمالها ، فيقول ” ونلاحظ في بناء هذه الأسبلة – جمع سبيل – أعمدة الرخام والنقوش الجميلة وكذلك حليات من الحجر والبرونز ، ومنها يحصل الناس ، في جميع فصول السنة ، ومجاناً ، على احتياجاتهم من الماء الذي يُحمل إليها بمشقة من الفرع الأقرب من النيل ، حيث تصادفنا في الشوارع الجمال المخصصة لهذه الخدمة بدون انقطاع ” .

ثم يقول ” وعدد هذه المنشآت كبير ، وسيكون تعداد هذه الأسبلة إطالة مفرطة ” ، ويقول ” يبلغ العدد الإجمالي للأسبلة التي قمت بزيارتها على الأقل مائتين وخمسة وأربعين سبيلاً ، من بينها أكثر من ستين سبيلاً تتميز ببنائها الرائع .

، ثم يعود ليعترف ، ثم ليشهد ، أن هذا : ” يبرهن على أن روح الإحسان في الشرق أكثر انتشاراً من تصورنا المعتاد ” ( يقصد تصور الأوروبيين ) .

3 – وعلى عكس تصور الأوروبيين أن المصريين يعيشون في جهل مطلق – كما يعترف جومار – فإنه يذكر أن الكتاتيب توفر فرصة تعليم القراءة والكتابة والحساب لكل الأطفال الذكور ، في حين أن مثل هذه المعارف الأولية ، لا تُتاح في أوروبا إلا لخُمس أو رُبع عدد الأطفال ، يقول في ص 218 من المجلد العاشر من الطبعة العربية : ” إنه لشيئ رائع ، أن يجد الشعب عدداً خاصاً من الدور المفتوحة يمكنه دائماً أن يطلب فيها معارفه الأولية الضرورية ، في الوقت الذي يقوم فيه الربع أو الخمس من مجموع أرباب الأسر في أوروبا بتقديم هذه المعارف لأطفالهم ” .

ثم يذكر جومار ، لكن دون أن يؤكد ، ودون أن ينفي معلومةً تقول أن ثلث السكان من الذكور في القاهرة يعرفون القراءة والكتابة ، ولكنه يعلق بالقول ” غير أن هذا الرقم مبالغ فيه على ما أظن ” .

لكن يقيم مجمل النظام التعليمي المصري ، كنظام يقوم على أسلوب التعليم الجماعي ، بأنه أفضل من مثيله في كثير من قرى ومدن أوروبا ، يقول : ” إن الأسلوب التعليمي للكتابة والقراءة أفضل – من زاوية معينة – مما يوجد في كثير من قرانا ، بل وفي مدننا الأوروبية أيضاً ، ففي حين أننا مازلنا نسير عندنا على الطريقة الفردية ، يتبع في القاهرة نظام التعليم الجماعي ، وفوق ذلك فإنهم يتعلمون القراءة والكتابة في وقت واحد ، أي إنهم عند كتابتهم مقاطع الكلمات ينطقونها في الوقت ذاته بصوت مرتفع ” . ثم يختتم بتقييم إجمالي لنظام الكتاتيب ، فيقول ” ولهذا ، فإن الكُتاب المصري – حتى برغم جوانب النقص فيه – جدير بالمتابعة والاهتمام ” .

كان هذا ، بعض ما تمتع به المصريون من خدمات وحقوق وحريات ، أيام أن كانوا مجرد رعايا ، قبل ما يسمى الدولة الحديثة ، وقبل ما يسمى – على الورق – حقوق المواطنة .

وقد قصدتُ وتعمدتُ البدء بمصادر أجنبية ، قبل الرجوع إلى المصادر العربية .

الحديث موصول في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.