نشر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع واشنطن، مقالا تحليليا، للباحث عماد حرب، المختص في دراسات الشرق الأوسط، والذي عمل كأستاذ للسياسة الدولية بعدد من الجامعات.

يتناول المقال، أوضاع مصر بعد 71 عاما من ثورة يوليو 1952 بما في ذلك ما تواجهه من مخاطر اقتصادية، وطريقة الحكم، ويرى حرب الذي عمل في معهد الولايات المتحدة للسلام، أن طبيعة المشكلات التي عرفتها مصر منذ 1952 مازالت قائمة، وتحتاج لتغيير لطريقة الحكم، على مستوى السياسات الاقتصادية، وأيضا طبيعة النظام السياسي، بما يلبي مطالب التغيير التي كانت سببا في ثورة يناير 2011.

يقول حرب: بعد 71 عامًا من ثورة الضباط الأحرار، يوليو 1952، تواجه مصر مخاطر الظروف الاقتصادية الصعبة والتي تهدد بكسر قشرة الاستقرار في أكثر دول العالم العربي سكانًا.

تعمل الحكومة المصرية في ظل ظروف عجز الموازنة، وارتفاع خدمة الدين، والتضخم، مع ارتفاع معدلات الفقر، وفى هذه الظروف، يسابق النظام للحصول على تمويل لمشاريعه العملاقة، فى ذات الوقت تسابق الحكومة لوقف المزيد من التدهور في محفظتها المالية.

تداعيات إقليمية

يري حرب أنه إذ جرى انهيار اقتصادي، لن تقتصر آثاره المحسوسة على مصر، بل سيكون له تداعيات إقليمية ودولية أيضًا. ففي الوقت الذي يشهد فيه السودان ما يمكن أن يصبح حربًا أهلية طويلة يقودها ضابطان عسكريان غير خاضعين للمساءلة، وعندما تواصل ليبيا البحث عن تسوية سياسية لتحقيق الاستقرار لإنهاء انقساماتها، فلن يكون من السهل احتواء انفجار أزمة مصرية.

أمن البحر الأحمر والاستقرار الإقليمي

إذ حدثت أزمة، سيتأثر الأمن على طول ساحل البحر الأحمر حتى مضيق باب المندب ويمتد إلى القرن الإفريقي، وفقا لحرب، فإن تحسين الظروف لتأمين الاستقرار محليا في مصر، وكذلك الاستقرار الإقليمي لا يمكن أن يحدث دون إصلاحات سياسية تعالج القمع واسع النطاق.

اقتصاد زعزعة الاستقرار

المشاكل الاقتصادية المصرية ليست جديدة، وبالتأكيد لم تبدأ في العقد الماضي (منذ يوليو 2013) مع حكم السيسي، حيث واجهت مصر تحديات اقتصادية منذ ثورة، وكانت التحديات التي واجهت حكم الرئيس الراحل حسني مبارك الطويل في قلب ثورة يناير 2011.

لكن في الوقت ذاته، هناك أزمة اقتصادية يشير إليها الوضع الحالي، تدق أجراس الإنذار، خاصة مع خيارات محدودة للدولة في حلها.

تصاعد التضخم وكتلة الفقراء

يواصل معدل الفقر في مصر اتجاهه التصاعدي السابق الذي يعود إلى ما قبل ثورة 2011. وبحسب الأرقام الرسمية فإن 30٪ من المصريين يعيشون تحت خط الفقر

وتشير تقديرات البنك الدولي إلى معدلات أعلى للفقراء، حيث يشكلون 60 % هذا في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 108 مليون نسمة، وهذه الأرقام تعني أن هناك 60 مليون شخص فقير بحسب تقديرات دولية، أو 30 مليون حسب تقديرات رسمية.

مع تفاقم الفقر وتصاعد التضخم، يجب أن يخشى النظام هذه الكتلة، وصل التضخم إلى 37 % في يونيو الماضي بينما وصل في أسعار الغذاء والمشروبات حوالي 65 في المائة للمواد الغذائية والمشروبات.

تؤثر الإمدادات الغذائية الشحيحة في تضخم أسعار السلع الأساسية فى مصر وكذلك بالنسبة لبلدان المنطقة، ومحليا تشكل مسألة عجز الميزانية، والتحديات التي تواجه واردات الغذاء بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، وسرعة انخفاض قيمة الجنيه (بنسبة 50 في المائة منذ بداية الحرب الأوكرانية) عوامل تفاقم الأزمة الاقتصادية.

كما تشير الأرقام الرسمية إلى نسبة بطالة تصل إلى 7 % وبين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 إلى 24 عاما تصل إلى 17 %.

عجز الموازنة وخدمة الدين ومأزق الاقتراض

ومن المتوقع أن يبلغ عجز ميزانية 2023/2024  حوالي 27 مليار دولار، حيث يرتفع الدين المحلي إلى أكثر من 165 مليار دولار، أي حوالي 97 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وتمثل خدمة الدين استنزافاً هائلاً للموازنة (56٪)، مما يحرم الحكومة من القدرة على توسيع البرامج الاجتماعية للفقراء ومشاريع التنمية لمعالجة ضعف الأداء الاقتصادي، وزيادة تكلفة الاقتراض المحلي.

علاوة على ذلك، يتم تمويل 49 في المائة من الميزانية من خلال الديون. بمعنى آخر، إذا لم تتوفر قروض، قد لا يكون لدى الحكومة ما يكفي للحفاظ على الخدمات الأساسية ودفع الرواتب.

اشتراطات خليجية

كما تزداد صعوبة اقتراض المال. وتشير التقديرات إلى أن دول الخليج العربية، وخاصة السعودية والإمارات، قدمت في شكل ودائع للبنك المركزي وإمدادت وقود، حوالي 100 مليار دولار منذ عام 2013 بينما في عام 2022 وحده، أعطوا مصر 22 مليار دولار للتعامل مع تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا ومخاوف أخرى. ولكن كما هو الحال مع كل عمليات الاقتراض، يأتي وقت لا تتوافر فيه أي أموال “قروض ومساعدات” دون طلبات واشتراطات.

وقعت مصر خلال عام 2022 صفقات بحوالى 12 مليار دولار مع السعودية وقطر والإمارات، وحصلت الأخيرة على أسهم في خمسة من أكبر الشركات المصرية.

بينما صفقات السعودية وقطر، واجهت بعض الصعوبات، بسبب الاختلافات في تقييم أصول الشركات، وفي المنتدى الاقتصادي العالمي يناير الماضي، قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان إن السعودية تنتظر عوائد وإصلاحات مقابل المساعدات التي تقدمها، وصدرت تصريحات مشابهة من الإمارات.

صندوق النقد ملاذ أخير

توجهت مصر لصندوق النقد كملاذ أخير، وفي ديسمبر 2022 وافق الصندوق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، تصرف على مدى 46 شهرًا، لكن الصندوق، اشترط إجراء بعض الإصلاحات الهيكلية.

في عام 2016، أقرض الصندوق مصر 12 مليار دولار لوضع برنامج إصلاح اقتصادي لضمان الاستقرار ودعم النمو المستدام.

في كلتا الحالتين (قرض عامي 2016 و 2022) قدم الصندوق صورة وردية للاقتصاد المصري والتزام الحكومة بالإصلاح. لكن محاولة الصندوق لمساعدة الحكومات المتعاقبة لضبط النفس والعقلانية الاقتصادية باءت بالفشل، وتحديداً بسبب الميل للإنفاق الباهظ على المشاريع الضخمة بجانب دور الجيش في الاقتصاد، مما يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص.

أحد المشاريع التي تُظهر عدم تطابق أولويات النظام المصري هو بناء عاصمة إدارية جديدة لتحل محل المباني الحكومية المتقادمة والمنتشرة في وسط القاهرة.

أُطلق مشروع العاصمة الجديدة في عام 2015، وكان من المتوقع أن ينتهي المشروع في غضون خمس سنوات وأن تبلغ تكلفته 58 مليار دولار، لكنه تأخر بشكل كبير.

أزمة التمويل

على الرغم من تعهد الرئيس السيسي وقت تدشين العاصمة الجديدة، بأن الحكومة لن تمول التكلفة (الضخمة) ، تظهر الدراسات أن (التكاليف) جاءت من الصندوق العام للدولة (الصندوق السيادي) بما في ذلك الأراضي، والقروض المدعومة من الدولة، والديون المضافة.

على ما يبدو، لم يكن هناك استثمار أجنبي مباشر وشيك لتمويل العاصمة الجديدة، وكذلك مشروع توسيع قناة السويس في عام 2015. والذي تكلف 8 مليارات دولار وينتظر منه إيرادات تبلغ 100 مليون دولار سنويًا، وبين العاصمة الإدارية ومشروع قناة السويس سمات مشتركة، منها توفير وظائف وتشغيل شركات يديرها موالون للنظام.

على مر سنوات سابقة، وليس بالضرورة أثناء حكم السيسي وحده، أصبحت المؤسسة العسكرية لاعباً اقتصادياً كبيراً ومهماً في البلاد. في الواقع، يعد الجيش المصري اليوم لاعبًا اقتصاديًا مستقلًا يسيطر عمليًا على القطاع العام للدولة وهو جوهر رأسمالية الدولة التي أسستها ثورة الضباط الأحرار عام 1952.

يكتب يزيد صايغ أن الجيش يتحكم في “التطوير العقاري، وإنشاء مراكز صناعية ونقل، واستخراج الموارد الطبيعية، والعلاقات مع القطاع الخاص، واستثمار القطاع العام بالاستثمارات الخاصة”.

اشترط صندوق النقد الدولي، ضمن اعتبارات مهمة، من أجل إقراض مصر، الكشف العلني عن أعمال الجيش وتقليل دوره في الاقتصاد حتى يتمكن القطاع الخاص من التمتع بحرية تشغيلية مطلقة.

تغيير لا مفر منه

تبدو المراهنة على فرضية مفادها أن “مصر أكبر من أن تفشل” ويفترض أن المقرضين سيكونون دائمًا على استعداد لتقديم المبالغ الهائلة من القروض التي تحتاجها ليس صحيحا.

وأمام تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ومسار سيئ للاقتصاد الكلي، فإن النظام أمامه خياران فقط: زيادة القمع الذي من شأنه أن يستمر لعقود من الحكم الاستبدادي، أو انتقال ديمقراطي تدريجي يلتزم بوعود ثورة 2011.

وعمليا بعد 71 عامًا من قيام جمهورية مصر، يجب إجراء تغيير جدي في طريقة الحكم. لا يمكن للنظام مواصلة المسار ومعالجة عجز الميزانية أو تمويل البرامج الاجتماعية والإنمائية والمشاريع الضخمة دون تغيير.

أدت عقود من الحكم الاستبدادي منذ ثورة 1952 إلى إعاقة التطور السياسي والاقتصادي، ومكنت النخبة العسكرية المهتمة بمصالحها الذاتية من النظام السياسي، وأدت إلى فقر عشرات الملايين من المصريين.

جمهورية خوف

منذ 2013 والإطاحة بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً، ساد القمع والخوف المجتمع المصري، وأدت مشاريع ضخمة إلى تنامي الديون، وسياسياً أصبحت مصر، جمهورية خوف، يتم فيها تجريم الرأي، واحتجاز آلاف السجناء السياسيين إلى أجل غير مسمى، تبدد الوعد بمستقبل مشرق.

الحوار الوطني يوفر فرصة للتغيير

ينهى حرب مقالته التحليلية بالإشارة إلى أنه لا بديل لمصر سوى رسم مسار تدريجي نحو الانتقال السياسي من الحكم الاستبدادي.

ويشير أن الحوار الوطني الجاري الآن يوفر منبرًا جاهزًا للتفاوض على فترة انتقالية بعيدًا عن الحكم العسكري، بشرط أن يرفع النظام كل القيود عن من يشارك فيه وما يتم مناقشته.

ومن المؤكد أن النظام لا يمكنه ببساطة التفاوض مع نفسه أو مع القوى السياسية والمجتمعية الموالية التي وافقت منذ فترة طويلة على الوضع الحالي.

بجانب الحوار، يجب على النظام أن يشرع في عملية تخفيف الضغط السياسي، وتعزيز روح قبول النقد والنقاش حول فتح الباب لتغيير مؤسسي أساسي يتعلق بأسباب ومطالب ثورة 2011.

يختتم حرب تحليله: يجب أن يدرك النظام وداعموه الإقليميون، وتحديداً السعودية والإمارات، أن تطبيق الحلول التجميلية مثل المساعدات والمنح دون إصلاحات اقتصادية وسياسية أساسية لن ينتج غير  إطالة أمد النظام قبل الانهيار، ويجب على المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، أن تسحب رأسها من الرمال، وتدرك أن التغيير هو الذي سينقذ البلاد ويبقيها شريكًا مستقرًا وسلميًا في منطقة مضطربة.