نشرت واشنطن بوست مقالا للكاتبة المصرية، ياسمين الرشيدي، وهي روائية، تعيش بين القاهرة ونيويورك، تتناول المقالة مذابح الخضرة والأشجار الجارية تحت أقدام، وسيقان ثقيلة في القاهرة في السنوات الأخيرة، تدهس وتزيل الحدائق والمتنزهات، وكل ما هو أخضر ونبات من أجل “تطوير” هدفه الربح، والربح فقط للمحاسيب والمقربين، بما يذكر بعبارة الربح فوق الشعب أحياء وأمواتا، فهو لم يستثنِ المقابر و”سكانها”، حتى لو كانوا من رموز تاريخ المصريين.

تقلصت حدائق القاهرة، ما يقلل مساحات الخضرة في العاصمة التي يعيش فيها 22 مليون نسمة، تشير الرشيدي، إلى أن الخضرة كانت ملمحا مميزا للقاهرة، منذ القرن التاسع عشر، مع حكم الخديو إسماعيل.

الحدائق ضمن مساحات خضراء، في طريقها إلى الاختفاء، وتذهب كضحية لخطط البنية التحتية والتي تتضمن إنشاء مشاريع تستهدف الربح ولو على حساب السكان والتاريخ. في مرحلة بات شعارها منذ سنوات الخرسانة فوق الحضارة.

تقول الرشيدي: القاهرة التي يسكنها 22 مليون نسمة، هي واحدة من أكثر المدن كثافة سكانية في العالم، تتكدس فيها المباني، وتتراكم جنبًا إلى جنب، حتى تبتلع أفق المدينة المحاطة جوانبها بالمناطق الصحراوية.

في هذا المشهد (من تكدس ومحيط صحراوي)، توفر الحدائق العامة واحة، ومتنفسا ومنفذا للخروج من المنازل إلى أماكن، يمكن فيها التنزه والمشي.

تعد الحدائق بالنسبة لسكان القاهرة وعلى اختلاف أعمارهم، ملاذا يخلو من  تلوث المدينة، وخلالها  يمكن التمتع بالطبيعة والاسترخاء والتمدد والتنفس بعمق.

بجانب مساحة للراحة والتقاط الأنفاس دون تلوث يخنق، تشكل الحدائق العامة أماكن للنقاش، والثرثرة الاجتماعية التي لا يخلو منها تجمع بشري، وملجأ للعشاق في بلد تعتبر ذلك مثيرا للفتنة.

مراكز تجارية تجرف المساحات الخضراء

الخرسانة تجرف المقابر
الخرسانة تجرف المقابر

تضيف الرشيدي: تختفي حدائق القاهرة واحدة تلو الأخرى، وبدلا من المساحات الخضراء، تتبدل الصورة إلى مواقع بناء مدفونة في الخرسانة والفولاذ.

تكمل الرشيدي السرد: “على طول الشارع الذي نشأت فيه، تم تجريف مساحة كيلومتر من مظاهر الخضرة الممتدة على ضفاف النيل، بما في ذلك أشجار عمرها 100 عام، ذلك التجريف تم بغرض إفساح المجال؛ لمركز تجاري يضم حوالي ثلاثين مقهى على الطراز الأمريكي.

حلت سلسلة من مجمعات البيع بالتجزئة متعددة المستويات، ومحطة وقود بأضواء مضيئة مكان حدائق عرفتها في طفولتي، وكنت أجمع منها الأزهار.

مع شعار “شيد ليأتِ المال” أصبحت عمليات تعبيد وتدمير الحدائق العامة، والمتنزهات خطوة متكررة؛ لإفساح المجال؛ لبناء مزيد من الجسور والطرق والمقاهي، ومحطات الوقود لجني المال.

إنها جزء من سياسة الأمر الواقع في ظل حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي خلف سلفه، محمد مرسي، وبنى نظاما، يعتمد على يد الجيش الثقيلة في إدارة كل جوانب الأنشطة في البلاد، بما في ذلك التصرف في تراثها المعماري والطبيعي.

بدعوى أغراض التنمية، وإعادة استخدام الأراضي، نقل الجيش خلال السنوات الماضية القليلة مئات الآلاف من الكيلومترات إلى ملكيته، بما في ذلك المواقع التاريخية والحدائق العامة والمتنزهات، وأيضا أراض واقعة على ضفاف النيل. سبق وقال الرئيس: “المال، المال، المال”. “إنه أهم شيء في العالم.

قبل استضافة مصر مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بأشهر، أعلنت الحكومة عن “أجندة خضراء” رغم ذلك، استمرت في “إعادة تنظيم” المتنزهات العامة والحدائق من أجل التنمية التجارية.

تكمل الرشيدي: في شرق القاهرة، يقع حي مصر الجديدة، والذي يصفه الأصدقاء في هذا الحي بكونه كان مليئًا بالأشجار، اليوم أصبح كمتاهة من الطرق السريعة المليئة بالجسور وتحتها سلسلة متراصة من المقاهي.

الربح للمقربين والاعتداء على حقنا في التنفس

تقدر جمعية حماية التراث، أن مصر الجديدة فقدت فى الفترة من 2017 إلى 2020، ما يقرب من 272،000 ألف متر مربع، من المساحات الخضراء، واختفت مساحات أخرى بعد ذلك، يقول أحد السكان: “يبدو الأمر، وكأنه اعتداء على حقنا في التنفس”.

ليس حي مصر الجديدة “هليوبوليس” المكان الوحيد الذي طاله التغيير المدمر، إذ هدمت مباني تراثية، ويتم الاعتداء على أحياء تاريخية، بما فيها المقابر، وضمنها مدينة الموتى، والتي يبلغ عمرها 1400 عام.

 حملات هدم وإزالة للمقابر
حملات هدم وإزالة للمقابر التاريخية

نتيجة لذلك التغير، نزحت آلاف العائلات التي عاشت هناك لأجيال. واختفت أضرحة بارزة، واستبدل فدان من الحدائق، في هذه المدينة القديمة بعلامات “لطيفة” للرأسمالية المعاصرة، منافذ بيع بالتجزئة ومطاعم، مشاريع يدير معظمها الجيش، ويوزع بعضها بعقود مربحة على المقربين منه.

منذ فترة، عرفنا أن تاريخنا جاهز؛ للاستيلاء لصالح المشاريع العملاقة المفضلة لدى الحكومة، بينما خلال القرن التاسع عشر، سعى حكم الخديو إسماعيل باشا، لتصبح القاهرة أكثر خضرة– ضمن الجهود المبذولة لتصميم المدينة على غرار العواصم الأوروبية العظيمة، من أجل ذلك زرعت في الشوارع وحول القصور والمباني الأشجار، وأقيمت حدائق أشهرها “حديقة الأورمان” المفروشة بورود اللوتس، والشبيه بالغابات.

بالقرب من حديقة الأورمان|، والتي صممت على طراز Bois de Boulogne في باريس، هناك حديقة حيوان الجيزة، والتي تبلغ مساحتها 52 فدانًا، وتضم نباتات مستوردة من الهند وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.

حديقة الأورمان قبل "التطوير"
حديقة الأورمان قبل “التطوير”

تابع إسماعيل، ما بدأه جده محمد علي باشا: من زرع ضفاف النيل بالنباتات والأشجار الكثيفة، بما في ذلك شجرة الكينا المهيبة التي اشتهرت بها القاهرة.

منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت هذه الحدائق محمية بموجب قوانين التراث، لكن الحكومة الحالية شطبتها بشكل منهجي، ووضعتها تحت تصرف الجيش، وفى كثير من الحالات، يتم بيعها بالمزاد ضمن خطط التطوير “التجاري”.

في الشهر الماضي، على الرغم من الاحتجاج من دعاة حماية البيئة وبعض السياسيين ونشطاء مدنيين، أغلقت حديقة حيوان الجيزة أبوابها، الغرض المعلن إجراء إصلاح شامل. وجعل الحديقة مؤسسة “عالمية”.

لكن لا يزال مصير الحيوانات غير مؤكد، كما يتوقع ناشطون في مجال حماية البيئة، تدميرا للأنواع النباتية النادرة والقديمة التي تضمها الحديقة، وتواجه حديقة الأورمان نفس المصير، تتلاشى معظم حدائق المدينة، ويتم إزالة الأشجار من جوانب الطرق.

إذا كان حكام مصر في القرن التاسع عشر يحلمون بحدائق باريس، فإن زعيم اليوم يتطلع إلى دبي، وتشكل العاصمة الجديدة وسط الصحراء نموذجا.

تكلفت العاصمة حتى الآن ـ 59 مليار دولار، ويتم التفاخر، بأنها تضم أطول ناطحة سحاب في العالم، وأكبر منبر في مسجد.

من المفارقات ضمن مشروع العاصمة، التخطيط لزراعة مئات الأفدنة، وإنشاء “حديقة كبيرة” و “غابة عائمة” ونهر اصطناعي، بينما يشير علماء مختصون في التخطيط العمراني، أن المساحات الخضراء قد تمت زراعتها، دون مراعاة المناخ الصحراوي القاسي هناك، والذي يتطلب كميات هائلة من المياه.

إلى جانب ذلك، يبرز السؤال، لمن كل هذا الذي يبنى من نمط الإسكان الميسور، باهظ الثمن، في بلد يعيش ربع سكانه في أحياء فقيرة في المدن، وتتجه الطبقة الوسطى فيه إلى الانكماش.

أزمة الديون

تواجه مصر أكبر أزمة ديون خارجية في تاريخها الحديث، بينما يستمر الإنفاق على البنية التحتية، وبجانب أزمة الديون، ترتفع مستويات التضخم إلى 40 % بما فيها ارتفاع أسعار المواد الغذائية.

حذر صندوق النقد الدولي الحكومة مرارًا وتكرارًا من تقليص الإنفاق العام. ومع ذلك، تستمر حملة التحديث التي تنفذ بسرعة فائقة، تفاخر الرئيس ببناء ما يقرب من 1000 جسر جديد، و 7500 كيلومتر (حوالي 4700 ميل) من الطرق، منذ توليه منصبه.

لكن الأرقام لا تروي القصة كاملة، إحدى تلك الطرق السريعة الجديدة، والتي تكلفت مليار دولار على طول الساحل الشمالي للبلاد، تضم تقاطعات مرتفعة محفوفة بالمخاطرـ وشهد مجموعة من الحوادث المميتة، مع هذا لا يمكن إنكار أن البنية التحتية تحتاج إلى تطوير، نظرا لتدهورها منذ عقود. وموقف أولئك الذين يحشدون لحماية تراث البلاد، أن الطرق السيئة لم تعد قادرة على احتواء الانفجار السكاني، لكن لا يمكن أن يتم التطوير على حساب تاريخ مصر.

تختم الرشيدي مقالها: اعتدت أن أقوم بجولات منتظمة لتوثيق التغيرات الحضرية– بما في ذلك الأشجار، أثناء قطعها، والحدائق التي هدمت والمواقع التاريخية جرفت.

لا أستطيع اليوم نسيان صورة ميدان التحرير، الدوار الأخضر الشهير والنافورة، حيث اعتاد الناس التنزه، وصورته اليوم، مسلة يحرسها الأمن على مدار الساعة، وأزهار وأشجار كانت تظلنا خلال ثورة 2011، هذا العام قطعت آخر واحدة منها، ولم يتبق منها غير جذع وحيد؛ لتذكيرنا بما كان في السابق.