تزايد الحديث عن انتخابات الرئاسة في مصر، وتباينت تصورات القوى الحزبية، والنخب السياسية في النظر إلى الاستحقاق السياسي الأهم الذي من المتوقع أن تبدأ إجراءاته قبل 120يوما، من نهاية ولاية الرئيس السيسي في يونيو 2024.

والحقيقة، أن هناك مدارس وخبرات مختلفة في التعامل مع تجارب الانتخابات في النظم غير الديمقراطية، أو نظم التعددية المقيدة التي تسمح بهامش يتيح الترشح، ولكنه لا يسمح بالتغيير عبر صندوق الانتخاب، وتركزت أساسا حول مدرسة تتبنى مقاطعة الانتخابات، ما دام لا نعيش في ديمقراطية كاملة، وأخرى ترى ضرورة المشاركة من أجل إحداث تراكم يؤدي للإصلاح السياسي والديمقراطي.

رؤيتان

هناك من يرى، أن الانتخابات الرئاسية القادمة معروف نتائجها مسبقا، وأن الرئيس السيسي سيفوز بولاية جديدة، وأن النظام السياسي الحالي غير مصمم على قبول أي تداول للسلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، وبالتالي يتبنى مقاطعة الانتخابات، ويطالب بعدم المشاركة فيها.

والحقيقة، أن هذا التوجه عرفته مصر منذ إعلان الرئيس السادات تجربة التعددية المقيدة في 1976، فقد تبنت كثير من القوى والتيارات السياسية مقاطعة الانتخابات التشريعية والرئاسية، واعتبرها البعض وسيلة ضغط على الحكم من أجل توسيع الهامش الديمقراطي، وتعزيز المشاركة السياسية.

والواضح، أن المقاطعة لم تضعف النظام القائم، ولم تقوي المعارضة، لأن هذه الدعاوى جاءت في ظل “مقاطعة سلبية”، اعتاد عليها غالبية الناس نتيجة؛ عدم ثقتهم في جدوى أي استحقاق انتخابي، وظلوا مقاطعين بالفطرة حتى ثورة يناير.

ومن هنا، فإن المقاطعة لم تكن في أي مرحلة من تاريخ مصر سلاحا فعالا في وجه النظام القائم، وأن من يدعو إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية القادمة لن يضيف جديدا، على واقع المقاطعة السلبية التي يعيشها أغلب الناس منذ عقود، باستثناء مرحلة الاستحقاقات التشريعية والرئاسية التي أعقبت ثورة يناير.

أما الرؤية الثانية، فهي ترى أن تجارب التغيير والإصلاح السياسي تتم على مراحل، وأن المشاركة السياسية والانتخابية هي جزء من استراتيجية تتبناها كثير من القوى الديمقراطية في العالم كله، وتقوم على التراكم وخوض معارك بالنقاط والتقدم في مساحات تضيف لرصيد بناء الديمقراطية، وتساعد في إجراء عملية الإصلاح السياسي.

والحقيقة، أن الواقع المصري الحالي يقول، إن الرؤية الثانية باتت تتبناها أغلب القوي السياسية والحزبية، صحيح أن الغالبية الصامتة لا زالت في حالة عزوف عن المشاركة في أي استحقاق انتخابي، ليس بسبب قوة خطاب تيارات المعارضة الداعية لمقاطعة الانتخابات، إنما استمرار لعزوف تاريخي ممتد منذ عقود طويلة، فقد فيها قطاع غالب من المواطنين الثقة في المنظومة السياسية برمتها.

مرشحون في العلن وتفاعلات في الخفاء

سيميز المواطنون “الإيجابيون” الذين سيشاركون في الانتخابات الرئاسية بين مرشحين، كلفوا بأن يترشحوا وبين مرشحين تفاهموا قبل أن يترشحوا، وبين مرشح وحيد حتى الآن، قرر أن يترشح دون تكليف أو تفاهم، صحيح أن الدولة لو أرادت منعه لفعلت، ولكنها لم تفعل لحسابات تخصها، وهو وضع إذا استمر سيعطيه ميزه المصداقية.

ومن هنا، فإن كل المرشحين المحتملين الذين يفترض أن ينافسوا الرئيس السيسي، يمثلون الجانب المعلن من تفاعلات كثيرة تجري في المجتمع، بالمقابل لا زالت هناك عوامل أخرى ستحكم انتخابات الرئاسة منها، تأثير تدهور الوضع الاقتصادي، وسوء الأداء العام على خيارات الناس ومواقفهم، بجانب أزمة الديون والأمن وانتشار العنف داخل المجتمع.

وبعيدا عن صحة ما يقال في السر من “قصص وحواديت” لا تعد ولا تحصى عن انتخابات الرئاسة، فإن الإشكالية الحقيقية تكمن في معرفة أسباب وجود هذا الكم من القصص والتسريبات، والناس التي تحلف بأغلظ الأيمانات، بأنها سمعت كلاما قاطعا أن الرئيس السيسي لن يترشح، أو أن عمرو موسى سيترشح، وهي كلها أحاديث غير مؤكدة وبلا دليل على صحتها.

والحقيقة، أن جانبا من أزمتنا الحالية (ستتصاعد مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي)، أن الحكم حجب كثيرا من التفاعلات، وغيبها عن العلن والنقاش العام الحر، وتصور أنها لم تعد موجودة، ولكنها في الحقيقة انتقلت إلى غير المعلن، وباتت تجري في الغرف المغلقة.

لم يغب عن مختلف النظم السياسية، الوسيط السياسي، أي كان شكله، سواء كان في نظم الحزب الواحد (مثل الصين)، أو نظم التعددية الحزبية، أو الوسيط الأهلي من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال إضعاف هذه الوسائط؛ يصبح هناك خطر كبير أن تقفز في وجوه الجميع “التفاعلات المخفية” التي تجري في بطن المجتمع، سواء أخذت طابعا اجتماعيا أو سياسيا أو احتجاجيا أو عنفيا.

والحقيقة، أن الاستحقاق الانتخابي القادم فيه جوانب معلنة من مرشحين محتلمين، وهيئة عليا للانتخابات، وحوار وطني، ونقاشات بين الدولة، وبعض قيادات الأحزاب، لكن فيه كثير من التفاعلات غير المعلنة أو غير المرئية، قد تأخذ شكلا سلبيا، بانسحاب قطاع واسع من الناس عن المشاركة في الانتخابات وتزايد “المقاطعة السلبية”، أو تأخذ شكل فعل غير متوقع، يكون نتاج تفاعلات مخفية، تحمل مفاجآت تُغير كثيرا من حسابات ما يجري على السطح.

إن الحفاظ على استقرار البلد يكون بتحويل التفاعلات المخفية إلى تفاعلات مرئية للنقاش الحر في إطار الدستور والقانون، ولأن المحاولات التي حصلت متأخرة للقيام بذلك مثل، الحوار الوطني لم تنجح في استعادة ثقة الناس في المسار السياسي، وتشجيعهم على المشاركة في الانتخابات القادمة، بما يعني أن أوراق “المخفي” وغير المعلن باتت أكبر بكثير من المعلن، وقد يحول استحقاق الرئاسة من تجربة انتخابية إلى حدث جلل.