اهتم الأنثربولوجيون والسيميائيون ودارسو الفلكولور، وغيرهم بالملابس وتطورها، وقدرتها على تحديد هوية مجتمع ما؛ بالنظر إلى ما تنطوي عليه من أنظمة جمالية، واجتماعية وأيديولوجية وحضارية؛ فقد تجاوزت الملابس– مع رحلة الإنسان في الأرض- الدور الوظيفي الأولي إلى أدوار أخرى أكثر تركيبًا ورهافة، مما جعلها خطابًا من العلامات التي تتعلق بتميز الذات الفردية في مجتمع ما؛ بالنظر إلى غيرها من الذوات، على نحو ما نجد في ملابس كبار رجال الدولة من الملوك، والأمراء التي امتازت – في وقت سابق- عن ملابس العامة من الناس، ويمكن الحديث بالقدر نفسه عن ملابس العسكريين في مقابل المدنيين، وملابس سكان القرى مقابل سكان المدن، وملابس سكان السواحل مقابل سكان الوادي، وشمال الوادي نفسه مقابل صعيده …إلخ

وهذا يعني، أننا إزاء تنوع كبير، فرضته البيئة حينًا، كما نجد في ملابس الريفيين، وسكان السواحل التي جاءت باستمرار، وفي كل الأماكن فضفاضة متقشفة؛ لتناسب طبيعة أعمالهم تارة، وأحوالهم الاقتصادية تارة أخرى، وكما أثّرت البيئة على شكل الملابس، كذلك أثّرت المكانة الاجتماعية والانتماء الطبقي، كما نجد في التمييز الواضح بين ملابس العبيد والسَّادة، والسَّادة وعامة الناس في الفترات التاريخية المختلفة.

وفي المجتمعات العربية القديمة، اكتسبت بعض قطع الملابس أهمية خاصة، مثل غطاء الرأس أو العمامة؛ فعمامة الخلفاء مثلا – فيما يقول الجاحظ – تختلف عن غيرها من عمامة الناس، وكذلك عمامة الفقهاء، تختلف عن عمامة غيرهم من عامة المسلمين. (البيان والتبيين ج3 ص65)

لقد كان ذلك كله واضحًا، يمكن تمييزه بالعين المجردة، ولم يكن مسموحًا لعامة الناس مثلًا، محاكاة السَّادة والأمراء في ملابسهم، حتى لو توفَّرت القدرة المادية لبعضهم؛ فالتمييز في الملابس يترتب عليه تمييز اجتماعي، يتعلق بالمكانة نفسها، وما تتضمنه من قيم معينة، تتصل بالطريقة التي يجب أن تُعَامل بها هذه الطبقة، أو تلك في الفضاء العام، وكذلك التمييز الديني بين الطوائف المختلفة.

وفي مقابل الأفراد والفئات داخل المجتمع الواحد، يمكن الحديث عن ملابس الأمم المختلفة، وكيف تتميز ملابس كل أمة عن غيرها،  فيما يعرف اليوم بالزيّ القومي، الذي يقتصر ظهوره- غالبًا- على المناسبات القومية والوطنية، وهو زيّ إشهاريّ، يدل على هوية خاصة، ويزداد الحرص على إظهاره في أوقات الصراع العرقي والديني والحضاري، ولعلّ “الشَّال” الفلسطيني أشهر نموذج لهذه الحالة؛ باعتباره رمزًا لهذه الجماعة، يميزها عن أعدائها، وإشارة على وجودها وترابطها.

كل هذا التنوع، يجعل الملابس خطابًا كثيفًا، ينطوي على رسائل وشفرات، يمكن مقاربتها لفهم هوية الأفراد، والأمم في طور حضاري ما.

سنحاول في الفقرتين التاليتين متابعة تغير الملابس في فترتين مهمتين من التاريخ المصري المعاصر، الأولى: بدايات النهضة المصرية، باعتبارها لحظة حاسمة في التفاعل بين نموذجين حضاريين: نموذج العصر الحديث ونموذج القرون الوسطى.. والأخرى: بداية السبعينيات التي عرفت فكرة الانفتاح، وهيمنة النمط الاستهلاكيّ على حياة المصريين.

النهضة المصرية… أي ملابس نرتدي؟!

على مستوى التأثير والتأثر تُعد مصر – تاريخيًّا – بلدًا منفتحا، وهي بذلك لا تختلف – كثيرًا- عن غيرها من البلاد التي تشبهها في الانفتاح على جيرانها، ومحيطها وعلى غيرها من الشعوب والثقافات، ولعلّ الأزياء أن تكون أبرز أشكال التفاعل بين الثقافات، وقد عرفت مصر أنماطًا عِدّة من الملابس على امتداد عصورها، وجرى عليها – بشكل أو بآخر– التمييزات التي أشرنا إليها، وبالتأكيد لسنا هنا بصدد رصد هذه التمييزات أو تطورها، وسنكتفي بالنظر إلى بعض الملابس؛ باعتبارها جزءًا من خطاب أعمق؛ فقد تطورت الملابس في مصر، وتغيرت أنماطها وأسماؤها بالتوازي مع بدايات نهضتها، والمواقف المبدئية التي اتخذها الفرقاء من هذه النهضة، وكيف أدى ذلك إلى تمسك كل فريق بزيّ محدد، يراه دالًا على موقفه ورمزًا له.

ففي بداية السِّجال حول النهضة المصرية، مطالع القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، امتازت ملابس كل فريق من رجال النهضة بالنظر إلى “الموقف” من النهضة المصرية، وعلاقتها بالنموذج الغربي؛ فالذين دعوا إلى احتذاء الغرب “كليًّا” أو “جُزئيًّا” اختلف زيُّهم عن نظرائهم الذين عارضوا هذا الاختيار، ورأوا أن الطريق الأمثل هو تمثُّل التراث، ومحاولة تجديده وعصرنته؛ فالحاجة إلى النهوض لا تعني التّخلي عن الذات لصالح ذات أخرى، على اختلافٍ بينهم في طريقة مقاربة التراث وهضمه وتطويره، وهذه الإشكالات تجلّت بشكل واضح في غطاء الرأس، أو ثنائية: العمامة والقبعة التي تنسحب بالضرورة على البدلة الغربية، ورابطة العنق مقابل الزِّي التقليديّ: الجلباب والجُبَّة وفوقه العِمَامة؛ فالعِمامة ومَنْ يرتديها تشير إلى التوجّه المحافظ، والعلاقة القوية مع التراث، سواء أكانت هذه العلاقة تجديدية على نحو ما نراه – مثلًا- في صور الفوتوغرافية للإمام محمد عبده، والشيخ أمين الخولي (كانا يرتديان العمامة رغم أن الشيخ أمين الخولي لم يكن أزهريًّا) أم كانت أصولية محافظة، تنزع إلى السكون والنقل والتكرار؛ باعتبار التّراث منجزًا مكتملا، وقادرًا بذاته على الوجود في العصر الحديث، وهذا ما انتهت إليه رمزية العمِامة في وقتنا الحالي، بعد أن تخلى عنها الجميع، وباتت علامة على انتماء صاحبها الوظيفي (الديني) على نحو ما نجد في عمامة رجال الأزهر والأوقاف.

بدا المجتمع المصري– مع هذا السِّجال– الذي عكسته الملابس مجتمعًا تعدديًّا؛ من حيث تنوع الأفكار والمواقف وطرق الدعاية لها؛ ففي مقابل الأزهر والأوقاف والكتاتيب، أنشأ أصحاب القبعات المدارس الحديثة، والجامعة الأهلية؛ لتدريس العلوم المدنيّة المعاصرة ومناهج التفكير الحديثة، وهي مناهج غربية، وعلى إثرها بدا، أننا إزاء نوعين من السّجال الفكري أو موقفين متمايزين من النهضة، وكان طبيعيًّا أن يصطدم التياران في كثير من المواقف والقضايا، ويمكننا أن نأخذ معركة كتاب “في الشعر الجاهلي” 1926م  لـ”طه حسين” مثالا على هذا التجاذب الحاد بين النزوع إلى المنهجية الغربية، وما أسفرت عنه من تصورات ورؤى مغايرة للسائد والشائع، والموقف الأصولي الذي تشدد في معارضة الكتاب وصاحبه، وأكثرهم من المعممين.

  جبّة الدكتور محمد عمارة

ولأننا لم نحسم أمرنا طوال قرنين من الزمان، فكان بدهيا أن يتكرر الصدام مع تحولات عصرنا، واتساع أدوات اتصاله وتنوعها، وهذا ما أسفر عنه السِّجال الحاد حول أطروحات الدكتور نصر أبو زيد، داخل المجتمع المصري نهايات القرن الماضي، ويمكننا أن نأخذ مثالا على ذلك، المناظرة الشهيرة بينه وبين الدكتور محمد عمارة على قناة الجزيرة في نهايات القرن الماضي، وتحديدا في 1996م، فقد حرص الدكتور عمارة مثلا، على ارتداء الجُّبة فوق الجلباب العربي (السعودي الذي أصبح الزيّ الشعبي لكثير من الشرائح الاجتماعية في مصر) أثناء اللقاء، في إشارة إلى محافظته، وتمسكه بالأصول الدينية مقابل تجديد أبي زيد، وما أثير حول إنتاجه العلميّ من ضجّة إعلامية، اتهمته بالمروق والتجديف.. لم تكن ملابس عمارة (التراثية) في هذا اللقاء دالة على الموقف الفكري الذي يؤمن به فحسب، وإنما بدت علامة دالة تجذب المشاهدين إلى حُججه ومواقفه، قبل أن يبدأ الحوار، يأتي ذلك كله في سياق بلغت فيه “الصحوة الإسلامية” ذروتها الاجتماعية والثقافية.