ومع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر، تغيرت الملابس، شكلًا ووظيفة، فقد هيمنت الملابس الغربية على المدن العربية، وكان بمقدور أي إنسان مثلًا – فيما يرى جلال أمين – أن يميز حتى أوائل ستينيات القرن أبناء الطبقة الوسطى بملابسهم الغربية (البدلة والطربوش) للرجال، وبمقدوره أيضًا، تمييز ملابس نساء هذه الطبقة، فهن يرتدين– غالبًا- الفستان، وقد يضعن غطاءً خفيفًا على الرأس، وقد يتخففن منه، ومع توسُّع الدولة في التعليم والصناعة بعد ثورة 1952م، اتسعت رقعة المدينة، وانتقل كثير من أبناء الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى، وكان تغير ملابسهم إشارة بارزة على انتقالهم الطبقي، والوظيفي وتغيّر مكانتهم الاجتماعية والثقافية.

ولم يقتصر هذا التغير على المدن الكبيرة وحدها، وإنما انسحب أيضًا على الريف والمراكز، وإن كان بشكل أقل؛ فقد انتشر التعليم في الريف مع الوقت، ووضعت الدولة للتلاميذ، والطلاب زيًّا موحدًا (يونيفورم)، يجب على الجميع الالتزام به، هو القميص والبنطلون بالنسبة للذكور، والمريلة (فستان قصير) للفتيات، صحيح أن ذلك ظلّ حتى بداية السبعينيات زيًّا مدرسيًّا، يرتديه الطلاب داخل الحرم المدرسي فحسب، إلا أنه شكّل بداية أساسية؛ لتغير واسعٍ في أزياء الريف. ومع نمو النزعة الاستهلاكية تراجع – إلى حد الندرة – الزِّي الرِّيفي التقليديّ: الجلباب الفضفاض ذو الأكمام الواسعة للرجال، والجلابية (أمّ صُفْرة مستديرة) والملس” للنساء، ليهيمن نموذج الزِّي الغربي: البنطلون والقميص القصير على غيره من الملابس التقليدية.

الروح الاستهلاكية والعولمة

تؤشر حقبة السبعينيات إلى تغول الروح الاستهلاكية على عموم المصريين، فصرنا إزاء مجتمع استهلاكي، أعاد صياغة القيم العامة على نحو غير مسبوق؛ لم تعد الأشياء تقدر بقيمة ما تؤديه للإنسان من وظائف أساسية أو ثانوية، وإنما باتت القدرة على احتياز الأشياء في حد ذاتها قيمة، منها يكتسب الإنسان قيمته وحضوره الاجتماعي، وبالتأكيد تقع الملابس في قلب هذه الأشياء؛ فالملابس الغربية مثلا، لم تعد تشير إلى موقف فكري أو وجهة نظر، على نحو ما رأينا لدى أساتذة النهضة، وإنما تراجعت هذه الدلالة لصالح دلالة أخرى مهيمنة، فأصبح ارتداء البدلة الغربية زيًّا رسميًّا عامًا، يفرضه القانون في كثير من أماكن العمل، ومنه انتقل إلى المناسبات الشخصية والعامة، وفكرة الزِّي الرسميّ في حد ذاتها، تشير إلى حيادية الملابس، وخلوها تقريبًا من الشفرات الدلالية والاجتماعية، إنها ملابس وظيفية فحسب، إلا إذا أخذنا في الحسبان انتماء البدلة إلى إحدى الماركات العالمية، وهنا نكون إزاء قيمة استهلاكية عامة، تشير إلى ثراء صاحبها.

ومن المهم هنا، أن نشير إلى أن هذا التحول لا يقتصر على المجتمع المصري فحسب؛ فالحالة الاستهلاكية عالمية، تتصل بانتصار المعسكر الرأسمالي، وتفرده بصياغة “النموذج” الجمعيّ، وكما تعلم، فإن كل نموذج ينطوي بالضرورة على قيمه المغايرة، وتشترك منظومة كاملة من المؤسسات المختلفة في صناعة الملابس وتغييرها وعولمتها، وهذا ما تقوم به بيوت الموضة العالمية، وأدواتها في فرض “النموذج”، وتعميمه على المجتمعات المختلفة كثيرة ومتنوعة، مثل: الإعلام والنجوم في مختلف المجالات، والسينما ومصممو الأزياء، وصناع النسيج و شركات التنبؤ بالألوان. Color Forecasters…

الملابس المحلية.. الفرصة الضائعة

لقد تراجعت – بشكل كبير- في ظل العولمة الملابس المحليّة على الأقل في المدن الكبرى، وما بقي منها اقتصر على المناسبات الاجتماعية والقومية، أي أنه صار أقرب إلى الحالة الفلكلورية، حتى مع أكثر الشعوب محافظة، إذ لم تعد ثقافة ما بمنأى عن أدوات العولمة، وإكراهات النموذج الغربي والأمريكي، لقد حدث ما يشبه القطيعة بين تراثنا من الأزياء وما نرتديه اليوم، وكأن حوانيت الحياكة (دكاكين الخياطة) التي ظلت قرونًا تحيك الملابس المحلية لم تكن؛ فقد اختفت هذه الحوانيت لصالح الأزياء الجاهزة، تلك الملابس التي تحمل رقمًا، يشير إلى مقاس لابسها، وما من دلالة تنميطية أقوى من أن تحمل كل قطعة ملابس “رقمًا” محددًا، يشترك فيه ملايين البشر…

لقد ترتب على ذلك غياب إرث كبير، كان ينبغي أن يتطور؛ ليناسب تغير مجتمعاتنا، وطبيعة الأنشطة الجديدة، وعجز صناع الموضة وبيوت الأزياء عندنا عن تقديم هذا التراث؛ باعتباره أقل تكلفة، وأكثر انسجامًا مع بيئتنا، وربما أكثر ثراء من مثيله الذي يفد علينا من الغرب والشرق.. لقد ظلت أزياؤنا التقليدية كما هي دون تغيّر يذكر، تشير إلى الماضي، وما يمثله من قيم لم تعد موجودة، ولم تعد أساس الاختيار، وموضع الأناقة التي يتطلع إليها الجميع، لم نتمكن من إحيائها وإعادة البناء فوقها، فكان طبيعيًّا أن تستقر على هامش الحياة.

من الصعب اليوم أن نميز بين الناس على أساس ملابسهم، سواء على مستوى الطبقة أو الفئة، أو نخرج بدلالة ما من تأمل إزاء سكان هذه المدينة أو تلك، على نحو ما تحدث أحمد أمين.. فرؤساء العالم وملوكه يرتدون الزّيَّ الغربيّ، أي الزّيّ الرسمي الذي يرتديه كثير من الناس، والفئات على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، وقد يقتصر التمييز على لون البدلة، إذ يجب أن تكون سوداء، إذا تعلقت مناسبة ارتدائها بالحزن مثلًا، أما ما سوى ذلك فهي ليست أكثر من زيّ رسميّ.

وإذا تركنا البدلة (الرسمية) إلى غيرها، وجدنا هيمنة للنموذج الغربي الـ(سبورت)، البنطلون والـ (تي شيرت)، وهو زي يرتديه جماهير الناس؛ لعمليته وسهولة الحركة فيه، وقد يؤشر إلى شيء من التبسط الشخصي، ولكن انتشاره بين جميع الطبقات والأعمار، قد فرّغه من هذه الدلالة، ولم تبق منه غير عمليته التي تناسب زحام المدن، وحاجة الإنسان إلى التحرك كثيرًا بين الأماكن المختلفة داخل المواصلات العامة.

وقد لا يجد السائر في شوارع مدينة مثل، القاهرة اختلافًا كبيرًا بين أزياء الناس وبين غيرهم في مدن غربية كبيرة؛ فالقميص والبنطلون للرجال هو الزيّ الشائع، يرتديه الكبار ويرتديه الشباب على السواء، مع اختلاف في طريقة ارتدائه ونوع القماش، وإن هيمن “الجينز” على الجميع، وأصبح زيًّا أساسيا يرتديه الناس: رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا.