تتذكر السيدة الأربعينية مشهدها الأخير، لبيتها المكون من طابق واحد في العاصمة السودانية- الخرطوم- بعد أن طالته القذائف، فدمرت بعض أجزائه، ولم يكن بوسعها إلا الفرار بأبنائها، تاركة ملابسها، ومقتنياتها تحت الركام.

في الثامن من مايو الماضي، توجهت “أم لبن عبد الرحمن”- من منطقة أم درمان في العاصمة الخرطوم، إلى مدينة حلفا الحدودية، بصحبة أبنائها الثمانية، مستجيرة بالقاهرة من ويلات الحرب الدامية في السودان، بعد أن أحرقت نيرانها المنزل، وكادت بشكل مفاجئ أن تطيح بأرواح ساكنيه.

منتصف إبريل الماضي، اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات الدعم السريع التابعة لـ “محمد حمدان دوقلو”- الشهير بـ “حميدتي”، وقوات الجيش برئاسة عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، ما زالت الحرب دائرة حتى الآن، ما يفاقم أوضاع النازحين واللاجئين.

حسب بيانات للأمم المتحدة، تستضيف مصر نحو نصف عدد اللاجئين الذين اضطروا إلى الفرار من القتال تباعا، وعلى مدار 4 أشهر مضت.

حفاوة استقبال

تقول “أم لبن”: إن الرحلة من السودان إلى القاهرة استغرقت 4 أيام، دون أية صعوبات في الدخول إلى الأراضي المصرية، بجانب أن أولادها جميعًا دخلوا بوثائق.

بوصولها، سألت السيدة- التي تعول أبناء في مراحل تعليمية مختلفة- عن أماكن تجمع للسودانيين، وأشار عليها البعض بمنطقة المعادي– جنوب شرق القاهرة-، وهناك جلست في الشارع، لكن أحدهم أخبرها، أن هذا الأمر غير وارد، وبعدها استضافها رجل سوداني في مسكنه.

وتضيف لـ “مصر 360” أقيم مع أبنائي الثمانية في الصالة، وأشعر أننا أثقلنا عليه، ولا نعيش إلا على المساعدات، لكنني لا زلت متفائلة بوجود عمل، وكنت في السودان أعمل بتجارة الملابس.

ما يقع في قائمة أولويات “أم لبن” تدبير مدارس الأولاد، وسكن مستقل، لكنها في النهاية ممتنة لحفاوة استقبال المصريين.

دعم نفسي لأسر مشتتة

وتذكر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: إن أكثر من 113 ألفاً، فروا من السودان إلى مصر عبر المنافذ الحدودية المشتركة، خلال الفترة من 15 إبريل/ نيسان إلى 17 مايو/ أيار، بينهم 107 آلاف سوداني، وأكثر من خمسة آلاف من جنسيات أخرى.

عطفًا على ذلك، تقول: “هدى عوض الله”- 47 عامًا-: جئت إلى القاهرة في الخامس من يونيو الماضي، بعد أن أمضيت نحو 12 يومًا في المعبر، وسط معاناة شديدة بسبب ظروف المرض.

بصحبة أبناؤها الأربعة، اتخذت “هدى” قرار الفرار من جحيم الحرب بسبب؛ عدم وجود علاج في السودان، واضطرت بعد فترة إقامة في المعبر لترك اثنين من أبنائها “ولد، وبنت” على الحدود، لحاجتها إلى علاج مرض “السكر”.

وتضيف لـ “مصر 360” فور وصولي القاهرة، ذهبت إلى طبيب بعد أن صرفوا لي علاجًا في المعبر عبارة عن جرعة “أنسولين”- تحت رعاية الهلال الأحمر، وتدهورت حالتي إلى الأسوأ بعد أن فاقمها تفكيري الدائم في مصير أبنائي، وأصبت بالتهاب حاد في العصب.

تتذكر “هدى” زوجها الذي أصيب بطلق ناري في منطقة البطن، ورصاصته التي استقرت بجوار الكلى، وتستطرد: قال لي زوجي لا بد أن تخرجي الآن بالأبناء، وبقي هو بالخرطوم، ومنذ نحو شهرين لا تواصل معه، ولا أعلم عن ولديّ العالقين شيئًا.

وترغب السيدة الأربعينية في الوصول إلى حل لدخول أبنائها إلى القاهرة، بعد فترة توقيف امتدت إلى شهرين على الحدود، لكنها في الوقت ذاته تشيد بدعم تلقته بمنظمة الهلال الأحمر بمنطقة المعادي، امتد من العلاج إلى الدعم النفسي.

“هدى” التي تقيم في شقة صديقة سودانية بالقاهرة تقول: لست في راحة، لكنني مجبرة، وقبلت الاستضافة، لأنني لا أقدر على توفير ثمن الإيجار، وأعيش على المساعدات فقط.

عائلات تواجه التفكك

وحسب تصريحات سابقة لـ “كريستين بشاي”- المتحدثة الرسمية باسم مفوضية شؤون اللاجئين في مصر، فإن عددًا من الأسر السودانية لم تتمكن من الوصول بكامل أفرادها، مما تسبب في تفكك بعض العائلات.

ورصدت المفوضية وصول عائلات دون الأب، بينما أخفق بعض الأطفال الذين لم يبلغوا السن القانونية في الحصول على تأشيرة دخول إلى مصر مع عائلاتهم، وبقي بعضهم مع أحد أفراد أسرته في السودان.

ما زال هناك آخرون عالقون على الحدود المصرية– السودانية- حسب روايات بعض الأسر.

معاناة التأشيرات

وتقدّر منظمة الهجرة الدولية أعداد الوافدين إلى مصر بأكثر من تسعة ملايين شخص، وفدوا إليها من نحو 60 دولة. وحسب تصريحات سابقة لـ “أحمد آدم عطية”- مدير أحد المراكز الخدمية للاجئين السودانيين- فإن الوضع الراهن أصبح شاقًا على السودانيين، نظير وصول تأشيرة الدخول إلى ما يزيد عن عشرة آلاف جنيه.

يحصل السودانيون على طلب تأشيرة دخول من قنصليتين مصريتين، في وادي حلفا وبور سودان، في شرق السودان، وغالبية النازحين قادمون من أحياء فقيرة، وليس بحوزتهم سوى ما يقتاتون عليه إن وجد، ويقدم “عطية” عبر مركز المعرفة، والتطوير الذي يرأسه في القاهرة دعمًا لنحو 2800 مواطن سوداني في مصر.

 تنظيم أوضاع اللاجئين

يقول النائب ضياء داوود- عضو مجلس النواب-: إن ملف اللاجئين يحتاج إلى تنظيم، لأنه أصبح شائكًا للغاية، لكن ذلك لا يعني حرمان اللاجئين من حقوقهم التي تكفلها المبادئ الدولية “.

ويستطرد قائلًا: كل ما يحدث حاليًا، يضغط على موازنة بلد تجاوز عدد سكانه 100 مليون نسمة، والأمر يحتاج إلى معالجة”.

وسبق أن اتخذت السلطات المصرية إجراءات جديدة في شهر يونيو الماضي بشأن؛ دخول السودانيين إلى مصر، عبر اعتماد تأشيرات للراغبين في العبور إلى أراضيها، بغض النظر عن الفئة العمرية للوافدين، ونوعهم بعد أن كانت قاصرة على الرجال فقط، وفي المرحلة العمرية من (16 إلى 50 عامًا).

وبررت الحكومة المصرية قرارها، بأنه يستهدف وضع إطار تنظيمي لعملية دخول السودانيين إلى مصر.

مطالبات بتخفيف القيود وعجز مالي

في هذا السياق، طالبت عدة منظمات حقوقية، بتخفيف القيود على دخول السودانيين إلى مصر، ووجهت أخرى انتقادات لفرض تأشيرات على جميع السودانيين، مما قيد وصول النساء والأطفال والمسنين إلى مصر، وصفت هيومن رايتس الإجراءات الجديدة، بأنها “صدّ المدنيين الفارين من النزاع”.

بينما طالبت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر بدعم مالي يقدر بنحو 130 مليون دولار؛ لمواجهة الوضع الطارئ، بيد أنها لم تحصل سوى على 10 ٪ منه فقط من الداعمين الدوليين، رغم استمرار نزوح السودانيين إلى مصر.

إيجارات الشقق.. أزمة مستمرة

زادت الظروف الاقتصادية الصعبة من احتياج اللاجئين والمجتمع المُضيف، ومع افتقار العديد من اللاجئين إلى مصدر دخل ثابت إلى جانب ارتفاع التضخم، تزيد التحديات.

وتقول “م. أ”- 57 عامًا- موظفة بالمحليات في مدينة الخرطوم: لم تكن لدينا أية معلومات عن الحرب الدائرة حاليًا في السودان، فوجئنا بها قبل شهر رمضان الماضي بنحو أسبوع.

بسبب انتشار قوات في الشوارع، وطائرة أعلى البيوت، شعرنا بالرعب، في شهر رمضان، اختبأت مع بنت خالتي في غرف أرضية؛ خوفا من القصف أو الهجوم من الجنود.

تستكمل: عشت مع أبنائي رعبًا شديدًا، وانتقلت بعدها لمنطقة “حاج يوسف”، ثم إلى “سيما كراري”، ولم تهدأ الأوضاع؛ فقررت السفر.

من معبر أرقين إلى أسوان

وتضيف لـ “مصر 360” مع ابنتي ركبت حافلة، وترقبنا لفترة طويلة الطرق الآمنة، ووصلنا إلى معبر “أرقين”، وحدثت مشكلة لدى دخولنا بسبب؛ عدم اكتمال أوراق السائق الرسمية، وحولتنا الشركة إلى “حافلة” أخرى، ومن “كركر” استأجرنا حافلة نقلتنا إلى أسوان.

“عشت معاناة كبيرة”، والحديث لـ “السيدة م. أ”، ولم أستطع إحضار شهادات دراسية لبناتي، والرحلة تكلفت نفقات كبيرة، ولم نأت بأية سلع تموينية.

وتستطرد: عانيت في القاهرة من إيجارات الشقق المبالغ فيها، ومصاريف الطعام والشراب، والعلاج “، وإلى جانب ذلك، أعاني من انقطاع أخبار زوجي الذي ابتلعته الحرب، ولا نعلم عنه شيئًا.

وهنا وبعد إقامتنا مع أسرة سودانية في شقة مشتركة، شعرت بالضيق، ولجأت إلى سكن آخر أضع فيه مرتبتين على الأرض، وصاحبة السكن تطلب زيادة في الإيجار.

الشعور بالأمن يكفي.. ولكن!

وتشير “م. أ” إلى أنها تصورت أن فترة الإقامة ستكون شهرًا على الأكثر، وبعدها تتاح العودة إلى الخرطوم، لكن هذا لم يحدث.

وترغب السيدة الأربعينية حاليًا، في توفير تكاليف الدراسة، أو عمل لابنتها التي تدرس التمريض حاليًا بجامعة القاهرة.

تستطرد قائلة: “لا أجد بابًا يقدم مساعدات للسودانيين في القاهرة، إلا وطرقته”.

وتقول “رقية عبد الرحمن”- 41 عامًا-: جئت إلى القاهرة مع جيراني بالخرطوم، وأقمت 7 أيام في مدينة حلفا، بعد أن تعرض بيتي للقصف، وخرجت منه بملابسي التي أرتديها فقط.

وتستطرد قائلة: منذ أن تركنا منازلنا، وجئنا للقاهرة في مايو الماضي، لا ندري ماذا نفعل؟، لكننا مطمئنون؛ لكون مصر بلد آمن، وننتظر فرص سكن آدمي بمقابل مقبول، وعمل نقتات منه “.

مساعدات لا تكفي

في هذه الظروف، يعتمد عدد كبير من اللاجئين، وطالبي اللجوء على المساعدات الإنسانية؛ لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وتقديم الدعم الطبي أو النفسي– الاجتماعي، لكنها لا تكفي.

تضيف رقية عبد الرحمن: معي 3 أبناء، وأقيم في منزل صديقة سودانية، لكننا مجبرون على ذلك، ولا توجد راحة، وصرفنا مساعدات لاجئين لمدة شهرين بقيمة “450 جنيهًا” شهريًا.