هكذا كان التعبير الذي استخدمه الأديب الراحل، الأستاذ محمد مستجاب، في وصف الرجل، والذي أضعه على رأس هذا المقال عنوانًا، يليق بالمناسبة. إنه “طاغوتُ الكِتابة الجَميل” الذي حلت علينا، منذ أيام الذكرى الثانية والثلاثين لتمام أثره. لكلمة “الطاغوت” اصطلاحًا معانٍ كثيرة، أوردتها المعاجم المتنوعة، لكنها اتفقت جميعًا على سلبيةِ دلالات الكلمة، ما بين المعتدي الغاشم والشيطان، والضلال الذي يصرف عن طريق الخير وهو ما أجزم، أن الأستاذ مستجاب لم يكُن يعنيه؛ فمستجاب، وقد كان مُغرمًا -رَحِمَهُ الله- بصكِ الفخيم من التعابير، أوضح مقصده بجلاء، حين ذكر لفظة “الكتابة” كمضافٍ لكلمة الطاغوت المُشتقة من فِعلِ الطُغيان الذي يعني تجاوز الحد سلبًا أو إيجابًا، كأن تقول مثلًا، “طُغيان السيل” في وصف فيضانه أو تدفقه الزائد عن المُعتاد. هكذا كان صاحبنا على وجه الضبط، مُتدفقا فياضا مُسيطرا، لا تملك إزاء ما يكتبه إلا الاستسلام التام؛ لزخم الحالة التي تتملكك بمجرد الشروع في قراءة ما يكتب، خصوصًا في قصصه القصيرة، فلا يمكنك أن تكتفي بقدرٍ منها؛ فتتركها دون إتمام. قرار الاكتفاء ليس بيدك، تأخذه وقتما تشاء، لكنك تفعل، حين يُقرر هو ذلك بانتهاء العمل الذي تقرأه له. شخصيًا، كنت ألهث في المتابعة، يخفق قلبي مع كل كلمة، ويتعرق مِنِى الجبين، أسارع مُلاحِقًا فيزداد لهاثي، لكنني أبدًا لم أستطع الفكاك، إلا حين ينتهي هو تاركًا إياي مبهورًا برئ الدهشة. هكذا هو طغيان الكلمة، وهكذا كان طاغوت الكتابة الجميل.

“أنا سلطان قانون الوجود” مثال واحد فقط للتدليل على صحة وصف المرحوم مستجاب. إحدى ليالي رمضان 1972، خيمة السيرك القومي بالعجوزة، فقرة ترويض الأسود. “حين تمضي الحياة بامتحان لا يرسب فيه أحد، ولا يتفوق أحد، ولا يُفصل أحد. حين يحدث هذا. ماذا يبقى من الإنسان؟ وإذا كان هذا السؤال لم يعد أحد يهتم بأن يجيب عليه. بله، أن يطرحه، فإن هناك أناسا في حياتنا لا يستطيعون أبدا إهمال السؤال، فهو فارض نفسه عليهم فرضا، ولا فكاك منه. هؤلاء هم تلك النسبة فينا التي تحيا وجها لوجه مع الخطر. وبالذات مع خطر من هذا النوع.”

كان طاغوت الكتابة الجميل يروى لنا، ما حدث بشكل غير تقريري، ينفذ في وصف عجيب الدقة إلى الروح، روح البطل مُروض الأسود وروح الأسد وروح المُتفرج الذي يصفق، حتى التصفيق كان له عند يوسف إدريس وصفًا خاصًا، يقترب من التحليل النفسي المُقتَدِر. “تصفيق الناس للألعاب في السيرك، له معنى مختلف عن أي تصفيق آخر، يحمل معنى إنسانيا عميقا جدا. هناك أبدا أنت لا تصفق مجاملة أو مجاراة. بصدق تصفق. والعمل الذي ينتزع منك التصفيق ليس أي عمل. كلما اقترب من قدرتك على القيام به بهت وفقد أهميته. كلما استحال عليك القيام به بهرك، وازدادت حدة تصفيقك. ليلتها كان للتصفيق في أذني وقع غريب. فمهما بلغت اللعبة أمامنا من مهارة، ومهما احتوت من إعجاز وبطولة، فالتصفيق حتى في أعتى موجاته كان دائما يبدو فاترا، وكأنه صادر عن جمهور، قد قرر بادئ ذي بدء… أن لا يقيس أي شيء بمقدار قدرته عليه أو استحالته، وكأن أي شيء يبدو مستحيلا تماما، أو حتى ممكنا تماما لا فرق. كان في الحقيقة نوع من تصفيق الخجل، إذا لم تصفق تصفيق أداء الواجب تدفعه كثمن التذكرة، كالضريبة، وأمرك لله.”

أن يصف يوسف إدريس بأعلى درجاتِ دِقَة الإحساس، وبأرفع مستويات الصياغة الأدبية، مشاعر الإنسان، سواء كان ذلك الإنسان هو مُروض الأسود، أم كان المُتفرج الذي يصفق، فهذا شأن كاتبٍ عظيم، يحاول فهم وشرح ذاته شخصيًا كإنسان، أما أن يصف مشاعر الأسد، ملك الإحساس -كما قال عنه إدريس- فتلك عبقرية، لم يشاركه فيها سوى الأفذاذ كالأستاذين توفيق الحكيم ومحمود السعدني، عليهما وعلى صاحبنا ـ رحمة الله ــ  أخذوا سلطان للأسر بحديقة الحيوان، بعدما افترس مدربه، حين أحس بلحظة خوفه، ليموت محمد الحلو بالمستشفى، وليذهب سلطان في صيامٍ عن الحياة مُكتئبًا. يقول يوسف إدريس: “ونستغرب بعد هذا، لماذا صام سلطان عن الطعام، وقضى الأيام التالية حزينًا. الحزن في رأيي كان سببه؛ أنه أبدا لم يُرِد أن يحدث ما حدث. إن الأسد حيوان ليس الغدر في طبعه. وكالكلب الوفاء عنده غريزة. ففي هذه اللحظة، أنا قابع مع سلطان في حبسه الانفرادي، قاتلا، ومجرما، ومنبوذا، ومحل سخط الجميع وازدرائهم. قابع معه أتساءل، كما لا بد لذي العقل منا لو كان حيوانا، أو الحيوان منا لو كان ذا عقل أن يتساءل: ما هي جريمتي أيها السادة؟”.

في الأول من أغسطس 1991، غادرنا ذلك الشرقاوي، الأشقر ذو العينين الزرقاوين الحادتين كصقرٍ أَبِىٍ، المولود في 1927، والموصوف بطاغوت الكتابة الجميل، فعلى الموصوف والواصف رحمة الله.