في ص 126، وما بعدها من المجلد الحادي عشر من موسوعة وصف مصر، يتحدث المستشرق الفرنسي، دي لابورت – عضو المجمع العلمي المصري، ومستشار بونابرت ومترجمه – عن المملوك عثمان بك ذو الفقار، الذي تولى منصب مشيخة البلد، وسيطر على مقاليد السلطة في مصر زمناً طويلاً من 1729م إلى 1743م، فيقول عنه: وكان عادلاً، فأشاد الجميع بحُسن إدارته، وكان يُعاقب بالقتل من يختلس من الضرائب المكلف بجبايتها، وأنه وقف إلى جانب الناس حين داهمهم الطاعون، ثم بعد الطاعون حلت بالبلد مجاعة، ففتح الخزائن العامة أمام الناس للحصول على ما يلزمهم من طعام؛ حتى انقضت المجاعة، وحلت الوفرة في الأسواق من جديد، ولا ينسى المؤلف، أن يشير إلى أن قرار عثمان بك ذو الفقار في فتح خزائن الدولة أمام المحتاجين والفقراء من المصريين لم يكن غير تقليد لسياسة قديمة، وضعها أستاذ المماليك الأكبر الظاهر بيبرس 1223م -1277م.

ثم في ص141، وما بعدها من الدراسة ذاتها، يتحدث دي لابورت، عمن وصفه بصاحب السلطة المطلقة، وهو علي بك الكبير، الذي تولى مشيخة البلد، وضم إليه الحجاز واليمن والشام، وسيطر على البحر الأحمر وشرق المتوسط وتحكم في تجارتهما، وأعلن استقلاله عن السيادة العثمانية، وكانت مشيخته من 1764 – 1774م، يقول عنه دي لابورت، إنه ” تمتع بسيطرة مطلقة، وأحب أن يثبت أنه يستحقها، فكان عادلاً مع الجميع، وطهر الطرقات من لصوص الأعراب، وانشغل بفعل الخير، فمدحه الجميع كأمير جعل الهدوء والسكينة يحلان محل الفزع والرعب”.

في كتابه “ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية” يذكر مؤلفه نقولا الترك 1763 – 1828م، وهو من الشوام الذين هاجروا إلى مصر، وعمل في جهاز الترجمة مع الحملة الفرنسية، يذكر من إنجازات نابليون في مصر أنه “قسم البلد خطوطاً (البلد مقصود بها القاهرة)، وجعل لكل خط حاكماً فرنساوياً، وكان الولاة من الفرنساوية يقفون على أبواب المدينة ليلاً ونهاراً، حتى حدود بولاق وحدود الجيزة، وانقطعت جنس اللصوص، والخطافين ـ والعربان، والسارقين. وكان حكام الخطوط يطلقون المناداة على المصريين بكناسة الطرقات والشوارع، ورش الماء لأجل النظافة، ونظام الطرقات، ورسموا (قرروا) أن على كل باب بيت، أو باب وكالة (دكان) قنديل مشتعل طول الليل”.

ما ذكره دي لابورت، عن عدل عثمان بك ذو الفقار، ثم علي بك الكبير، ثم ما ذكره نقولا الترك عن إدارة نابليون، كان الأصل الذي استوحيت، واقتبست منه فكرة هذا المقال، حيث أدرس معنى العدل في ذلك الوقت عند اثنين من أشهر مماليك القرن الثامن عشر، وواحد من أخطر غزاة مصر، وقد لاحظت الارتباط الوثيق بين مفهوم العدل، ونمط الإدارة وتيسير حياة الناس.

وفي هذه المقالة ندرس العدل في زمن المماليك في القرن الثامن عشر.

المماليك على ثلاثة أصناف: مجرد قادة عسكريين كبار تحت السيادة الأيوبية، ثم حكام أصحاب السيادة، والكلمة العليا في دولة حملت اسم دولة المماليك، ثم مجرد قيادات محلية تحت السيادة العثمانية. ستة قرون كاملة والمماليك ثابت من الثوابت الكبرى في السياسة المصرية، وإذا أضفت إليهم الدولتين الطولونية والإخشيدية، فإن تراثهم السياسي- بمقياس الزمن – أكبر وأعمق وأكثر تجذراً في تلافيف الهوية المصرية، إذا قورن بتراث أي إمبراطورية أجنبية حكمت مصر، سواء الفرس أو الإغريق أو الرومان أو العرب، وكانت حقبة محمد علي باشا 1805 – 1849م، هي همزة الوصل الروحية بين التراث السياسي المملوكي، والدولة الحديثة، محمد علي باشا امتص العصارة المملوكية بمهارة، وبثها في دماء وخلايا ومفاصل وجينات الدولة الحديثة بمهارة أشد، ولا تزال هذه العصارة تفعل فعلها، تتحور، وتتطور، وتتكيف مع الزمن، لكنها باقية متجددة، اليوم وغداً، إلا أن يتنادى المصريون – بمختلف توجهاتهم – إلى التوافق على عقد اجتماعي جديد، يجعل الشعب، وليس الحكام مصدر السلطات.

والمماليك في السياسة مدارس ثلاثة: مدرسة الفرز الأول، حيث القادة العظماء مثل، بيبرس وقلاوون من المماليك البحرية، أو المماليك الأتراك، ثم مدرسة الفرز الثاني مثل، برقوق من المماليك البرجية أو المماليك الجراكسة، ثم مدرسة الفرز الثالث، الذين تم احتواؤهم تحت قبضة السيادة العثمانية، حيث لعبوا دور القيادات المحلية في الأقاليم، ثم مع ضعف وتفكك وتراخي القبضة العثمانية، انتقلت سطوتهم من المحليات والأقاليم إلى مركز القرار في العاصمة، واشتهر منهم رضوان بك ذو الفقار، عثمان بك ذو الفقار، وعلي بك الكبير، ومحمد بك أبو الدهب وآخرين .

هذا المقال يتناول المدرسة الثالثة الأقرب إلينا بحكم الزمن، فهم صنعوا القرن الثامن عشر الذي هو الأب المباشر للسياسة في الدولة الحديثة من نهاية القرن الثامن عشر، حتى كتابة هذه السطور في خواتيم الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، القرن الثامن عشر، هو الجار الألصق بنا في التاريخ، وهو السلف الأقرب إلينا في سلسلة النسب السياسي، القرن الثامن عشر هو النبع الجوفي الذي استقى، وتستقي منه القرون اللاحقة، التاسع عشر، العشرون، الحادي والعشرون. القاعدة الثابتة والمستمرة في القرون الأربعة، أن الحكم له ناسه، الحكم مخصوص بفئات معينة، ولا يتسع لفئات جديدة، ناهيك أن يتسع لعموم الشعب، دائرة القرار العليا ضيقة ومغلقة، ناد مغلق بإحكام شديد. هذا النادي المغلق كان يتم فيه تداول السلطة بالقتل، المقتول يخرج من السلطة، القاتل يصعد للسلطة، ثم قتل جديد، فيخرج المقتول، ثم يصعد القاتل وهكذا، فلم يكن الشعب طرفاً من قريب أو بعيد في عملية تداول السلطة، ولم يكن الشعب يعبأ بمن راح، ولا بمن جاء، كل ما كان يفرق معه هو مقدار العدل، أو الظلم الذي يحكم به هذا أو ذاك، لم تكن للشعب مطالب سياسية، فهذا سابق لأوانه، لكن كانت للشعب أشواق لشيء من العدل تُصانُ به الأموال والأرزاق والأرواح، ويأمن فيه الناس على أنفسهم من اعتداءات الجند والبدو والأعراب، والبكوات واللصوص والسراق وقطاع الطريق.

النادي السياسي الضيق المغلق بإحكام شديد، والذي يجعل السلطة حقاً حصرياً لفئة محدودة جداً، ما زال قائماً بعد قرنين على زوال المماليك، لكن مع فارقين: الأول، أن القتل لم يعد وسيلة انتقال السلطة، والتداول عليها. الثاني، أن الشعب – بالدستور – صار طرفاً في العملية السياسية. فأصبح التداول على السلطة لا يلزم له القتل، حل محله الاستفتاءات المزورة، والانتخابات المفبركة، فتم الانتقال من شرعية القوة بالسيف إلى شرعية القوة بتزوير الإرادة العامة. شرعية القوة هي جوهر التراث السياسي المملوكي، سواء قوة مجردة يحسمها السلاح، يهوي فوق الأعناق، أو قوة مستترة تمارس سطوتها من وراء ستائر الاستفتاءات والانتخابات العامة. باختصار شديد: التطور الذي حدث هو الانتقال من تداول السلطة عبر قتل الأشخاص إلى التداول على السلطة عبر قتل الإرادة العامة لمجموع المواطنين، منطق القوة – في الحالين -هو الذي يحكم.

مدرسة المماليك الثالثة: الذين حكموا مصر في القرن الثامن عشر، وجربوا الانفراد بالحكم، وجربوا غزو الحجاز واليمن والشام، وجربوا الاستقلال عن السيادة العثمانية، وجربوا السيطرة على تجارة الشرق، وجربوا التحالف مع هذه القوة الأوروبية أو تلك، ووضعوا – دون أن يدروا – مصر على مداخل العصر الحديث، هؤلاء المماليك لم يظهروا فجأة في القرن الثامن عشر، تجربتهم وصلت ذروة النضج في القرن الثامن عشر، لكن سبق ذلك رحلة صعود شاقة استغرقت القرن السابع عشر.

رحلة الصعود الشاقة في القرن السابع عشر، يرصدها المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون، 1925 – 2011 م في ص 80، وما بعدها في الجزء الأول من كتابه المهم في تاريخ مصر العثمانية، وعنوانه “الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر”، “بدأ ذلك مع انهيار سلطة الولاة العثمانيين في مصر، في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، بالتوازي مع الانحدار الذي بدأ في الدولة العثمانية، فبعد السلطان سليم 1470 – 1520م، ثم سليمان 1494 – 1566م، ثم مراد الرابع 1612 – 1640م، باستثناء هؤلاء السلاطين العظماء الثلاثة، لم يتول الحكم في الدولة العثمانية إلا سلاطين ضعفاء أقل من أن يتحملوا مسؤولية الحكم، مما ترتب عليه إضعاف مؤسسة السلطة نفسها، وكانت الهزيمة أمام أسوار فيينا عام 1683م دلالة خطيرة على ضعف القوة العسكرية للدولة العثمانية”.

ثم يشرح أندريه ريمون، أن السلطنة العثمانية مرت بأزمة اقتصادية طاحنة، فلم تعد رواتب الجنود تكفيهم، فلجأوا للأنشطة المدنية، والابتزاز والتكسب من الأعمال غير المشروعة، يقول: “قام الجند بحركات كثيرة ضد الولاة العثمانيين، ابتداءً من السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر، وكان سببها انخفاض العوائد التي يتلقاها الجند من رواتبهم “. “وعام 1586م، قامت أول ثورة عسكرية في تاريخ مصر العثمانية، حيث شوهد الجند، وهم يعارضون طريق الوالي العثماني، ثم قبضوا عليه، ثم أودعوه في أحد المنازل، ثم تكررت التمردات العسكرية في أعوام 1589م، ثم 1598م، ثم 1601م، ثم في 1604م، وصل التمرد إلى ذروة الخطر، إذ قتل الجند الوالي إبراهيم باشا، والذي اشتهر بعد مصرعه بلقب “إبراهيم المقتول”. “وفي عام 1609م، كان يحكم مصر والي عثماني شديد القسوة، هو محمد باشا الملقب “قول قيران”أي”محطم المماليك”، ورغم ذلك قامت ثورة عاصفة لم تقتصر على القاهرة، وامتدت إلى كل الدلتا، حتى أن بعض المؤرخين يعتبرون إخماد العثمانيين لهذه الثورة بمثابة الفتح العثماني الثاني لمصر”. كل هذه كانت تمردات جنود عثمانيين، وهي مهدت الطريق، لصعود بكوات المماليك.

عن صعود المماليك، يقول أندريه ريمون: ” البكوات المماليك، وليس الجند العثمانيون هم أكبر خطر يهدد سلطة الولاة العثمانيين. حتى بداية القرن السابع عشر، لم يكن المماليك يلعبون أي دور سياسي، وكانوا – في العادة – يُساندون الولاة ضد الجند. لكن بعدعام 1610م، أصبح البكوات المماليك – بالتدريج – الفئة السياسية المُسيطرة في مصر، وبدأوا يواجهون الوالي العثماني بقوة متزايدة. وفي عام 1623م، رفضوا الاعتراف بشرعية الوالي الذي أرسله السلطان، وفرضوا استمرار الوالي القائم إلى عام 1626م. وفي عام 1931م خلعوا الوالي، ثم عينوا واحداً منهم قائمقام، إلى حين يرسل السلطان والياً غير الذي عزلوه”. ثم يذكر مثال رضوان بك ذو الفقار 1600 – 1656م، وهو مملوك شركسي، بسط سيطرته على مصر طيلة ربع قرن من الزمان 1631 – 1656م، وحاول أن يصطنع لنفسه نسباً عربياً، يعود بجذوره إلى أشراف قريش ” ويعقب أندريه ريمون، بأن “رضوان بك بقي تحت السيادة العثمانية، فلم يطمح للاستقلال عنها، كما فعل أحمد باشا الخاين 1524م، والذي عوقب بالإعدام، وقطع الرأس على باب زويلة، أو مثل على بك الكبير بين عامي 1768 – 1774م “. ثم في القرن الثامن سيطر المماليك على أهم المناصب السياسية والعسكرية، فهم قادة الأربع وعشرين مديرية، ومنهم منصب السردار أي “قائد الحملات العسكرية سواء في الداخل أو الخارج”، ومنهم منصب أمير الخزينة الذي يحمل المستحقات المالية على مصر للسلطان كل عام، ومنصب أمير الحج أي “قائد قوافل الحج إلى مكة والمدينة”، ومنصب الدفتردار أي “مسؤول المالية والخزانة العامة”، ومنصب قائمقام أي “من يتولى منصب الوالي” بصورة مؤقتة إلى حين يرسل السلطان الوالي الجديد.

عند الجبرتي، تقرأ التصوير الكافي لملامح اللحظة التاريخية التي استولى فيها المماليك على مفاتيح السلطة في مصر، وهنا نكتفي بمثالين شديدي الدلالة على ما نريد:

– المثال الأول، في ص499 من الجزء الأول من تاريخ الجبرتي، وهو يؤرخ لعام 1187هجرية – 1774م، التي مات فيها علي بك الكبير، يقول في نعيه ونعته ووصفه: “مات الأمير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة، والحوادث المشهورة، وكان قوي المراس، شديد الشكيمة، عظيم الهمة، لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى، والرياسة الكبرى، ولا يميل لسوى الجد، ولا يحب اللهو ولا المزاح ولا الهزل، ويحب معالي الأمور من صغره”، ثم في ص 500 يقول عنه الجبرتي: “قتل الرؤساء من أقرانه، ثم غدر بصالح بك ( أقرب حلفائه )، ثم نفى باقي الأعيان، وفرق جمعهم في القرى والبلدان، وتتبعهم خنقاً وقتلاً، وأبادهم فرعاً وأصلاً ، وأفنى باقيهم بالتشريد ، وجلوا عن أوطانهم إلى كل مكان بعيد ، واستأصل كبار خشداشينه ( مماليكه المقربين ) وقبيلته وأقصى صغارهم عن ساحته وسدته، وأخرب البيوت القديمة، وأخرم القوانين الجسيمة، والعوائد المرتبة والرواتب التي كانت من سالف الدهر منظمة، وقتل الرجال، واستصفى الأموال، وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي، وأعاظم الشجعان ومقادم البلدان، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، واستكثر من شراء المماليك، وجمع العسكر من سائر الأجناس، واستخلص بلاد الصعيد( يقصد من سيطرة الهوارة بقيادة شيخ العرب همام )، وقهر رجالها الصناديد”،  ثم يقول الجبرتي: “ولم يمهد لنفسه، حتى خلص له ولأتباعه، الإقليم المصري من الإسكندرية إلى أسوان، ثم جرد عساكره إلى البلاد الحجازية ( يقصد غزو الحجاز والسيطرة على البحر الأحمر )، ثم التفت إلى البلاد الشامية ( يقصد غزو الشام من غزة حتى حلب )، وعمَر قلاع الاسكندرية ودمياط وحصنها بعساكره”. ثم يقول: “ومنع ورود الولاة العثمانيين “وهذا معناه إعلان استقلاله بحكم مصر بعيداً عن سيادة السلطنة العثمانية”.

ثم الأخطر، فيما كتبه الجبرتي، عن علي بك الكبير، هو ما ذكره عن ثقافته وفكره ورؤيته للسياسة والحكم والتاريخ، يقول في ص 500 من الجزء الأول “كان – يقصد علي بك الكبير – يطالع كتب الأخبار، والتواريخ وسير الملوك المصرية، ويقول لبعض خاصته، إن ملوك مصر كانوا مثلنا مماليك، الأكراد مثل، السلطان بيبرس، والسلطان قلاوون، وأولادهم، وكذلك ملوك الجراكسة، وهم مماليك بني قلاوون”، لم يكن فقط يرى نفسه ومشروعه السياسي امتداداً للمماليك الأوائل، لكن كان يرى أنهم أصحاب الحق الشرعي في حكم البلاد، وأن العثمانيين أخذوها منهم بالتغلب، يقول الجبرتي على لسان علي بك الكبير: “وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب، ونفاق أهلها “، ثم يذكر الجبرتي، أنه “لولا خيانة بعض قادته لاستطاع علي بك الكبير أن يرد الأمور إلى أصولها ( أي يرد مصر إلى الحكم المملوكي المستقل صاحب السيادة بديلاً عن الحكم العثماني”.  انتهى الاقتباس من الجبرتي، وهو يكشف أن مشروع علي بك الكبير، كان أكبر من مجرد مملوك يريد السلطة، كان مشروع استقلال عن العثمانيين، وتأسيس حقبة مملوكية جديدة، ولم يكن بطبيعة الحال مشروع استقلال وطني، كما حاول بعض المؤرخين أن يصوروه، فلم يكن لفكرة الوطنية موضع قدم في ذاك الوقت.

– المثال الثاني، في ص 505، والجبرتي يؤرخ لعام 1188هجرية – 1775م، حيث آلت مقاليد الدولة إلى محمد بك أبو الذهب – تلميذ – علي بك الكبير، الجبرتي هنا يُبدع في رسم ملامح الخريطة السياسية، يقول: ” استهلت – يقصد السنة – ووالي مصر خليل باشا محجور عليه ( يقصد ممنوع من ممارسة صلاحيات الوالي العثماني ممثل السيادة العليا على البلاد )، ليس له في الولاية إلا الاسم والعلامة على الأوراق، والتصرف الكلي – يقصد القرار الفعلي – للأمير الكبير محمد بك أبو الدهب، والأمراء، وأعيان الدولة مماليكه وإشراقاته، والوقت في هدوء وسكون وأمن ( يقصد انعدام الصراعات على السلطة )، والأحكام في الجملة مرضية، والأسعار رخية، وفي الناس بقية، وستائر الحياء عليهم مرخية”. انتهى الاقتباس.

  ما سبق صورة موجزة لمماليك الفرز الثالث، مماليك مصر في العهد العثماني، السؤال الآن:

أين العدل في حكم هؤلاء؟ ما معنى العدل في ذلك الوقت؟ كيف كانوا يقيمون العدل؟ كيف كانت المظالم ترتفع عن المصريين، ولا أقول الشعب المصري، فمفهوم الشعب – بالمعنى السياسي الحديث كمالك للبلد، وصاحب سيادة ومصدر للسلطة – لم يكن له وجود، كان السائد هو مفهوم الرعية، وهو مفهوم يرتب واجب الطاعة على المحكومين للحكام، في مقابل جملة مستقرة من الحقوق لهم على الحكام، هذه الحقوق تكفل حماية الأمن والأرواح والملكية والأرزاق والسمعة والعرض، والشرف والكرامة والدين والشريعة والأعراف والتقاليد إلى آخره.

بالقطع أوروبا سبقتنا في الفكر السياسي، جددت فكرها السياسي من الحكم بالحق الإلهي إلى الحكم بالعقد الاجتماعي، فنزلت السياسة من المقدس الديني إلى الوضعي البشري، وهذا من أعظم ما أنجزت أوروبا الحديثة، وهو ما نقلها من عصورها الوسيطة إلى ماهي عليه الآن. صحيح لم يكن عندنا حكم بالحق الإلهي للملوك، لكن اكتسب ولي الأمر- بالممارسة الواقعية الفعلية – وضعاً إلهياً، يأمر وينهى ويقبض ويبسط ويقتل ويعفو، فلا حدود لسلطته إلا بمن يخرجون عليه بالسلاح، أو ما يتقيد هو به من تلقاء نفسه، حسب مزاجه الشخصي وأخلاقه الذاتية. وصحيح أن الشريعة مستقلة المصدر عن الحاكم، وأن القضاة ملتزمون بالشريعة، لا بتوجيهات الحاكم، لكن بقيت الشريعة واستقلال مصدرها، كما بقي القضاء واستقلال قضاته، بقي هذا وذاك بعيداً عن السياسة، تم تحصين السياسة والحكام وقراراتهم وأفعالهم، وربما مجازرهم ومذابحهم وفسوقهم وفجورهم من رقابة القضاء، كل ما كان من شأن السيادة والقرارات السياسية، كان بعيداً عن سلطة القضاء وتدخله ورقابته، وكل ما دون ذلك من وجوه الحياة كان يخضع لسلطة القضاء. فكان الحاكم – مهما كان ورعه وتقواه – يصدر الأمر بالقتل، ثم يقتل بيده أو ينيب عنه من يقتل دون اتهام، ودون دفاع ودون أي اجراءات للتقاضي، وتبيان الحق من الباطل.

عندما كان الجبرتي يكتب تاريخه” عجائب الآثار في التراجم والأخبار ” بين أواخر القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر، كانت أوروبا سبقت ثم كتبت ثم قرأت ” رسالتان في الحكم المدني ” كتبها جون لوك عام 1689م . ثم أصدر ” رسالة في التسامح ” عام 1667م، وفيهما فند أكبر عقبتين في سبيل التطور السياسي : عقبة الحكم بالحق الإلهي أي الحكم بادعاء التفويض من الله وليس من الشعب ، رفض التفويض من الله وأقر حق الشعب في الاختيار  . ثم عقبة الدولة الدينية التي تدعي تمثيل دين أو عقيدة أو مذهب. ثم أعقبه دو مونتسكيو 1689 – 1755 م وأصدر روح القوانين 1748م. ثم أعقبهما جان جاك روسو 1712 – 1778م وأصدر” العقد الاجتماعي”.

الجبرتي عاش ومات بين 1753 – 1825م، أي وقت أن كانت أوروبا تغلي بهذه الأفكار الجديدة، وبعد وفاة الجبرتي بعام واحد، كانت البعثة التعليمية الأولى التي حملت رفاعة الطهطاوي إلى باريس؛ ليمكث خمس سنوات، ثم بعد عودته بثلاثة أعوام، يصدر كتابه الأول “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” 1834م، وبينما كان الجبرتي ارستقراطي نخبوي مصري، يميل للمماليك، ويجفو العثمانيين، ولا يبلع محمد علي باشا، كان الطهطاوي على النقيض تماماً من حيث أنه فقير أزهري قادم من الصعيد، يتبنى أفكار محمد علي باشا، وضد المماليك مع عنصر زائد، وهو النقل عن أوروبا، أو تلخيص بعض ما قرأ وعرف وترجم عن أوروبا ومنها.

لفرق الضخم بين الجبرتي والطهطاوي، أن الجبرتي مثقف مستقل، والطهطاوي مثقف تابع، الأول مستقل عن الدولة، وعن مشروعها وعن صراعاتها وعن أحزابها أو – بالأحرى – عصاباتها، أما الطهطاوي، فهو مثقف من صنع الدولة، ومن تخطيطها، ومن تروسها ومن أدواتها. مع الجبرتي انتهت أجيال من المتعلمين، و المتفقهين والمتأدبين والقضاة، والتجار الذين صنعوا أنفسهم أو صنعهم المجتمع عبر تعليم أهلي، يتمول من أوقاف أهلية، لم يكن الأزهر لبنة خاضعة في بناء الدولة الرسمي، بل كانت دار علم مستقلة تمام الاستقلال، بعكس ما حدث مع ما يسمى الدولة الحديثة التي بسطت قبضتها على كل المؤسسات، والكيانات والرجال حتى انضوى، ثم انطوى كل شيء تحت مفرمتها الجبارة، ففي عهود مماليك القرن الثامن عشر كان الجبرتي، ووالده حسن الجبرتي 1698 – 1774م، وغيرهما من كبار العلماء والفقهاء يتمتعون باستقلال يضاهي الاستقلال الذي يتمتع به البحث العلمي في الغرب، وفي كتاب “مصر في القرن الثامن عشر: دراسات في تاريخ الجبرتي “صادر 1955م، عن مكتبة الأنجلو المصرية، تأليف محمود الشرقاوي، نقرأ “أن والد الجبرتي – الشيخ حسن الجبرتي الكبير – آخر من تولى تدريس الهندسة، والفلك والفيزياء والمواقيت في الأزهر الشريف، وأن بيته كان أقرب إلى جامعة، وأن طلاب الإفرنج كانوا يحضرون من أوروبا للدراسة على يديه علوم الهندسة، ثم ذهبوا إلى بلادهم، ونشروا بها هذه العلوم، وأخرجوها من القول إلى الفعل، طبقوا نظريات الجبرتي الكبير في صناعة الطواحين، وآلات جر الأثقال ورفع المياه وغيرها “.

الجبرتي آخر المستقلين، والطهطاوي أول التابعين، ولهذا سوف يظل الجبرتي مقروءً إلى آخر الزمان، سوف يظل وحده منفرداً لا يختلط بمن سبقوه، ولا يتوه فيمن لحقوه.

الجبرتي يفصل بين العدل والدين، فالظلم مع الدين خراب، والعدل رغم غياب الدين عمران، فالله ينصر الدولة التي يأخذ فيه الضعيف حقه بغض النظر، هي دولة كافرة أم دولة مسلمة، وهذه نظرية مستقرة في الفقه السياسي عند المسلمين، أوجزها ابن تيمية1263 – 1328م، في عبارته الشهيرة (الله يقيم الدولة العادلة ولو كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو مسلمة)

، وعلى هذا المنوال يقول الجبرتي في ص 13 من الجزء الأول من تاريخه

: ” العدل والإنصاف هما رأس الدولة، وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية”، ويرى أن واجب الملوك وولاة الأمور هو، أن ” يراعوا العدل والإنصاف بين الناس والرعايا، توصلاً إلى نظام المملكة، وتوسلاً إلى قوام السلطنة، وهو سلامة الناس في أموالهم وأبدانهم وعمارة بلدانهم، ومنع تسلط القوي على الضعيف والشريف على الدنيء”، ثم يقول: ” العدل والإنصاف: هما أساس كل مملكة، وهما بنيان كل سعادة ومكرمة، فإن الله تعالى أمر بالعدل، وأضاف إليه الإحسان، لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها، وبالجور والظلم خرابها وزوالها”، ثم يقول: “الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم”.

نظرية الجبرتي في العدل تراها مطبقة في ترجمته لكل من عثمان بك ذو الفقار ثم علي بك الكبير.

في ص 234 من الجزء الأول من تاريخه، يتحدث عن عدل عثمان بك ذو الفقار، الذي وصفه المستشرق الفرنسي دي لابورت بأنه” كان عادلاً، فأشاد الجميع بُحسن إدارته”، فهو يذكر أن المصريين أحبوه، وتعاطفوا معه، حين تم نفيه، وإخراجه خارج مصر 1156 هجرية – 1743م، ويقول، إن الناس اعتبروا هذا التاريخ تقويماً شعبياً، فيقولون: فلان ولد قبل خروج عثمان، فلان تزوج عام خروج عثمان بك، فلان مات بعد خروج عثمان بك، وهكذا، تمكن حبه من قلوب المصريين بعد أن حكمهم من 1729 حتى 1743م، يقول الجبرتي: ” انتهت إليه الرياسة، وشمخ على أمراء مصر، ونفذ أحكامه عليهم قهراً عنهم، وعمل في بيته دواوين لحكومات العامة ( يقصد محاكم للفصل في المنازعات بين الناس)، وإنصاف المظلوم من الظالم، وجعل لحكومات النساء ديواناً خاصاً ( يقصد محاكم خاصة بالنساء)، ولا يُجري أحكامه إلا على مقتضى الشريعة، ولا يقبل الرشوة، ويعاقب عليها، ويباشر أمور الحسبة بنفسه، وأتاح الخبز والفحم والشمع مجاناً شفقةً على الفقراء، ومنع المحتسب من أخذ الرشوات، ولم يؤثر عنه، أنه صادر أحداً في أمواله ، أو أنه أخذ مصلحة على ميراث، ولم تطمح نفسه لمال كثيرين من الأغنياء، وأرباب الأموال العظيمة الذين ماتوا وتركوها، رفض أن تكون له رواتب ( مخصصات مالية ) وقال : هذه دموع الفقراء  “، ثم يقول عنه الجبرتي: “كان عالي الهمة، حسن السياسة، ذكي الفطنة، أقام الحق العدل في الرعية، وهابته العرب ( يقصد البدو والأعراب والعربان )، وأمنت الطرق والسبل البرية والبحرية، وله حسن تدبير في الأمور، طاهر الذيل ( ليس له في الفساد )، شديد الغيرة، لم يأت بعده مثله، لولا ما كان فيه من حدة الطبع، فإذا قال كلاماً أو عاند في شيء لم يرجع عنه”، ثم عن ثقافته يقول: “أنه كان لا يجالس إلا أرباب الفضائل، وأنه درس بعض الكتب في الفقه الحنفي، والأدب على يد والده الشيخ حسن الجبرتي الكبير “.

ثم عن عدل علي بك الكبير، يقول في ص 500 “وتتبع المفسدين، والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى، ويتحيلون ( يتحايلون ) على إبطال الحقوق، بأخذ الرشوات والجعالات، وعاقبهم بالضرب الشديد، والإهانة، والقتل، والنفي إلى البلاد البعيدة”، ثم يذكر أنه طبق القانون على الجميع “ولم يراع أحداً، سواء كان متعمماً، أو فقيهاً، أو قاضياً، أو كاتباً، أو غير ذلك، سواء بمصر ( القاهرة ) أو غيرها من البنادر والقرى”، “وعاقب الكبار بجناية الصغار، فأمنت السبل، وانكفت أولاد الحرام، وانكمشوا عن قبائحهم وايذائهم، بحيث أن الشخص كان يسافر بمفرده ليلاً، راكباً أو ماشياً، ومعه حمل الدراهم والدنانير إلى أي جهة، ويبيت في الغيط أو البرية، آمناً مطمئناً، لايرى مكروهاً أبداً “.

ثم يتحدث عن هيبته، وكارزمته فيقول: “وكان عظيم الهيبة، مات أناس خوفاً من هيبته، وكثيراً ما كانت تأخذ الناس الرعدة بمجرد المثول بين يديه، فيقول له: هون عليك، ويلاطفه حتى ترجع له نفسه، ثم يخاطبه فيما طلبه بصدده”.

كان هذا عن عدل في زمن المماليك الأواخر،

أما المماليك الأوائل، ففي مقال الأربعاء المُقبل بمشيئة الله تعالى.