نشر المعهد الإيطالي لدراسات السياسات الدولية تقريرا حول “إعادة ضبط تركيا سياستها الخارجية في الشرق الأوسط”.

يهدف التقرير، الذي صدر بدعم من وزارة الخارجية الإيطالية، إلى تحليل سياسة أنقرة تجاه جيرانها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بما في ذلك من فرص تعزيز التعاون، إضافة إلى تداعيات السياسة التصالحية لتركيا على دول المنطقة والاستقرار الإقليمي.

وكذلك دور العوامل الجيو سياسية والاقتصادية كمحرك رئيسي لإعادة العلاقات التركية مع المنافسين الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

تتمثل محركات التغيير في سياسة تركيا خارجيا، في ثلاثة عوامل هي:

أولا: الاضطراب الناجم عن وباء Covid- 19 بما ذلك الآثار الاقتصادية وثانيا: التحولات الجيو سياسية العميقة الناجمة عن إعادة تحديد دور الولايات المتحدة في المنطقة.

وثالثا: الشعور الواسع النطاق بالخسارة من استمرار الصراع، بجانب إعادة تعريف التوازنات البينية الإقليمية.

اتجهت تركيا لتغيير في سياستها الخارجية، ضمن مظاهر كسر عزلتها، حيث لم تعد قادرة على تحمل تكلفة المنافسة الجيو سياسية الشرسة، في منطقة يبدو فيها الانفراج الآن هو الشعار الجديد، وهو ما تظهره اتفاقيات التطبيع “أبراهام” خلال 2020 بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وكذلك اتفاقية العلا لعام 2021 التي أنهت أزمة دول مجلس التعاون الخليجي. والحاجة إلى جذب الاستثمار الأجنبي وضخ نقدي لتخفيف تدهور الاقتصاد التركي.

أجندة سياسية جديدة

كان تخفيف التوتر على رأس أجندة السياسة الخارجية لأنقرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى ترميم العلاقات مع دول المنطقة، من إسرائيل إلى دول الخليج الغنية، وفي سبيل ذلك، بُذلت أنقرة جهودا لإعادة فتح قنوات الحوار مع القاهرة، ودمشق، وإن كانت النتائج متباينة.

بدأت تتسارع الخطي بعد الزلزال الكارثي الذي دمر محافظات تركيا الجنوبية والمناطق الشمالية من سوريا في أوائل فبراير 2023، ومنذ إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مايو 2023، حيث اكتسب نشاط السياسة الخارجية التركية زخمًا جديدًا.

اتخذت عمليات التقارب مع دول الشرق الأوسط مسارات مختلفة، ففي بعض الحالات كانت مبادرات إصلاح العلاقات وإيجاد أرضية مشتركة للتعاون سهلة نسبياً، بينما كانت دول أخرى مترددة تجاه مبادرات أنقرة، على خلفية العلاقات المتوترة وانعدام الثقة العميق الجذور، خاصة مع دمشق، لذا يظل التقارب مع سوريا هو الملف الأكثر تعقيدًا

حقبة من التعاون التركي– السعودي والإماراتي

عن التعاون التركي الخليجي، كتب الباحث علي بكير، وهو مختص في السياسة بمركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر.

يحلل بكير تطور عمليات التقارب بين اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وجهود أنقرة لكسر عزلتها الإقليمية وتطبيع العلاقات مع الإمارات والسعودية.

تدفع الحوافز الاقتصادية جهود التقارب، خاصة بالنسبة للصناعات الدفاعية والتكنولوجيا والسياحة، بجانب أبعاد جيو ستراتيجية.

وعلى عكس التقارب السريع بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، كانت المصالحة بين أنقرة والرياض تدريجية وبطيئة. على الرغم من ذلك، فقد تم اتخاذ خطوات لإنهاء عقد من التوترات بين البلدان الثلاثة، ونشوء حقبة جديدة من التعاون والمصالح المشتركة.

العلاقات التركية الإسرائيلية

تضافرت عدة عقبات في العلاقة المضطربة بين تركيا وإسرائيل، فبعد التوصل إلى “سلام بارد” في عام 2016، انهارت بعد عامين المحاولة الهشة للانفراجة تحت وطأة المصالح المتباينة.

رغم التردد الإسرائيلي الأولي، في أعقاب التغيرات الإقليمية والدولية لعام 2020، بدأ مسعى جديد، أثبتت تركيا خلاله رغبتها في إعادة بناء الثقة مع إسرائيل، مع الأخذ في الاعتبار إمكانات التعاون الاقتصادي بما في ذلك مجال الطاقة.

في نهاية عام 2022، عين البلدان سفراء، ولكن ما زالت عملية استعادة العلاقات تحتاج مزيدا من التعزيز بعد انقطاع، ونظرًا للعلاقات الاقتصادية المتنامية بين الطرفين، من غير المحتمل تكرار التوترات في هذه المرحلة كما في عام 2016.

العلاقات المصرية التركية

كان البلدان على طرفي نقيض في العديد من القضايا، من دعم الإخوان المسلمين إلى الأزمة الليبية وشرق البحر المتوسط والتأثير على القرن الأفريقي.

واكتسبت العلاقات المصرية التركية في السنوات الأخيرة بُعدًا سياسيًا إقليميًا مهمًا. وبالتالي، فإن التقدم في التطبيع يعتمد بشكل كبير على إمكانية حل البلدين لخلافاتهما في القضايا الإقليمية أو على الأقل الوصول إلى نقطة مناقشتها.

على سبيل المثال، كان تشاووش أوغلو وزير الخارجية التركي السابق قد أشار إلى ،،إن تركيا يمكن أن تبذل مساع في نزاع مصر مع أثيوبيا بخصوص سد النهضة قائلا “لدينا لدينا خبرة في المشاكل المائية مع دول الجوار، مثل إيران والعراق وسوريا.. قلنا إنه يمكننا تقديم الدعم اللازم إذا احتاجوا إلى المساعدة، لا سيما في الوساطة”.

على جانب آخر، أثارت مصر مسألة مخاوفها بشأن مستقبل الوجود العسكري التركي في ليبيا، لكن استطاعت الدولتان، تجزئة الخلافات السياسية من أجل المصالح الاقتصادية، مما يسمح لاتفاقية التجارة أن تستمر.

كذلك ستساهم العلاقات في مجالات الاقتصاد والطاقة والنقل، إلى استعادة وتقوية العلاقات الدبلوماسية، لكن تظل ليبيا النقطة الشائكة الرئيسية، وكانت ضمن الأسباب الرئيسية التي حالت دون التطبيع السريع بين البلدين.

في نهاية عام 2022، ألقت تركيا باللوم على مصر في وقف مسار استعادة العلاقات بينهما، هذا في وقت أبرمت فيه تركيا صفقات للطاقة مع ليبيا، بينما ألقت مصر باللوم على تركيا بسبب استمرار وجودها العسكري في ليبيا.

مؤخراً، اتفقت كل من أنقرة والقاهرة على أن استقرار ليبيا هدف مشترك.

ليبيا والنزاع البحري

أدى النزاع الحدودي البحري بين تركيا وجيرانها في شرق البحر الأبيض المتوسط، والحاجة إلى الخروج من العزلة الإقليمية وكذلك المصالح الاقتصادية والطاقة، إلى دعم أنقرة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها في ليبيا من قبل الأمم المتحدة.

وفي السياق، وقعت أنقرة مع هذه الحكومة مذكرتي تفاهم– الأولى بشأن ترسيم الحدود البحرية، والثانية بهدف التعاون الأمني والعسكري، والاتفاقية الأخيرة فتحت الطريق أمام التدخل التركي، مما غير مسار الحرب الأهلية الليبية.

بحلول يونيو 2020، أسس تواجد عسكري تركي دائمًا في ليبيا، وساهم ذلك في زيادة القدرة التفاوضية لأنقرة في نزاع الحدود البحرية لشرق المتوسط.

في حين أن الاستقرار في ليبيا أمر بالغ الأهمية، فمن غير الواضح كيف ستسير سياسة أنقرة تجاه ليبيا وإيجاد توازن بين المصالح المختلفة المعرضة للخطر.

تداخلات تركيا في الأزمة السورية

بسبب الحدود الطويلة، بالإضافة إلى المسألة الكردية، فإن العلاقة التركية السورية ترتبط بالمسألة الأمنية، كما شكلت قضايا الأمن العلاقات الثنائية على مدى العقود الماضية.

يشكل وجود فرع من حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب في سوريا، مشكلة حقيقة لتركيا. كما كانت أنقرة راعية لحركات المعارضة ونشر قوات تركية مسلحة على الأراضي السورية في عام 2015.

لكن أنقرة اليوم، تدرك أن بقاء نظام الأسد أمر مرجح، لذا يمكن أن يكون حليفًا مفيدًا في احتواء التطلعات الكردية وإعادة اللاجئين السوريين الذين يعيشون في تركيا.

أعادت الحرب الأهلية السورية تشكيل التحالفات والخصومات، مما أضاف مزيدًا من التعقيد إلى الديناميكيات الإقليمية والأهداف التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها من خلال أجندتها السورية.

تسعي أنقرة إلى إلغاء المكاسب الكردية ودعم نوع من الحكم الذاتي للجماعات الموالية لتركيا- وهما هدفان متعارضان ويجب عليها تفكيك هذه الازدواجية، والتي تؤثر بشكل كبير على سلوكها في المنطقة.

استخلاصات:

تقدم الباحثة فالريا تالبوت وهي زميلة أبحاث أولى ورئيسة مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عدة استنتاجات حول سياسة أنقرة ، وتقول ليس من المتوقع حدوث تغييرات زلزالية في السياسة الخارجية التركية.

ستتجه تركيا إلى تنويع الشراكة، وهو النهج الذي اتبعته في السنوات الأخيرة، مع الحفاظ على نهج عملي قوي. وسيظل العامل الاقتصادي حاسمًا في حسابات السياسة الخارجية.

يدعم ذلك تعيين الرئيس السابق للمخابرات أكان فيدان وزيراً للخارجية، والذى لعب دورًا دبلوماسيا رائدًا بالتوازي مع وزارة الخارجية، خلال سنوات مضت.

على المستوى الإقليمي، تظل تركيا ملتزمة بشدة بالتقارب مع دول الشرق الأوسط، على الرغم من أن المسار، محفوف بالعقبات.

وعلى عكس سير التقارب مع سوريا، فإن الحوار مع مصر يسير بخطى سريعة، إذ هنأ الرئيس عبد الفتاح السيسي أردوغان فور إعادة انتخابه، وفي الأيام التالية، أجرى فيدان، وزير الخارجية التركي، عدة محادثات هاتفية مع نظيره المصري سامح شكري، بجانب استعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة تعين السفراء، ومع ذلك، لا تزال قضايا عالقة بحاجة إلى حل بينها الملف الليبي.

يبدو التعاون بين تركيا والإمارات والسعودية يسير على أسس صلبة، ففي أعقاب استئناف العلاقات الدبلوماسية خلال العامين الماضيين، حقق أردوغان في أول جولة إقليمية لدول الخليج، بعد إعادة انتخابه، نتائج اقتصادية مهمة، وساهمت الزيارات في وضع أساس للتعاون الاقتصادي في القطاعات الاستراتيجية- من الطاقة إلى الدفاع- على المدى الطويل.

قدم صندوق أبو ظبي للاستثمار ADQ مساهمة كبيرة من خلال التعهد بدعم إعادة الإعمار بعد الزلزال في تركيا، ذلك من خلال إصدار سندات بقيمة 8.5 مليار دولار أمريكي.

لا تقل الخطوة الإماراتية أهمية عن الاتفاقيات الموقعة مع السعودية، وتجدر الإشارة إلى الاتفاقية التي بموجبها ستبيع شركة Baykar Technology التركية لوزارة الدفاع السعودي الطائرة دون طيار Bayraktar.

وضع التعاون بين الدول الثلاث (السعودية والإمارات وتركيا) حد من التوترات على المستوى الإقليمي، ودفعت الضرورة الاقتصادية، تركيا إلى النظر مرة أخرى إلى علاقتها مع العواصم الغربية، لتكون أكثر انفتاحا.

ساهم سحب الفيتو التركي على انضمام السويد إلى الحلف الأطلسي في دعم ستوكهولم لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتحديث نظام التأشيرات، والاتحاد الجمركي.

ويشكل الاتحاد الأوربي، المصدر الرئيسي للاستثمار الأجنبي المباشر على مدار العشرين عامًا الماضية، وتدفع الاعتبارات الاقتصادية أنقرة إلى الاهتمام بالشريك التجاري الأكبر (بلغت التبادلات الثنائية 196.3 مليار دولار أمريكي في عام 2022)

سعت أنقرة لتعزيز العلاقات في مجال الطاقة والاقتصاد مع روسيا، ففي عام 2022، أصبحت موسكو أكبر شريك تجاري لأنقرة، بلغت قيمة التبادلات 68.2 مليار دولار أمريكي (الواردات التركية حوالي 59 مليار دولار أمريكي، معظمها في الهيدروكربونات). ساهم افتتاح شركة روساتوم، وهي أول محطة للطاقة النووية في تركيا (جنوب الأناضول) في تعزيز العلاقات الاقتصادية في مشاريع الطاقة.

وتماشياً مع تطلعات روسيا للعب دور قيادي في نظام متعدد الأقطاب، ستستمر علاقات تركيا وروسيا، وساهمت انقرة بدور فى الوساطة بين موسكو وكييف، هذا الدور منحها سمعة دولية واسعة خلال العام الاخير.