تلوح في أفق العالم العربي حقبة سعودية محتملة، دون أن تستكمل أسبابها ومقوماتها، فلكل دور تكاليفه واستحقاقاته.
مستوى الالتزام بالقضية الفلسطينية وحدة قياس موضوعية، وتاريخية للأحجام والأدوار في إقليم مشتعل بالأزمات.
هذه حقيقة مؤكدة ونهائية منذ نكبة (1948).
إذا ما جرى التحلل السعودي بالتطبيع من أي التزام بالقضية الفلسطينية، تتقوض بالوقت نفسه أية فرص ممكنة لاعتلاء؛ منصة القيادة في العالم العربي، أو أن تكون الرياض مركز التفاعلات فيه.
الحقبة السعودية لم تبدأ بعد، رغم صخب التبشير بها والرهان عليها، لكن هناك إشارات جدية على فرص ممكنة، لكنها ليست مؤكدة، لملء فراغ الدور القيادي الذي لعبته القاهرة  في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
كان خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي عام (1978)، باتفاقية “كامب ديفيد” انقلابا جوهريا في معادلات الإقليم، اختلفت السياسات وتناقضت التوجهات وتراجعت الأوزان، والأدوار في عالمها العربي، وقارتها الإفريقية، والعالم الثالث كله بصورة فادحة.
تقدمت دول عربية وغير عربية، لملء فراغ الدور، لكنها أخفقت بدرجات مختلفة، رغم القدرات المالية والعسكرية التي توفرت لبعضها.
حلقت لبعض الوقت أوهام، أن تدخل المنطقة ما أطلق عليها “الحقبة الإسرائيلية” إثر اتفاقيتي “وادي عربة” الأردنية و”أوسلو” التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية! والكلام عن شرق أوسط جديد.
الآن، تتطلع السعودية للعب أدوار القيادة، وتنتدب نفسها للتدخل في أزمات عديدة لإثبات؛ قدرتها على الحضور والتأثير.
لديها- أولا: – قدرات مالية ضخمة تمكنها من التحرك والإسناد في محيط عربي وإقليمي مأزوم اقتصاديا، وعالم يتغير وتعوزه مصادر الطاقة التي تحوذها.
ولديها- ثانيا: – مشروع للتحديث والتجديد، فيما يشبه نصف ثورة على إرث المملكة بالغ المحافظة والجمود.
أنصاف الثورات لا تؤسس لإلهام قيادة.
كما أن غياب مشروع أوسع للتغيير في الإقليم يسحب بفداحة من أي رصيد.
القيادة دور ملهم قبل أي شيء آخر.
القدرات المالية تستطيع أن تشتري، لكنها لا تقدر على استقطاب المشاعر والولاءات.
هذه معضلة حقيقية، تعترض أي دور سعودي، قد يلوح في معادلات المستقبل.
الأهم أن هناك تطورا لافتا في مستوى إدارة النظام السعودي، لملفاته الحيوية استنادا إلى نخبة جديدة، تلقت تعليما متقدما في الجامعات الغربية، لكن قيود الماضي ما زالت حاضرة.
صيغة الحكم القبلية والعائلية تحتاج إلى نظرة جديدة، لا تتوافر حتى الآن مقدماتها، لكن التطور الاجتماعي والسياسي، سوف يفرض كامل حقائقه في مدى زمني منظور أو متوسط، بالنظر إلى أن هناك طبقة وسطى نشأت، ونمت في سنوات الطفرة النفطية، تعلمت وأطلعت على العصر، وتطلب تحديث النظام، وسوف يعلو صوتها يوما بعد آخر.
المزالق تكاد تطارد الفرص، والثغرات تعترض الاختراقات.
كان لافتا في الأداء السياسي العام، ما أقدمت عليه من استثمار سياسي على قدر من الكفاءة في اهتزاز القوة الأمريكية بملفين مهمين.
الأول: النفط حيث لم تتبع كما هو معتاد، ومتوقع ما تطلبه الإدارة الأمريكية، لا فضت شراكتها مع روسيا في صيغة “أوبك بلس”، ولا استجابت لزيادة الإنتاج.
أدركت أنها بموقع قوة نسبي في ظل أزمة وقود بأثر الحرب الأوكرانية، تخولها التصرف بشيء من حرية الحركة وفق مصالحها.
والثاني: المصالحة مع إيران؛ حيث أقدمت على هذه الخطوة الراديكالية تحت العباءة الصينية، وفكت الارتباط بين تلك المصالحة ومباحثات فيينا المعطلة تحت الضغوطات الإسرائيلية، حتى لا يجدد الاتفاق النووي الإيراني.
كان ذلك نصف ثورة أخرى على إرث ما هو معتاد من سياسات تلتزم بالمصالح الأمريكية مقابل الحماية، وتأمين آبار النفط.
مرة أخرى.. فإن أنصاف الثورات لا تؤسس، لتغيير حقيقي في بنية العلاقات، لكنها قد تؤشر إلى أنه ممكن.
ثم حاولت النخبة السعودية الجديدة المتعلمة، والمطلة على المستجدات في عالم يتغير، أن تطرح بلدها لاعبا رئيسيا في ملفين ملغمين.
الأول: الحرب في السودان.. تبنت مع الولايات المتحدة، ما أطلق عليه “مسار جدة”، لوقف إطلاق النار بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تجاوزت مصر كدولة جوار للسودان وأمنه من ضمن شواغلها الضاغطة، كأنها قد حذفت من فوق الخرائط!
كان ذلك اندفاعا، دون تحسب إلى إخفاق ظاهر سحب من خيلاء الدور القيادي المفترض.
الثاني: في جدة مرة أخرى.. حاولت أن يكون لها حضورا في الأزمة الأوكرانية من نافذة البحث عن سلام، اتسعت دائرة الدعوة؛ لتشمل دولا عديدة في العالم، باستثناء روسيا الطرف الآخر في الحرب الأوكرانية، التي لم تؤيد الدعوة ولا عارضتها بإدراك أن مصيرها الفشل الذريع، وهو ما حدث فعلا.
لم يكن هناك مبرر للتعجل، سوى محاولة الحصول على اعتراف دولي، بأن السعودية باتت لاعبا دوليا يسهم بمبادراته في السلم العالمي، دون أن يتوافر لها مقومات يعتد بها في إدارة مثل هذه الأزمات الدولية بالغة التعقيد.
تبدو السعودية الآن، كما لو كانت في سباق مع الوقت.
تحديات الدور لم تتأخر طويلا في طرق أبوابها باختبار حاسم عنوانه: تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
السؤال الجوهري هنا:
هل يمكن للسعودية أن تتحمل تكاليف، وأعباء قيادة العالم العربي.. أم أن ذلك فوق طاقتها؟
في الأيام الأخيرة، تعددت الإشارات الأمريكية عن قرب تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
تبارت كبريات الصحف، وشبكات التلفزة ومراكز الأبحاث في كشف تفاصيل الصفقة المحتملة.
مستشار الأمن القومي “جيك سوليفان”، زار جدة وتباحث في الملف مع ولي العهد “محمد بن سلمان”، مسئولون أمريكيون آخرون، طرحوا الملف نفسه في زيارات أخرى تمهيدا؛ لمبادرة يعتزم الرئيس “جو بايدن” إطلاقها.
يستهدف “بايدن” بالمقام الأول ضخ دماء جديدة في حملته الباهتة؛ لتجديد ولايته بالانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى يبدو كـ”رجل سلام”، ومنقذ في وقت حرج للحليفة إسرائيل التي تعاني من أزمات تهدد وجودها، كما لم يحدث من قبل منذ تأسيسها.
هناك انكشاف خطير في استراتيجية الردع التي تتبناها، وتصدع أخطر في نظرية أمنها القومي، وانشقاقات غير مسبوقة في بنية مجتمعها على خلفية الإصلاحات القضائية التي أنذرت بالتدمير الذاتي، كما يقول الإسرائيليون أنفسهم.
حسب كاتب العمود “توماس فريدمان” في الـ”نيويورك تايمز” فإن “بايدن هو الوحيد الذي يستطيع إنقاذ إسرائيل من الانهيار الآن”.
هكذا بالحرف!
لا يستبعد “فريدمان” أن تنشب حرب إسرائيلية إيرانية فوق الأراضي السورية.
هذا سيناريو غير مستبعد، لكنه غير مرجح أيضا.
بالنسبة للقيادة الجديدة المفترضة للعالم العربي، فهو كابوس حقيقي، إذا ما طبعت علاقاتها مع إسرائيل فإن أدوارها سوف توضع في مهب التساؤلات والاتهامات.
اللافت في كتابات “فريدمان” الأخيرة إشاراته المتكررة، أن الإدارة الأمريكية بدأت إعادة تقييم لعلاقاتها مع إسرائيل.
تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل سوف يوقف إعادة المراجعة الأمريكية، دون أن تتنازل الدولة العبرية عن أي شيء جوهري، أو غير جوهري، للفلسطينيين.
وفق الكاتب نفسه، إثر لقاء جمعه مؤخرا مع “بايدن”، فإن المبادرة الأمريكية تعمل على تطبيع العلاقات الآن، وفورا مقابل تلبية طلبات سعودية مثل، عقد معاهدة دفاع مشترك تتمتع فيها بالوضع القانوني، الذي تحوزه دول حلف “الناتو”، أو أن يكون العدوان عليها هو عدوان على الولايات المتحدة.
إنه خط سياسي واستراتيجي يتبنى التصعيد والتأزيم الأمني، يطلب الأمن تحت المظلة الأمريكية، لا التهدئة مع دول الجوار والعمل على توفير الأمن المشترك برؤى من داخل الإقليم لا من خارجه.
ثم هو ينافي جوهر المصالحة السعودية الإيرانية، ويعطل أية فرص لحلحلة الأزمات المستعصية في اليمن ولبنان والعراق.
بالتوقيت نفسه، وهذه مسألة لافتة للغاية، دفعت الولايات المتحدة بتعزيزات إضافية لقواتها في الشرق الأوسط قرابة ثلاثة آلاف بحار وجندي، باسم أمن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج وخليج عمان والبحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندي ومضيقي هارمز وباب المندب.
إنه تمركز عسكري ضد طهران، يتداخل من ناحية استراتيجية مع تمركزات أخرى بالقرب من بحر الصين الجنوبي ضد بكين، وبالقرب من البحر الأسود ضد موسكو.
إنها عسكرة أمريكية، تفضي نتائجها إلى خسارة السعودية أية قدرة على بناء موقف مستقل، ومتوازن في العلاقات الدولية، ويسحب منها أي تطلع لقيادة المنطقة.
هناك طلب سعودي آخر، أن تمدها الولايات المتحدة، وتحت إشرافها الكامل ببرنامج نووي سلمي، وهو لا يقارن من قريب أو بعيد بالمشروع النووي الإيراني الذي راكم خبرات علمية دقيقة، تمكن طهران من صنع قنبلة نووية إذا ما أرادت ذلك.
الطلب الثالث: أن تحصل على نظام دفاعي متقدم مضاد للصواريخ، وأسلحة متطورة أخرى.
هذا طلب مشروع، يكاد يضاهي الطلبات التركية المعطلة من الإدارة الأمريكية على عهدي “ترامب” و”بايدن”، لكن ثمنه في الحالة السعودية تجريدها من كل تطلع لقيادة العالم العربي.
التطبيع ينسف تماما، ونهائيا مبادرة السلام العربي التي تنتسب إليها، وتقضي بالتطبيع الكامل مقابل الانسحاب الشامل!
لا حل الدولتين مطروح، ولا هو ممكن في ظل التوحش الاستيطاني.
إيقاف بناء المستوطنات الذي قد يستخدم كذريعة للدخول في التطبيع، لن يحدث هو الآخر.
في كل السيناريوهات المحتملة، يستحيل تماما تجاوز القضية الفلسطينية.
التطبيع مع إسرائيل حكم بالإعدام الاستراتيجي على أي تطلع سعودي، أو غير سعودي، لقيادة المنطقة.