إن العلاقة بين التنمية المستدامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية علاقة مكملة لبعضها البعض، فالتنمية لن تتحقق، إذا كانت الدساتير لا تعبر عن مساواة الأفراد بالحقوق والخدمات الأساسية، وبنفس الوقت إن تمتع الفرد بحقوقه الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية. يقوي ويدعم ركائز التقدم والتنمية، وعلى هذا الأساس تبنت الأمم المتحدة منذ العام 1966، عهدا دوليا بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي بدأ العمل به عام 1976، حيث أكد على تمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه كاملة غير منقوصة، ويٌقصد بذلك حقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وعلى الرغم من كون الصياغة التي أتت عليها نصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليست مرضية لطموح المواطنين، وبشكل أكثر خصوصية في مجموعة الحقوق التي يجب أن تمثل التزاماً على عاتق الدولة، حيث جاءت معظم هذه النصوص بصياغات غير ملزمة للحكومات، وجاءت بألفاظ مثل، “تعمل الحكومات – تسعى الدول الأطراف – تكفل الدول”، وهذه الصياغات لا تحقق الضمانات الكافية نحو تحقيق عدالة اقتصادية، وتوازنات مجتمعية في معظم الحقوق التي تهم قطاعات كبيرة من المواطنين، كالحق في السكن والصحة والغذاء. وهو الأمر الذي يجعل الحكومات في حِل حقيقي من الوفاء بهذه الالتزامات، دونما معقب دولي حقيقي، أو مراجعة لهذه التصرفات.
بعد قيام ثورة يناير لسنة 2011، حدثت تغيرات مجتمعية بين قطاعات الشعب المصري، وظن المصريون أن آمالهم، وأحلامهم قيد التحقق بعد نجاح حلمهم في قيام الثورة التغييرية التي أجبرت النظام السياسي على ترك سُدة الحكم، وقد مرت مصر بمجموعة من التغيرات الدستورية العديدة، بدأت بالإعلان الدستوري الذي صدر بتاريخ 19 مارس لسنة 2011، وكانت نهايتها بالدستور المصري لسنة 2014، وقد جاء ذلك الدستور الأخير، والذي صدر في أعقاب تغيرات أيضاً، ألغت معها إعلانات دستورية ودستور كان قد صدر إبان حكم الرئيس/ محمد مرسي. وقد جاء ذلك الدستور الأخير بمجموعة من النصوص التي يمكن الاعتماد عليها في تفسير كيفية التصرف في الموارد العامة، على نحو يحقق العدالة الاجتماعية للشعب المصري، أو أن هذه النصوص قد صيغت بطريقة لا تعبر عن أحلام هذا الشعب في التمتع بثرواته، ومن قراءة نصوص الدستور المصري لسنة 2014، نجد أنه قد جاء بصياغة عامة مجملة، لا توحي بأي التزام على عاتق الدولة بخصوص؛ تمتع أفراد الشعب بالثروات الطبيعية للبلاد، وهذا ما يؤكده نص المادة 32/1، حيث أوردت أن هذه الموارد ملك للشعب، وكل ما تلتزم به الحكومة هو حسن الاستغلال، وعدم الاستنزاف. وهو الأمر الذي يضعنا أمام القوانين الداخلية التي هي أقل مرتبة من الدستور، وهذا بالفعل ما يضعنا في مأزق بخصوص حقوق الأفراد في الثروات الطبيعية، ولا يغني في ذلك ما أوردته النصوص السابقة من المساواة، أو كون الشعب هو مصدر السلطات، أو التكافل الاجتماعي.
ومن البديهي، أنه لا يكفي النص على حقوق وحريات الإنسان في الدساتير- يستوي في ذلك الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية، أو غيرها من الحقوق والحريات- بل لا بد من وضع ضمانات للحيلولة دون انتهاكها. فالعبرة فيما يتعلق بمدى احترام حقوق الإنسان، لا تكمن في النظر إلى من الذي يحكم في مجتمع ما، قدر ما تكمن في كيف يحكم هذا الذي يحكم، بما يعنيه ذلك من صعوبة احترام حقوق الإنسان إلا في ظل الأنظمة الديموقراطية الحقة، وليس الأنظمة الديمقراطية الشكلية أو الظاهرية. وعادة ما تتمثل هذه الضمانات في مجموعة من النصوص والأحكام القانونية الدستورية، والآليات العملية التي تكفل احترام وتطبيق حقوق وحريات الإنسان. والحقيقة كم هي عديدة الضمانات التي تكفلها المواثيق والإعلانات والعهود الدولية، وكذا الدساتير الوطنية بغية حماية حقوق الإنسان، ومن بينها بطبيعة الحال الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية، والتي من بينها الحق في التمتع بالثروات الطبيعية للبلاد، ولعل ما يلفت النظر بصدد هذه الضمانات، أنها ليست فقط متداخلة مع بعضها البعض، بل قد يتداخل بعضها مع مفهوم الحقوق والحريات ذاته من ناحية، ومع بعض الآليات المستخدمة لتوفير الحماية اللازمة لهذه الحقوق والحريات من ناحية أخرى، وإجمالاً، فإن دسترة حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية يجب ألا يكون مجرد نص دستوري، تضعه الدولة، بل يجب أن يكون واجباً دستورياً على الدولة ضمانة تحقيقه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاح” الحق في العدالة الاجتماعية” كتعبير عن مدى التزام السلطة لحقوق الفرد في منظومة العدالة الاجتماعية، وهو ما يعني أن دسترة تلك الحقوق يجب أن يكون بصياغة معيارية تضمن عدم تنكر الحكومات للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ويجب أن تتوقف الحكومات عن سيطرة أجهزتها التنفيذية على مقدرات ثروات البلاد الطبيعية، دونما رقيب، ولا بد أن تأتي الدساتير في صياغاتها على نصوص قاطعة الدلالة، بتشكيل لجان خاصة، أو هيئات ذات استقلالية عن السلطة التنفيذية، تكون مسئوليتها الأساسية أو وظيفتها، هي حسن استغلال وإدارة الثروات الطبيعية، وكيفية توزيع العوائد الناتجة عن ذلك بشكل عادل، يجعل في الأوطان تنمية حقيقية، ويكون هناك مردود على الأفراد، بما يحسن مستوى معيشة المواطنين، ويبعد هذه الثروات عن سوء الإدارة والاستغلال الحكومي، ومن الممكن أن تكون تبعية هذه اللجان أو الهيئات للسلطة التشريعية مباشرة، وأعتقد أن ذلك يحقق الرقابة الشعبية المأمولة على هذه التصرفات.
وإذ إن الثروات الطبيعية بما تتضمنه من معادن أو مناجم أو ثروات بحرية أو نيلية، لا يمكن اعتبارها ملكاً لجيل محدد، وهو الجيل الحالي، ولكنها ملكاً لكل طوائف الشعب بما يضمن حقوق الأجيال المقبلة فيها، وأنهم حين يُقدمون إلى الحياة على ظهر الأرض في هذا الوطن، لا يجب أن تكون تلك الثروات قد استُهلكت، أو نفدت، بل يتعين على الحكومة أن تضمن بقاءها، وحسن استغلالها وإدارتها، حيث تمثل الثروات الطبيعية في كل بلاد الدنيا، المخزون الاستراتيجي الدائم والمستقبلي لكافة الأجيال، سواء كانت الحاضرة أو المقبلة، ولا تعد سيادة السلطة على الدولة كاملة إلا بممارستها هذه السيادة على ثروات البلاد، دونما تدخل من بلدان أخرى، قد جاء في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1803، ما يؤكد ذلك بقوله نصاً: (حق الشعوب والأمم في السيادة الدائمة على مواردها الطبيعية التي يجب أن تمارس في صالح التنمية القومية ولرفاهية شعب الدولة المعنية).
لكن لن تغني النصوص حتى، ولو كانت نصوصاً دستورية، إذا لم يصاحبها إرادة فاعلة وإدارة حاكمة، وحكيمة تُحسن إدارتها وتصرفها في الثروة الطبيعية بحسبها هي المال العام الذي وجبت حمايته.