“كلما اتسعت الهوة بين العالم المتقدم اقتصاديا وتكنولوجيا ومعرفيا، وبين العالم الأقل نموا، كلما أصبحت الحاجة إلى الوجود الفيزيقي لغالبية شعوب، وسكان تلك المناطق من العالم أقل فأقل….. ”

مرت العلاقة بين العالم المتقدم اقتصاديا وتكنولوجيا ومعلوماتيا من ناحية، والعالم الأضعف نموا من ناحية أخرى بالعديد من المراحل والمحطات التي أسهمت في وجود هذين العالمين، ثم عمقت الهوة بينهما إلى أن وصلنا للحالة الراهنة، حيث يمكننا رصد أهم تلك المحطات وأكثرها اتساعا، مع الأخذ في الاعتبار أن كل محطة منها تتضمن الكثير من التفاصيل والمسافات البينية.

بطبيعة الحال، فإنه يوجد لكل من تلك المحطات الهامة سماتها الاقتصادية والسياسية الخاصة بها، فمن الاستعباد والرق، إلى النهب الاستعماري المباشر لموارد وثروات الشعوب، إلى أن أصبح سكان المناطق ضعيفة النمو بالكاد مستخدمين، لما ينتجه ذلك العالم المتقدم من سلع وخدمات، وصولا إلى المحطة الأخيرة التي أصبح فيها غالبية شعوب تلك الدول شديدة التخلف مجرد عبء، وعالة على العالم المتقدم، مطلوب منه فقط إطعامهم مقابل الحصول على بعض الخدمات التي لا تساوي حتى كلفة ذلك الطعام، وأصبح التفكير الجاد في الاستغناء التدريجي (حرصا على التوازن البيئي فقط) عن القسم الأكبر من تلك الشعوب، ضرورة لاستمرار العالم الأكثر تقدما في حياة الرفاهية !!!

اقرأ أيضا: فخ الاعتماد على الأدوات المالية والنقدية فقط لمعالجة المشكلات الاقتصادية (1/3)

إن أعمال النهب المنظم لخيرات بلدان كاملة في إفريقيا وآسيا والمنطقة العربية، سواء من الدول الاستعمارية الأكثر تقدما، أو من أعوان، وشركاء لهم من أبناء نفس الدول المنهوبة، إضافة إلى إغراق شعوب تلك الدول في الصراعات القبلية، والعرقية والدينية، وانشغال زعمائهم وقادتهم بمحاولة اقتسام المغانم مع المستعمر، كل ذلك أدى إلى ضعف وهشاشة مجتمعات بكاملها وتصدع وانهيار بناها المؤسساتية….. ما أدي إلى الإفقار الشديد لتلك الدول واتساع الهوة بين شعوبها وشعوب العالم الذي تطور وأخذبناصية العلوم والتقدم التكنولوجي والمعرفي، لدرجة أننا بتنا مهددين بالانقسام إلى عالمين منفصلين ومتباعدين بالكامل، الأمر الذي توجد العديد من المؤشرات على حدوثه بالفعل…

لم يعد المستثمرون الكبار في العالم معنيين بالصناعات التقليدية بالدرجة الأولى مثل الثلاجة والغسالة والبوتاجاز والسيارات وغيرها، فالعالم اليوم يضخ الاستثمارات الضخمة ليطور الصناعات والتقنيات الحديثة مثل صناعة البرمجيات وكل ما هو متعلق باقتصاد المعرفة لينتج سلعا وخدمات تعتمد على استخدام تلك التقنيات الحديثة والمتجددة دوما.

إن أكثر من نصف سكان الكرة الارضية لا يعلم شيئا عن تلك التقنيات ولم يسمع بها، ونسبة كبيرة من النصف الآخر يسمع عنها ولكنه لا يجيد استعمالها وإن حدث وتعامل معها فيتم ذلك بصورة جزئية، وهو ما يعني ببساطة أنه توجد أغلبية كبيرة من سكان الكوكب لا تعرف كيف تستخدم أصلا ما ينتجه العالم الرأسمالي الحديث، ناهيك عن عدم قدرتها على امتلاكه !!!

إن ظواهر حديثة مثل إقحام شعوب وسكان تلك البلاد في الحروب والصراعات الداخلية، القبلي منها والعرقي والديني مع الإفقار المستمر والوقوع الكامل في براثن الجهل والمرض، كل ذلك ما هو إلا مقدمات للتخلص من هؤلاء البشر والإبقاء على النسبة المسموح بها والقابلة للاستغلال والاستفادة من وجودهم …..

عن الفقر متعدد الأبعاد:

“لم يعد الفقر يقاس فقط بمستوى الدخل والإنفاق والاستهلاك، فالمفهوم الجديد للفقر، قائم علي عدة أبعاد لا تتوقف فقط عند نقص الممتلكات المادية، ولكنها تأخذ في الحسبان عددا من القدرات الأساسية الواجب توافرها للقضاء على الفقر مثل: التعليم، والصحة، والعمل، والسلامة الجسدية، والحرية، والتمكين، والتواصل الاجتماعي، والسلامة النفسية”.

ويضم مؤشر الأمم المتحدة العالمي للفقر متعدد الأبعاد لعام 2019 بيانات عن 101دولة، يقطن بها 76% من سكان العالم. وتشير تلك البيانات إلى أن حوالي ثلث سكان العالم يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، ١،٣ مليار شخص بينهم ٦٣٠مليون طفل، دون سن ال ١٨ عاما. وتتفاوت مستويات الفقر متعدد الأبعاد بين إحدى تلك الدول النامية والأخرى؛ حيث يعيش 1.1% من الفقراء في دول أوروبا وآسيا الوسطى، بينما يتركز 57.5% في جنوب صحراء إفريقيا، وتليها دول جنوب آسيا والدول العربية بـ 31% و15.7% على الترتيب،كما أنه يوجد عدم مساواة في الفقر داخل تلك المناطق ذاتها، فبينما تبلغ نسبة الفقر في دولة جنوب إفريقيا 6.3 %، تصل النسبة إلى 91.9 % في جنوب السودان، وفي جزر المالديف الواقعة في منطقة جنوب آسيا 0.8% مقارنة بنسبة 55.9% في أفغانستان، وهناك فوارق شاسعة داخل الدول فمثلا، أوغندا يترواح مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد من 6% في عاصمتها كمبالا إلى 96.3% في كاراموجا بشمال شرق أوغندا.

إن ذلك المنظور الجديد للفقر بمؤشراته متعددة الأبعاد هو ما يفسر وجود الكثير من البلدان الواقعة في إفريقيا، وآسيا وأجزاء ليست قليلة بالمنطقة العربية، والذين على الرغم من امتلاكهم في باطن أراضيهم وعلى سطح تلك الأراضي، الكثير من الخيرات، إلا أن غالبية سكان تلك المناطق يعانون من الفقر، وأنهم أصبحوا بمعنى ما خارج التاريخ، أي أنهم لم يعودوا فقراء فقط، بل أصبحوا غير ملاحقين للتطور التقني، والتكنولوجي الذي وصل إليه العالم الرأسمالي المتطور ذلك التطور الذي يعكس نفسه على نوعية وطبيعة ما ينتجه ذلك العالم من سلع وخدمات، بحيث أصبحت تلك الغالبية غير قادرة حتى على استخدام تلك المنتجات، وهو ما يعني أنهم أصبحوا غير قابلين لأن يكونوا حتى مجرد سوق ومستخدمين لتلك المنتجات، وبهذا المعني أصبحوا مجرد عالة على الاقتصادالعالمي الجديد وعديمي الجدوى والفائدة، فقط مطلوب تزويدهم بالطعام والشراب، وأصبحت مسألة الاستغناء عنهم والتخلص منهم نهائيا مسألة وقت يحكمها اعتبارات الحفاظ على التوازن البيئي، أي التخلص من عدد يتجاوز المئات من الملايين بطرق وأساليب تحتفظ بمصادر الثروة والخيرات المحفوظة في باطن الأرض وعلى سطحها سليمة وغير متأثرة بمحو أو زوال تلك المئات من الملايين !!!

وتجدر الإشارة إلى أن أعدادا كبيرة من سكان الكوكب في طريقهم للالتحاق بركب الفقر متعدد الأبعاد، ذلك أن السياسات التي يُدار بها العالم من قبل النظام العالمي الحالي مازالت ماضية قدما في اتجاه توسيع الهوة بين العالم المتقدم والعالم ضعيف النمو، فمع تسارع وتيرة التقدم التقني والتكنولوجي وتعاظم دور المعرفةوتوجيه القدر الكبير من الاستثمارات في اتجاه صناعة البرمجيات واقتصاد المعرفة، ومع اتساع الهوة بين العالمين كنتيجة للاستغلال والاستنزاف غير الرشيد، لم تعد الغالبية العظمي من سكان وشعوب معظم دول إفريقيا الذين تم نهبهم بصورة منتظمة على مدار عدة قرون، قادرين حتى على أن يكونوا مستخدمين لما ينتجه العالم المتقدم من سلع وخدمات…. أي أن القسم الأكبر من هؤلاءالسكان لم يعد لهم من فائدة تذكر وباتوا عبئا على الجميع،مطلوب إطعامهم وتقريبا إعالتهم بالكامل، حيث أنهم لا يمتلكون المواهب والخبرات التي تمكنهم من المشاركة في أي من العمليات الإنتاجية الحديثة، ولم تعد هناك حاجة كبرى لعضلاتهم ومجهودهم البدني صاحب أدني درجة من درجات الإنتاجية ؟؟!! ناهيك عن عدم قدرتهم على التفاعل والتعامل مع ما ينتجه العالملرأسمالي المتقدم.

ومع ذلك مازال هناك أمل في أن قسما كبيرا من البشرية يستطيع اللحاق تدريجيا بركب الحياة والحداثة والتحضر وذلك إذا ما استطاعت نخب وقيادات تلك الشعوب أ تقف بحزم في مواجهةسياسات الإلحاق والتبعية لمخططات وأهداف النظام النيو ليبرالي التي تنفذ في بلدانهم بالتعاون الوثيق مع نخب اقتصاديةوسياسية وعسكرية، تلعب دور الشريك الذي يوفر الحماية ويقوم بتنفيذ سياسات وأهداف النظام النيوليبرالي العالمي بالكامل مقابل الحصول على قسم من الثروة والمغانم، ويتولى عنهم في المقابل، كافة المهام التي تجنبهم مشاق وأثمان المواجهات الواسعةمع شعوب وسكان تلك البلاد.

وفي مصر :

بلغت نسبة الفقر حسب قياسه بالمعايير النقدية وباستخدام خط الفقر الوطني، ٢٧،٨ ٪؜ من السكان، وذلك في عام ٢٠١٥.

هذا ويعاني في نفس الفترة حوالي ١٠ مليون طفل من الفقر متعدد الأبعاد.وهنا تجدر الإشارة إلى الآتي:

أولا: قدم الاحصائيات، حيث توجد صعوبة شديدة في الحصول على نسب وإحصائيات حديثة، نتيجة للتكتم وعدم الشفافية في الحصول على المعلومات.

ثانيا: النسبة المذكورة (٢٧،٨ ٪؜) هي ليست فقط نسبة قديمة، بل ومحسوبة أيضا على أساس نقدي فقط وليس وفقا للمعايير والنظريات الحديثة التي تتناول مفهوم الفقر باعتباره متعدد الأبعاد وليس مجرد الفقر المادي المرتبط بمستويات الدخل.

ثالثا: إذا ما أخذنا في الحسبان التدهور الكبير في مستويات المعيشة الذي جرى  خلال السنوات العشر الأخيرة، وأضفنا إليه الأبعاد المتعددة لمفهوم الفقر، سنجد أنفسنا أمام حقائق مفزعة متعلقة بتلك النسب الرسمية المعلن عنها عام ٢٠١٥، حيث تزيد النسبة في الوقت الراهن، وفقا لبعض الدراسات عن ال٦٠ ٪؜ من إجمالي عدد السكان الحاليين، معظمهم يسكنون مناطق ريفية وخاصة في القسم الجنوبي من الوادي.

إن الفرصة لتحقيق نقلات نوعية تجعلنا نلتحق بركب التقدم ونعبر من المنطقة المظلمة اقتصاديا وتنمويا إلى المناطق الأكثر إشراقا ما زالت قائمة، فالمسافة بيننا وبين اللحاق بالعالم الأكثر حداثة وتقدما لم تصل بعد إلى نقطة اللا عودة، شرط أن نبدأ على الفور مشوار الإصلاحات الجذرية، مع إدراكنا أنه شديد الصعوبة، ومع ذلك هي فرصتنا الأخيرة للنجاة من الانحدار الشديد لهاوية التهميش المؤدي إلى الالتحاق بالمجموعات التي يتم التفكيرالجدي في التخلص منها فيزيقيا!!!

محاور أساسية لخطة الإنقاذ:

هذا وتتركز عملية الإنقاذ حول المحاور الثلاثة الكبرى التالية:

أولا: الاستثمار في البشر، بكل المعاني وعلى جميع المستويات (التعليم الجيد، والرعاية الصحية الشاملة، والتغذية، والتدريب والتمكين) وبشكل جمعي وليس نخبويا ولا بمنطق اختيار صفوةوإهمال باقي السكان الذين يشكلون الثروة الحقيقية للبلد حال الاستثمار فيهم.

ثانيا: العودة فورا إلى الاقتصاد الإنتاجي في جميع المجالات: الصناعية والزراعية بالإضافة إلى السياحة واقتصاد المعرفة وتسخير مجمل طاقات وإمكانيات البلد في ذلك الاتجاه دون سواه.

ثالثا: الدمقرطة، حيث لن نقوى سواء في مصر أو في أي مكان آخر في العالم على التعامل مع تلك التحديات الوجودية في بلد تسودفيه ممارسات الاستبداد وينتشر فيه الفساد والتسلط وسوء الإدارة، فالحرية والديموقراطية والمواطنة الكاملة ودولة الحقوق والقانون بالإضافة إلى عدالة توزيع عوائد الانتاج، وتوفير الفرص المتساوية لجميع الكفاءات، هي جميعها شروط حاكمة إذا ما ارادت أمة ما أن تحافظ على بقائها والمشاركة في بناء عالم اليوم جنبا إلى جنب مع من يسعون للبقاء والاستمرار.