ثمة خريطة نفوذ دولي جديدة، تتشكل في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، وهو ما يمكن استشعاره بوضوح في توجهات الأنظمة الجديدة الحاكمة لعدد من دول المنطقة، والتي تولدت من سلسلة الانقلابات العسكرية التي قادها جيل من الضباط الشباب.
ما يجري في منطقة الساحل الإفريقي، وكانت أحدث حلقاته انقلاب النيجر، لم تعد فيه فرنسا صاحبة النفوذ التاريخي بتلك المنطقة، مرحبا بها شعبيا، وباتت الأنظمة الموالية لباريس مهددة، إما من الضباط الشباب، وإما من النفوذ الروسي المتمدد في تلك المنطقة.
وتعد منطقة الساحل الإفريقي واحدة من أهم المناطق الجيو سياسية في القارة الإفريقية، إذ يمتد تأثيرها إلى خارج القارة، وهو ما جعلها مطمعاً للعديد من القوى الدولية، في مقدمتها فرنسا صاحبة النفوذ التاريخي، والولايات المتحدة، والصين وروسيا، في ظل الموقع الاستراتيجي لتلك المنطقة، وما تمتلكه من مخزونات كبيرة من الموارد والثروات الطبيعية.
وتقع منطقة الساحل الإفريقي في الصحراء الكبرى شمالاً حتى السافانا جنوباً، وتمتد حتى السنغال وموريتانيا، ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد ونيجيريا والسودان غرباً، وتمتد حتى إثيوبيا شرقاً.
خسائر غربية وتمدد روسي صيني
فرنسا والغرب بوجه عام خسر قبل انقلاب النيجر الأخير أربعة حلفاء خلال عامين هم: إدريس ديبي الرئيس التشادي الذي سقط خلال مواجهات مع المتمردين شمال البلاد في إبريل 2021، وإبراهيم أبو بكر كيتا رئيس دولة مالي السابق، الذي أطيح به في انقلاب عسكري في أغسطس 2020، والرئيس البوركيني فاسو روش مارك كريستيان كابوري المطاح به في انقلاب عسكري مطلع العام 2022، وألفا كوندي رئيس غينيا الذي فقد منصبه إثر انقلاب عسكري في سبتمبر 2021.
ومع تنامي صراع الاستقطاب الجاري بين روسيا والغرب، من المتوقع أن تشهد المنطقة تغيرات عميقة في الدول التي تقودها أنظمة موالية للغرب.
هذه التغيرات من شأنها أيضا، أن تخلق انقساما بين دول القارة، ونشوب ما يمكن أن نسميه حربا باردة جديدة، في القارة تحت ظل صراع نفوذ الدول الكبرى على ثرواتها، فروسيا من جانبها تستخدم كل الوسائل، وتلقي بثقلها في القارة؛ لتمكين نفوذها ومصالحها؛ لإنهاء الأنظمة الموالية للغرب لتسقط كقطع الدومينو، وهو نفسه ما أكده السفير الفرنسي السابق في واشنطن، جيرار أرو، في تغريدة له على موقع “إكس” بقوله: “الآن بعد أن ضاع الساحل تقريبًا، دعونا لا نرتكب نفس الأخطاء في السنغال وكوت ديفوار”.
لماذا تتمسك أمريكا بالساحل وغرب إفريقيا؟
تولي الولايات المتحدة أهمية خاصة بمنطقة الساحل الإفريقي، نظرا لتماسها مع مخزونات النفط في غرب إفريقيا، حيث عملت الإدارة الأمريكية على وضع يدها على مخزون دول غرب إفريقيا من النفط، والعمل على زيادة الكميات المستخرجة، والتي كانت بداية التفكير في تواجد شركات النفط الأمريكية، موبيل وشيفرون في خليج غينيا، كما أن قرب المسافة بين مناطق البترول والساحل الأمريكي يوفر النفقات المتعددة للشحن، وكذلك الحصول على النفط بأسعار منخفضة، وكذلك يضمن لها السلامة، وعدم التعرض لأي هجمات لأطراف معادية في البحر الأحمر وسواحل الصومال.
إزاء ذلك، اعتمدت واشنطن استراتيجية التمدد في الساحل الإفريقي، عبر التواجد العسكري والدبلوماسي والاقتصادي، والذي برز بشكل كبير عقب أحداث سبتمبر 2001، ووضعت عدة برامج لمد نفوذها في عدة دول أهمها، مالي وتشاد والنيجر وموريتانيا؛ بسبب كثرة نفوذ الحركات المسلحة في هذه الدول في ظل تقاسم حدود هذه الدول مع ليبيا والجزائر والسودان، ومع تزايد الأهمية الاستراتيجية التي يمثلها خليج غينيا بالنسبة لأمن الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية.
استراتيجية فرنسية لتأمين النفوذ التاريخي
في المقابل، تعتمد فرنسا استراتيجية؛ لتثبيت نفسها أكثر كقوة دولية فاعلة داخل منطقة الساحل الإفريقي، كما تسعى لإيجاد فرص؛ لإنشاء قاعدة عسكرية في ظل الحصار الأمريكي الصيني لقاعدتها العسكرية في جيبوتي، خاصة أن منطقة الساحل الإفريقي هي أحدى مناطق النفوذ الفرنسية التاريخية الاستعمارية.
ولطالما عملت باريس طوال الفترة الماضية على زيادة المقاربة بينها وبين دول الساحل، وذلك لضمان استمرار حماية مصالحها بالمنطقة، إذ تحصل على 70% من اليورانيوم اللازم؛ لتشغيل محطاتها النووية من النيجر، كما تعمل على حماية نفوذها التقليدي، ووضع العراقيل لمنع تمدد نفوذ الحركات الإرهابية والانفصالية.
منافسة صينية
في مقابل السياسات الأمريكية والفرنسية تجاه منطقة الساحل الإفريقي، برزت الصين مؤخرا كقوة لا يستهان بها، إذا سعت مؤخرا لضرب المصالح الفرنسية الأمريكية في وقت واحد، من خلال إقامة التحالفات مع دول في غرب إفريقيا، وفي مقدمتها نيجيريا.
وتعتبر منطقة غرب إفريقيا الغنية بالنفط من أهم المناطق المصدرة للنفط الخام في العالم، خاصة أنجولا ونيجيريا، إذ تعدان من أكبر موردي النفط للصين.
وبخلاف النفط، تتجه أنظار بكين إلى اليورانيوم، ومخزونات الذهب لدى دول منطقة الساحل الإفريقي.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث بول نانتوليا، من مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية، أنه يتم بناء واحد من كل ثلاثة مشاريع بنية تحتية رئيسية في إفريقيا من قبل الشركات الصينية المملوكة للدولة، ويتم تمويل واحد من كل 5 من قبل بنك السياسة الصينية.
وتفيد تقارير دولية، بأن هناك مساعي صينية؛ لإقامة قاعدة عسكرية بمنطقة خليج غينيا، ويعزز تلك التقارير، وصول أسطول بحري تابع لجيش التحرير الشعبي الصيني، بقيادة المدمرة ناننينج إلى نيجيريا مطلع يوليو الماضي، في زيارة نادرة إلى الساحل الإفريقي المطل على المحيط الأطلسي، حيث بذلت بكين جهودا منذ فترة طويلة؛ لتعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة.
توغل روسي
على عكس التوجه الصيني نحو تلك المنطقة، عبر بوابة المساعدات الاقتصادية والتوسع في عمليات الإقراض، كان التوجه الروسي الذي اعتمد بالأساس على الاتفاقيات الأمنية والعسكرية، وصفقات السلاح مع دول تلك المنطقة.
فمنذ العام 2017، أولت موسكو إفريقيا اهتماما كبيرا، وبدأت شركة فاجنر للخدمات الأمنية التي تعد ذراعا روسيا، في الانتشار بالقارة ومنطقة الساحل الإفريقي، من خلال تقديم الخدمات الأمنية لأنظمة دول المنطقة في ظل الانسحاب الفرنسي منها.
وتتطلع روسيا إلى زيادة دورها هناك كجزء من استراتيجيتها الأوسع نطاقًا، وهو ما من شأنه أن يضع العلاقات الأوروبية والأمريكية في تلك المنطقة تحت الضغط، وهو أمر يمكن لموسكو الاستفادة منه في تنافسها الجيو سياسي الأوسع مع الغرب، وتخفيف الضغط على قواتها المنخرطة في الحرب الأوكرانية.
كما تتطلع موسكو إلى الحصول على وصول غير مقيد إلى اليورانيوم، ومختلف الموارد الطبيعية الأخرى، والتي تشمل أيضا الفحم والذهب وخام الحديد والفوسفات والبترول، فضلا عن احتياطيات النفط الكبيرة.
وتدرك واشنطن خطورة التحركات الأمنية الروسية في منطقة الساحل الإفريقي، وهو ما عبرت عنه مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية، مولي فيي، بقولها، ” إن بلادها ترغب في ردع الحكومات الإفريقية عن اللجوء إلى “فاجنر”؛ لتلبية احتياجاتها الأمنية”.
في الخلاصة، يمكن القول، إن التغيرات السريعة التي تشهدها تركيبة الأنظمة الحاكمة في دول منطقة الساحل والصحراء من شأنها؛ أن تعيد رسم خريطة النفوذ الدولي بتلك المنطقة في ظل مساعي قادة الانقلابات، والأنظمة الجديدة في البحث عن داعمين جدد، يستندون إليهم في مواجهة فرنسا التي باتت غير مرغوب بتواجدها في تلك الدول؛ نظرا للإرث التاريخي منذ الحقبة الاستعمارية.
كما أنه حال نجح انقلابيو النيجر في تمرير انقلابهم، فإن ذلك قد يفتح الباب أمام مزيد من الانقلابات في ظل دعم روسي، بات واضحا للكثير من قادة الجيوش في دول تلك المنطقة.