في “مواني المشرق”، يحكي لنا أمين معلوف عن بطل الرواية “عِصيان” حفيد “كُتبدار” طبيب القصر السلطاني في تركيا. لما خُلِع السلطان عن العرش، وتسلم ابن أخيه السلطة، حُدِدَت إقامته في قصره، فكان ممنوعًا من الخروج أو استقبال الزائرين إلا بإذن مُسبق، وعاش بعيدًا عن أهله، باستثناء أربعة من الخدم المسنين. راح السلطان المعزول في نوبة اكتئاب عميقةٍ، ولم يكن يُغادر غرفة نومه إلا فيما نَدر. كان خدم السلطان يخشون غضبته، إن اقتحم عليه أحدهم خلوته، بعدما قال لهم: “أعرف أن لا أحدا يريد إطاعة أوامري. ولو سَوَّلت لأحدكم النفس بالدخول إلى غرفتي، لخَنَقته بيدَيَّ”. طرق الخدم باب غرفته ذات يوم، فلم يُجبهم ولو حتى بالسباب، أصابهم القلق. كانوا يعلمون، أن ابنته الأثيرة “إيفيت” هي الوحيدة التي يمكنها اختراق خلوته، دون أن يصب عليها جام غضبه. أتوا بها بعد استئذان السلطات الجديدة، حاولت أن تدير مقبض الباب الذي ظَل مُوصدًا، نادته فلم يُجِب، وحينها أمرت اثنين من الخدم، فكسروا الباب لتجد أباها السلطان مقطوع الشرايين غارقًا في دمائه. أصيبت الفتاة بصدمة عصبية ما لبثت إلا وقد اقتربت حد الجنون. احتار الطبيب العجوز “كُتبدار” في علاج الفتاة التي رفضت أمها إيداعها بمصحة عقلية، فما كان منه إلا أن أوصى الأم، بأن يتم عزل الفتاة في مكان بعيدٍ عن إسطنبول، واقترح أن يكون ذلك في “أضنة” بالأناضول؛ حيث يمتلك بيتًا هناك لا يسكنه أحد، ووَعَد بأنه سيلازمها مُتَوَليًا علاجها بنفسه، لتكون مريضته الوحيدة. وافقت الأم المكلومة شريطة أن يتزوجا، وقد حدث. أتى إلى الدنيا والد “عِصيان” كَنِتاجٍ لزواج ابنة السلطان المريضة بطبيبها العجوز. وعلى الرغم من شرعية الزواج إلا أن أعيان “أضنة” كانوا يتعاملون مع هذا الأمر، باعتبار أن الطبيب العجوز كان مقصده أن تكون “إيفيت” فأرًا لتجاربه الطبية، فقاطعوه ولم يطأ أيهم عتبة منزله. “كان والدي يقول لي: صاروا يعاملوننا وكأننا مصابون بالطاعون”. هكذا قال “عِصيان للراوي. نشأت بين والد “عِصيان” التركي وبين مُدَرِسِه الأرمني الذي كان يكبره بسنواتٍ قليلة، علاقة صداقة قوية لم تكن مألوفة بين تركي وأرمني. دفعت المجازر الدامية التي اقترفها الأتراك بحق الأرمن كثيرًا منهم إلى الهجرة، فكان قرار المُدرس الأرمني الهجرة إلى لبنان -كمحطة مؤقتة تمهيدًا للسفر عبر المرفأ إلى أمريكا- مع زوجته وابنته ليرافقه صديقه الذي سيتزوج لاحقًا من ابنة الأرمني لتبدأ الحكاية.
وُلِدَ “عِصيان” في 1919، بعدما وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها، للأب التركي والأم الأرمنية؛ لتمتزج في عروقه دماء سلاطين الأتراك بدماء مطاريد الأرمن، وهنا تكمُن عُقدة الرواية. عاش “عِصيان” سنوات طفولته ومراهقته ببيروت التي غادرها في 1937، متوجهًا إلى أوروبا للدراسة، ليجد نفسه وسط جماعات المُقاومة الفرنسية مُدافِعًا عن أرضٍ لا ينتمي إليها سوى بصفته إنسانًا، يدافِع عن الحق أينما كان.. ليُحب كلارا اليهودية التي فقدت أهلها جميعًا -إلا واحدًا- بمحارق النازي.. ليعود إلى بلاده مُكَلَلًا بِغَارِ المنتصر في الحرب ضد العُنصرية. يلتقي “عِصيان” لاحِقًا بكلارا مرة أخرى في حيفا ليتزوجا وليوَاجَهَا -معًا- بحقيقة هذا العَالَم المُرة فينفصِلا. انقضت أعوام “عصيان” بين مواني المشرق، وهو الاسم الذي كان يُطلَق على مجموعة المُدن التجارية التي كان المسافرون الأوروبيون يعبرونها من القسطنطينية إلى الإسكندرية مرورًا بإزمير وأضنة وبيروت، ليعود في النهاية إلى باريس بحثًا عن كلارا ورفاق المقاومة، بحثًا عن نفسه كإنسان.. مجرد إنسان.
في مثل هذه الأيام، مما تَلى 2020 من أعوام، أتذكر الأميرة المريضة وطبيبها، ابنها التركي وصديقه الأرمني، حفيدها المُسلم وزوجته اليهودية، المقاومة ضد النازي، ناديا ابنة “عِصيان” التي وُلدت في سنة النَكبة الإنسانية الكبرى 1948، ثم هاجرت للبرازيل. أتذكر تفجير أحد أهم مواني المشرق، الميناء الذي أبحَر منه “عِصيان” ذات يوم متوجهًا إلى مارسيليا، ثم إلى مونبيلييه. حين انضم “عِصيان” إلى المقاومة الفرنسية ضد النازي، اختار “باكو” اسمًا حركيًا له، وهو لقب تَوَدُدٍ كان جده الأرمني يدعوه به، كان يناديه “أباكا” في البداية، وهي كلمة تعني المُستقبل بالأرمنية بكل ما تحمله تلك الكلمة من آمال، كان الجد يعقدها عليه، ثم ما لبث أن خففه إلى “باكو”. لم يَدُر بخلد باكو/ المستقبل في ذلك الوقت، أي حظوظ يدخرها القدر لبيروت التي اختزلت الحضارات والقوميات والأديان في رحيق إنساني بديع، أُهدِر بدمٍ باردٍ على مذبح الطائفية، الحرب الأهلية 1975، ثم تفجير الميناء الذي أُضيف إلى سلسلةٍ من الجرائم، جَمَع بينها غياب الإجابة على سؤالٍ مُستَحَق: مَن الفاعل! أجمَعَ ملوك وبَكَوات الطوائف -في اتفاقٍ تاريخيٍ غير مكتوب- على حَجْبِ الحقيقة، وكأنهم جميعًا ضالعون. إجابة وحيدة على كل ما فات، وما هو حَال وما هو آت، كانت قد وجدت طريقها للنور على أوتوستراد بيروت في 2019..”كِلُن يَعني كِلُن”.
رَحِم الله الشهداء.