أشد سلاطين المماليك ظلماً وفساداً ، كانت لديه خطوط حمراء يقف عندها ، مهما كان طغيانه ، كان لديهم التزام بالحد الأدنى من حقوق الشعب : حق الطعام ، حق الأمان ، حق الكلام . فكرة استباحة الشعب بالمطلق لم تكن موجودة ولا ممكنة ولا مسموحاً بها ، لأسباب منها أن التنافس بين قادة المماليك وفرقهم كان يصنع حالة من توازن القوى أو الردع الذاتي المتبادل من داخلهم ، ومنها أن المجتمع لم يكن فقط كما قال ابن خلدون مجرد سلطان ورعية ، وإنما كانت تقف بين السلطان والرعية شرائح اجتماعية وازنة وحاجزة وضابطة ، تصد الطغيان من جانب الحكام ، وتمتص الغضب من جانب المحكومين ، إذ تضع قيوداً على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الطغيان ، وفي ساعة الخطر تقف إلى جانب الناس وتتحدث باسمهم وتسعى لرفع المظالم عنهم إما بالتوسط أو الشفاعة أو إسداء النصيحة أو الإغلاظ في القول ، كان القضاة قوةً معتبرة ، صحيح كان سلاطين المماليك يولون القضاة ويعزلونهم ، وصحيح كان من القضاة من لا يحترم جلال رسالة العدالة المكلف بها ، لكن كان العرف القوي السائد هو استقلال القضاء من حيث هو حكم بين الناس بالعدل ، ثم كان السائد من الأعراف القضائية أن الورع والزهد والنزاهة والشرف هي تاج فوق عمامة القاضي قبل ما يمتاز به من تبحر في الشريعة والعلم والحكم بين الناس . ثم كان هناك العلماء والفقهاء والأئمة والأدباء والبلغاء والشعراء والتجار وعوام الناس ، لم يكن ثمة فراغ بين السلطان والناس ، كان المجتمع – كقوة حية نابضة – قوة صد وردع وصمام أمان . غير صحيح أن المجتمع كان خارج المعادلة .

في ص 71 من الجزء الخامس من تاريخ ابن إياس ” بدائع الزهور في وقائع الدهور ” يتحدث عن نهاية قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك ، فيقول ” وزال مُلكُ الغوري ، على لمح البصر ، فكأنه لم يكن ، فسبحان من لا يزولُ مُلكُه ولا يتغير ” ، ثم يحسب عدد سنوات حكمه لمصر والشام فيقول ” فكانت خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمس وعشرين يوماً ” ، ثم يصف أوضاع الشعب خلال عهده فيقول ” فكانت الناس معه في هذه المدة في غاية الضنك ” . ثم يتحدث ابن إياس عما نهبه قانصوه الغوري من أموال طوال سنوات حكمه التي قاربت الستة عشر عاماً إلا قليلاً ، كما يذكر أن هذه الأموال ذهبت غنيمة للسلطان العثماني سليم الأول الذي هزم الغوري في مرج دابق في شعبان 922 هجرية 1516م ، يقول ” احتوى – يقصد استولى – سليم شاه ابن عثمان على مال وسلاح وتحف ، مائة ألف ألف دينار ، والسروج المذهبة ، والبلور، واللجم المرصعة بالفصوص المثمنة ، والخوذ الفاخرة “، ثم أخذ يذكر ما نهبه الغوري من خزائن من سبقوه من الملوك والسلاطين ، ثم ختم بنقطتين : الأولى ، أن هذه الأموال ” جمعها قانصوه الغوري من وجوه المظالم . والثانية ، أنها ذهبت في حوزة سليم العثماني ” من غير شقي ولا تعب ” ، وأنها كانت من الغزارة والوفرة بحيث أن ” سليم شاه بن عثمان رأى ، ما لم يره قط أحد من أجداده ولا من ملوك الروم ” . ( ابن إياس يسمي السلاطين العثمانيين ملوك الروم مثلما الجبرتي يسمي استانبول البلاد الرومية ) .

لم يقف ابن إياس عند وصف عهد الغوري بأنه سنوات ضنك على الشعب ، ثم سنوات نهب للأموال ، بل ذهب يقدم تفسيراً لهذا الضنك ، ولهذا النهب ،ثم لهزيمة الغوري أمام العثمانيين ، فقال في ص 37 من الجزء الخامس : ” وكان السلطان الغوري لا يقتدي إلا برأي نفسه في جميع الأمور ” . تفرد الغوري بالرأي ثم تفرد بالهزيمة ، يقول ابن إياس ” لم يقع لأحد من سلاطين مصر أنه وقع له مثل هذه الكاينة ( يقصد الهزيمة ) حيث مات وحيداً ، تحت صنجقه ( يقصد الراية أو العلم المرفوع في ساحة القتال ) في يوم الحرب ، أو انكسر على هذا الوجه أبداً ، غير قانصوه الغوري ، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً ” . وفي مقابل تفرد الغوري بهزيمة غير مسبوقة ، فقد أتاح ذلك للسلطان سليم أن يحرز نصراً غير مسبوق ، يقول ” ولم يقع قط لملوك بني عثمان أخت هذه النصرة على أحد من الملوك قاطبةً ” . ثم يصف موته في ساحة المعركة ، بعد أن انسحب قواده ، وانفض عنه جنوده ، فيقول في ص 69 ” وصار ما يجد له من مُعين ولا ناصر ، فانطلق في قلبه جمرةُ نار لا تنطفيء ، ومات من شدة قهره ، وقيل فُقعت مرارتُه ” . ثم في ص 71 يقول ” وأما السلطان ، فمن حين مات ، لم يُعلم له خبر ، ولا وقف له أحد على أثر ، ولا ظهرت جُثتُه بين القتلى ، فكأن الأرض قد انشقت وابتلعته في الحال ، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر ” .

لكن آخر سلاطين المماليك ، رغم ظلمه ، ورغم نهبه ، ورغم استبداده بالرأي ، ورغم الضنك الذي عاشه الشعب في عهده ، كان – في لحظات الشدة بالذات – يسعى لاسترضاء الشعب وكسب محبته بإجراءات تخفف عن الناس ظروف الحياة وترفع المظالم عن المظلومين ، ونكتفي هنا بذكر مثالين ، لنموذج من أشد عهود المماليك ظلاماً وسواداً .

1 – أولهما : عندما قرر قانصوه الخروج من القاهرة إلى حرب العثمانيين في مرج دابق ، تعمد أن ينيب عنه أميراً معروفاً بالعدل ، وأوصاه بحفظ الأمن وعدم الظلم ، هو الأمير الدوادار الذي يصفه ابن إياس بأنه كان ” مُحبباً للرعية ، قليل الأذى في حق الناس ” . فقد شق الأمير الدوادار القاهرة في موكب حافل ، ينادي بالأمان والاطمئنان وحرية البيع والشراء ، ومنع المشي – بعد العشاء – بسلاح ، ومنع أي مملوك ، أو غلام مملوك ، من إلحاق أي أذى بالناس في أعمالهم وأرزاقهم ، وأنه من كانت له مظلمة أو حق شرعي عند أحد ولم يحصل عليه ، فليذهب إلى باب بيت الأمير الدوادار ، ثم يقول ابن إياس ” فارتفعت له الأصوات من الناس بالدعاء ، وما حصل للناس في غيبة السلطان إلا كل خير ” . ( ص 46 ج 5 ) .

وفي ص 50 يذكر ابن إياس أن شخصاً من مماليك السلطان اشترى قمحاً ، ثم لم يجد ما يحمله عليه ، فأراد اغتصاب حمار وزكيبة من أحد الفلاحين الصعايدة ، فقاومه الفلاح ، فضربه المملوك ،وحنى سال منه الدم ، ثم غرق في النهر . فتكاثرت الناس على مملوك السلطان ، وأمسكوه ، وذهبوا به إلى بيت الأمير الدوادار ، فوضعه الأمير في الحديد ، وأرسله إلى الوالي ، ليودعه السجن ، إلى أن يحضر السلطان ” .

2 – ثانيهما : في ص 65 يذكر ابن إياس ، أن السلطان الغوري أرسل من الشام ، قبل أيام من وقوع الحرب ، إلى الأمير الدوادار ” مثالاً شريفاً ” يتضمن الوصية بالرعية ، ونقرأ في وصية السلطان بالشعب ما يلي :- أن يكف الأمير دوادار أذى المماليك عن الناس ولا يشوشوا على أحد المتسببين . ( المتسبب من يسعى على رزقه في دكان أو حقل أو ورشة ألخ ) .
– دراسة أوضاع كل من في الحبوس ( أي السجون ) رجالاً ونساءً ، ويطلق ( أي يطلق سراح ) المديونين ، بعد التصالح مع الدائنين وسداد حقوقهم من الخزينة العامة ، أي سداد ديون الغارمين ، وعدم ظلم أصحاب الديون .
– إخلاء كل المحبوسين إلا أصحاب الجرائم ومن عليه دم ( يقصد من ارتكب جريمة قتل ) ، مع بذل المساعي في الوساطة لدى أصحاب الدم لأجل العفو .

– استتابة جماعة من الحرامية أي أخذ تعهدات من بعض اللصوص أنهم قد تابوا ولن يعودوا لاحتراف السرقة .
– إلزام مماليك السلطان بالبقاء في القلعة طيلة غياب السلطان في الحرب ، ولا ينزلون إلى المدينة ، ولا يشوشون على أحد من الناس قاطبةً ، ومن يفعل ذلك منهم يُشنق دون معاودة .
– التصدق على الفقراء وقراءة ختمات القرآن المجيد في كل الأسواق مع الدعاء للسلطان بالنصر .

الفرق بين ابن إياس 1448 – 1522م ثم الجبرتي 1753 – 1825م ، ما يقرب من ثلاثة قرون من عمر الزمن . الأول شهد بنفسه – كشاهد عيان بيان – نهاية المماليك كسلاطين عظماء في الشرق، يحكمون مصر والشام ، ولهم كلمة مسموعة كقوة يُحسب لها كل حساب في العالم القديم ( قبل اكتشاف الأمريكتين واستراليا ) . ثم الثاني شهد النهاية الأخيرة للمماليك ، وهم مجرد قوة محلية محصورة داخل مصر ، قوة في الترتيب الثالث ، إذ من فوقهم الوالي العثماني في القلعة ، ثم السلطان العثماني في استانبول . الزوال الأول للمماليك كان على يد السلطان العثماني سليم الأول . الزوال الثاني والأخير كان على أكثر من يد : من الفرنسيين ، إلى العثمانيين ، إلى محمد علي باشا . المؤرخان كانت لدى كل منهما عاطفة تميل – في لعبة الصراع الإقليمي والدولي – للمماليك ، وليس للعثمانيين ، من زاوية أن مصر مع المماليك دولة قوية مستقلة تُحكم من القاهرة ومعها الشام والحجاز واليمن والبحر الأحمر وشرق المتوسط ، أما مع العثمانيين فتُحكم – كما يقول الجبرتي – بالإنابة ، أي من خليفة أو سلطان يقيم خارجها ثم يرسل والياً يحكم مصر بالنيابة عنه مثلما حدث من أول الإسلام حتى ضعف الدولة العباسية واستقلال أحمد ابن طولون بحكم مصر 254 هجرية – 868 م . ابن إياس كان يلقب السلطان سليم ” ابن سليم الباغي ” ، الجبرتي يطلق على الضم العثماني لمصر ” قتنة السلطان سليم شاه بن عثمان ” . معايشة وتأريخ الأول لدخول العثمانيين في مطلع القرن السادس عشر ، ثم معايشة الثاني وتأريخه لدخول الفرنسيين عند رأس القرن التاسع عشر ، كلا التجربتين مما خلدهما في التاريخ .
كلاهما ، وهو يشهد لحظة الأفول ، أفول سلاطين المماليك في حالة ابن إياس ، وأفول المزدوج العثماني – المملوكي في حالة الجبرتي ، كلاهما كان يرصد وفي الوقت ذاته يحلل عناصر الموقف . من يقرأ ابن إياس وهو يؤرخ لعام 922- 1516م لا يخالطه شك أن السلطان الغوري ذاهب إلى هزيمة وأن قوة المماليك تشق طريقها إلى قدرها المحتوم . من يقرأ الجبرتي يلحظ أن كل سطر يقول – بالذات بعد قدوم الفرنسيس – أن الأوضاع تتفكك والقوة تتحلل والاضمحلال نضج واستوى .
ومثلما أشار ابن إياس إلى ظلم السلطان قانصوه الغوري ، واستبداده بالرأي فلا يسمع غير نفسه ولا يستشير كبار القادة أو العلماء ، وأن الشعب عاش في ضنك طوال عهده . قريباً من هذا يتحدث الجبرتي بعد ثلاثمائة عام تفصل بين الرجلين . لكن يصل بينهما أن أفول الدول مرهون – بالدرجة الأولى – بأمرين : غياب المشورة ، غياب العدالة ، وهما الإلتزام الأساس الذي يجعل من السلطة دولة ثم يضمن للدولة الاستمرار والبقاء .

هنا يقول الجبرتي في ص 12 من الجزء الأول من تاريخه ، طبعة الهيئة العامة لدار الكتب المصرية ، تحقيق دكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ، أن ” الله ركز في نفوس الناس الظلم والعدل ، ثم مست الحاجةُ بينهم إلى سائس عادل ، وملك عالم ، يضع بينهم ميزاناً للعدالة ، وقانوناً للسياسة ، توزن به حركاتُهم وسكناتُهم ” ، ثم يقول أن ” العدالة تقتضي المساواة وأن المساواة هي أكمل الفضائل ” . ” وأبلغ الأشياء في حفظ المملكة العدل والإنصافُ على الرعية ” ، ويروي عن ” حكيم سُئل : العدل أم الشجاعة أفضل ؟ فأجاب : من عدل استغنى عن الشجاعة ، ثم قال : العدل أقوى جيش وأهنأ عيش .
من طبعة الأنوار المحمدية ، من تاريخ الجبرتي ، نتوقف عند ثلاثة اشارات تفسر كيف يتسلل الاستبداد والظلم أي غياب المشورة وغياب العدل إلى الدول حتى تسقط :

1 – في ص 29 يتحدث عن سياسة السلطان سليم بعد دخوله مصر ، فيقول ” ولما خلص له أمر مصر ، عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم ( يقصد المماليك ) ، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية ، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات وغلال الحرمين والأنبار ، ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ومصارف القلاع والمرابطين ، وأبطل المكوس والمغارم ، ثم رجع إلى بلاده ، وأخذ صُحبته ما انتقاه من أرباب الصنائع التي لم توجد في بلاده ، بحيث أنه فُقد من مصر نيف وخمسون صنعة ” .

2 – ثم في ص 30 يحكي قصة المستشار الذي أشار على السلطان سليم الثاني 1533 – 1547م ، بما ” قصد منه أن يكون شيئاً مُنكراً ، يكون سبباً في خلخلة دولة آل عثمان ، وهو قبول الرشا من أرباب الولاة والعمال ” ، قال المُشيرُ للسلطان ” عبدكم فلان المعزول من المنصب الفلاني ، ليس بيده منصب الآن ، وقصده من فيض إنعامكم عليه ، أن يأخذ المنصب الفلاني ، ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا ” ، ” فلما سمع السلطان سليم الثاني ، علم أنها مكيدة من المتحدث ، وأن قصده إدخال السوء على بيت آل عثمان ، وتغير مزاجه ، وقال له : تريدُ أن تُدخل الرشوة بيت السلطنة ، حتى يكون ذلك سبباً لإزالتها ، وأمر بقتله إلى آخر القصة ” . ( وطبعاً دارت الأيام وكانت الرشوة وشراء وبيع المناصب من جملة أسباب أسقطت امبراطورية آل عثمان .

3 – ثم في ص 31 يحكى أن السلطان سليم الأول 1470 – 1520 م التقى أحد المماليك ، كان قد اعتزل من وقت مبكر قبل سقوط دولتهم ، وسأله السلطان عن ” سبب عُزلته وانجماعه عن خلطته بعشيرته ، فأجابه : أنه لما رأى في دولتهم اختلال الأمور ، وترادف الظلم والجور ، وأن السلطان مستقل برأيه ، فلا يُصغي إلى وزير ، ولا عاقل مُشير ، وأقصى كبار دولته ، وقتل أكثرهم بما أمكنه من حيلته ، وقلد ( وضع ) مماليكه الصغار في مناصب الأمراء الكبار ، ورخص لهم فيما يفعلون ، وتركهم وما يفترون ، فسعوا بالفساد ، وظلموا العباد ، وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية ، فانحرفت عن السلطان القلوب ، وابتهلوا إلى علام الغيوب ، فعلمت أن أمره في إدبار ، ولابد لدولته من الدمار ” .

مثلما كانت السلطة المستبدة الفاسدة في العصر المملوكي تسعى – في أوقات الشدة – لاسترضاء الشعب وكسب مودته ونوال رضاه ، كذلك كانت السلطة المستبدة الفاسدة في عصر المزدوج العثماني – المملوكي ، ففي أشد مراحلها انحطاطاً ووضاعةً لم يسقط من اعتبارها أنها سلطة مسؤولة عن الناس وملتزمة بالوفاء بالحد الأدنى من احتياجات الناس ، فكرة أن يُترك الناس كل واحد وظروفه لم يكن معمولاً بها ، فكرة أن يُترك الناس لقوانين السوق فمن معه يأكل ومن ليس معه يجوع لم يكن معمولاً بها ، فكرة أن يكتفي الحكام ومن حولهم من الفئات المميزة بما عندهم من مصادر الرفاهة ويتركون الشعب يواجه مصيرة هي كذلك فكرة لم يكن له وجود ولا محل من الإعراب . مثلما كانت السلطة في العصر المملوكي المتأخر – على فساده واستبداده – لديها التزام سياسي وأخلاقي بمصالح الناس بالذات في أوقات الشدة ، كذلك كانت السلطة العثمانية – المملوكية حتى وهي في خريف الضعف وشتاء ما قبل التفكك والسقوط .

اعتمدنا على ابن إياس في العصر المملوكي المتأخر ( نهاية المماليك البرجية ) ، والآن نعتمد على الجبرتي في العصر العثماني – المملوكي المتأخر :

1 – ففي تاريخه لعام 1106 هجرية 1694 – 1695 م ، في ص 37 من طبعة الأنوار المحمدية ، يقول : ” وقصُر مد النيل ، تلك السنة ، وهبط بسرعة ، فشرقت الأراضي ، ووقع الغلاء والعناء ” . فماذا فعلت السلطة في مثل هذه الشدة ؟ ، فعلت حاجتين مهمتين ، الأولى أنها تصالحت مع الناس فيما يجب عليهم سداده من ضرائب و التزامات مستحقة عليهم للدولة ، يقول ” وفي هذه السنة وقعت مصالحات في المال الميري بسبب الري والشراقي ( يقصد الجفاف المترتب على نقص الفيضان ) . ثم القرار الثاني أن الدولة ألزمت الكبار والنافذين بأداء ما عليهم من التزامات لصالح المرافق والمؤسسات والمنافع العامة ، يقول ” وفي خامس شوال ، أنهى أربابُ الأوقاف والعلماء و المجاورون بالأزهر ، إلى علي باشا ( الوالي العثماني ) امتناع الملتزمين من دفع خراج الأوقاف وخراج الرزق المُرصدة على المساجد وما يلزم من تعطيل الشعائر ، فأمر الملتزمين بدفع ما عليهم دون توقف ، فامتثلوا ” .

2 – تكررت الشدة في العام الذي يليه ، فردت السلطنة العثمانية بعزل الوالي علي باشا ، يقول ” وفي منتصف المحرم سنة سبع ومائة وألف ، اجتمع الفقراء والشحاذون ، رجالاً ونساءً وصبيان ، وطلعوا إلى القلعة ( قصر الحكم ) ، ووقفوا بحوش الديوان ، وصاحوا من الجوع ، فلم يُجبهم أحد ، فرجموا بالأحجار ( المتظاهرون يُضطرون للشغب ) ، فركب الوالي فطردهم ، فنزلوا إلى ميدان الرميلة ، ونهبوا حواصل الغلة التي بها ( يقصد صوامع الحبوب ) ، ونهبوا وكالة القمح ، ونهبوا صوامع كتخدا الباشا ( نائب الوالي ) وكان ملآناً بالشعير والفول ، وكانت هذه الحادثة ابتداء الغلاء ” .

ثم يشرح – بالتفصيل – كيف تدهورت الأوضاع حتى صدر الفرمان السلطاني بعزل الوالي وتولية والي جديد ، فبعد رصد الارتفاع الرهيب في أسعار القمح والشعير والفول والعدس والأرز ، يقول الجبرتي ” وحصل شدة عظيمة بمصر وأقاليمها ، وحضرت أهالي القرى والأرياف ، حتى امتلأت منهم الأزقة ، واشتد الكرب ، حتى أكل الناس الجيف ، ومات الكثير من الجوع ، وخلت القرى من أهاليها ، وخطف الفقراء الخبز من الأسواق ، ومن الأفران ، ومن على رؤوس الخبازين ، ويذهب الرجلان والثلاثة مع طبق الخبز ( يقصد طبق العجين ) يحرسونه من الخطف ، وبأيديهم العصي ، حتى يخبزوه بالفرن ، ثم يعودون به ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن عُزل الوالي علي باشا وكانت مدته أربع سنوات وثلاثة أشهر وعدة أيام ” .

3 – الوالي الجديد ، إسماعيل باشا ، جاء إلى ولاية مصر منقولاً إليها من الشام بفرمان سلطاني ، يقول الجبرتي ” وطلع إلى القلعة بالموكب كالعادة ، فلما استقر في الولاية ، ورأى ما فيه الناس من الكرب والغلاء ، أمر بتجميع الفقراء والشحاذين في قراميدان ، فلما اجتمعوا ، أمر بتوزيعهم على الأمراء والأعيان ، كل إنسان على قدر حاله وقدرته ، وأخذ الوالي لنفسه جانباً من الفقراء والشحاذين ، ولأعيان دولته جانباً منهم ، وعين لكل فقير وشحاذ ما يكفيهم من الخبز والطعام ، صباحاً ومساءً ، إلى أن انقضى الغلاء ” . هذا فرق شاسع ، في وقت وجيز ، بين والي تقاعس حتى تظاهر الفقراء ثم شغبوا ومارسوا العنف ثم نهبوا ، فاستحق العزل . ثم والي آخر ، في يوم واحد : جمع الفقراء ، ثم وزعهم على الأمراء والأعيان ، وألزم نفسه وبطانته بجزء من المسؤولية ، ثم قرر للفقراء من الخزينة العامة ما يكفيهم حتى انتهت موجة الغلاء . وهذا ما أقصده بالقول أن السلطة – فسادها واستبدادها – عندها التزام ومسؤولية عن الشعب وغير وارد تنفض يدها والفقير لا يجد الرغيف .

4 – ثم كان من نصيب هذا الوالي الجديد ، أنه بمجرد أن انتهى الغلاء انتشر الطاعون والوباء ، يقول الجبرتي في ص 38 من طبعة الأنوار المحمدية ” وأعقب الغلاء وباء عظيم ، فأمر الباشا ( يقصد الوالي ) بيت المال أن يكفن الفقراء والغرباء ، ويذهبون بهم إلى مغسل السلطان عند سبيل المؤمن ، إلى أن انقضى أمرُ الوباء ، وذلك خلاف من كفنه الأغنياء وأهل الخير من الأمراء والتجار وغيرهم ” .

كان ذلك عن مماليك وولاة فترات الاضمحلال والتحلل ، أما حكام فترات القوة والازدهار ، فلهم تقييم مختلف عند الجبرتي .

1 – ففي ص 28 وتحت عنوان ” ذكر الملك بيبرس ” يقول الجبرتي ” وعندما استقر بالقلعة ، أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات ، وجهز الحج بعد انقطاعه اثني عشر عاماً ” ، ثم يقول ” كان من أعظم الملوك شهامةً وصرامةً وانقياداً للشرع ” .

2 – ثم يتحدث عن المنصور قلاوون بأنه ” صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري ( المستشفى ) والمدرسة والقبة التي دُفن بها ، وله فتوحات بسواحل البحر الرومي ومصافاة مع التتار وغير ذلك .

3 – ثم يتحدث عن الناصر محمد بن قلاوون فيقول ” وكان ملكاً عظيماً ، كفؤاً للسلطة ، ذا دهاء ، مُحباً للعدل والعمارة ، وطابت مدته ، وشاع ذكره ، وطار صيتُه في الآفاق ” . ثم يقول ” ومن محاسنه ، أنه لما استبد بالملك ( يقصد انفرد بالسلطة دون تنازع عليها من باقي المماليك ) أسقط جميع المكوس في مصر والشام ، وأبطل الرشوة ، وعاقب عليها ، ولا يقضي إلا بالحق ، فكانت أيامه سعيدة ، وأفعاله حميدة ” .

تأسيساً على ما سبق ، وإذا كان مماليك وولاة عصور الانحطاط كانوا يسترضون الشعب ويفتحون للفقراء بيوتهم وخزائنهم في أوقات الشدة ،

فماذا عن أوضاع الشعب في عهود العظماء من المماليك الأقوياء ؟

تقول دكتورة نسرين مصطفى محمد ، في ص 41 ، من كتابها ” الدور السياسي للمصريين خلال عصر دولة المماليك البحرية ” أنهم حرصوا على اتباع سياسة التقرب من الشعب المصري ، فاتخذوا من سياسة رفع الظلم عن المصريين ، وبخاصة فئة العامة منهم ، طريقاً للتودد إليهم ، فسعوا إلى رفع الظلم عنهم ، وجلب الرخاء لهم ، وتخفيف أعباء المعيشة عن كاهلهم ” .
السؤال الآن : كيف كان ذلك ؟
هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.