انفض دور انعقاد مجلس النواب المصري الأخير (أكتوبر 2022 – يوليو 2023)، دون أن يسجل في سجله ما يجعله فاعلاً مجتمعياً حقيقياً، أو ما يعبر عن كونه أهم مفترضات الديمقراطية بحسبه، السلطة التشريعية الموجودة، وبحسب ما له من سلطة رقابية على أعمال السلطة التنفيذية بشكل جدي، قد يشعرنا ولو على النحو اليسير، بأن هناك فصلاً متوازناً ما بين السلطات الحاكمة لهذا الوطن.

فعلى الرغم من أن هناك قوانين عالقة كان يجب عليه التطرق إليها ومناقشتها، وأهمها فيما يخص الحياة القضائية، قانون استئناف أحكام محاكم الجنايات ( المادة 240 من الدستور )، أو قانون العدالة الانتقالية ( المادة 241 )، هذا بخلاف العديد من الموضوعات ذات الشأن العام، والتي كانت تقتضي تدخلاً تشريعياً، فعلى سبيل المثال، قد طالت الرسوم القضائية والخدمات التي تقدمها المحاكم زيادات متتالية في قيمتها، دونما وجود قانون يسوغ ذلك، وعلى الرغم من أهمية ذلك الأمر على مسار العدالة وعلى حق المواطنين في التقاضي، إلا أنه لم يٌطرح للنقاش في أروقة مجلس النواب.

ومن زاوية رقابية، لم يشهد مجلس النواب المصري، ولو حالة استجواب وحيدة تحسب له في تاريخه الرقابي، فعلى موقع جريدة الوطن بتاريخ 11 يوليو، أن مجلس النواب قد ناقش 188 قانونا، وقد شهدت الجلسات 19 بيانا عاجلا و1317 طلب إحاطة و204 أسئلة، وعدد الاقتراحات برغبة 452.

البرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب، هو هيئة تشريعية تمثل السلطة التشريعية في الدول الدستورية، حيث يكون مختصا بحسب الأصل بجميع ممارسات السلطة التشريعية وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات، وتمارس البرلمانات عددا من الوظائف، تتراوح في مجالها ونطاقها من دولة إلى أخرى، وذلك حسب الإطار الدستوري السائد، وأسلوب توزيعه لاختصاصات الحكومة، وكذلك تبعا لمدى التطور الديمقراطي، وقوة البرلمان وقدرات أعضائه. وبوجه عام، هناك نوعان من تلك الوظائف: الأول عام، تمارسه البرلمانات كهيئة ممثلة للشعب كدورها في صنع السياسات العامة، وخطط التنمية، والثاني فني، وهو ما يعرف بالدور التشريعي والرقابي، الذي تقوم به في مواجهة السلطة التنفيذية.

كما أنه مما لا شك فيه، أن جدية وقيمة الرقابة البرلمانية تتوقف بشكل أساسي على أعضاء البرلمان أنفسهم، وعلاقاتهم بالسلطة التنفيذية، ومدى استقلالهم، وقدراتهم الشخصية. وتستهدف الرقابة البرلمانية التحقق من مدى مشروعية تصرفات السلطة التنفيذية، وعدم الانحراف عن استهداف الصالح العام، وتمثل الرقابة جانبا ذات أهمية كبيرة من أنشطة البرلمان في الدول الحديثة، لا تقل بحال من الأحوال عن مهمة التشريع؛ ضمانا لالتزام السلطة التنفيذية بمبدأ المشروعية.

ولكن، هل فعلا يشكل ما أقره أو أنجزه أعضاء مجلس النواب الحالي، كان انحيازاً لجانب الشعب المصري، أم جاء متوافقاً مع إرادة السلطة التنفيذية، وإن كنت أرى إجمالاً، أن هذا المجلس قد ساير رغبة السلطة التنفيذية، فيكفي أن ندلل على ذلك بعدم تفعيله الجدي لدوره الرقابي، وعدم استخدام أهم أدواته الرقابية والمتمثلة في الاستجواب، ويكفي أكثر أن نقول، إنه ليس من بين هذا العدد الهائل من التشريعات التي أقرها مجلس النواب، ما يمثل نشاطاً تشريعياً لأعضاء المجلس، إذ أن النسبة الغالبة من التشريعات التي أقرها البرلمان تقدمت بها الحكومة كأحد الأساليب الدستورية؛ لإقرار القوانين، ولكن ليس ذلك هو الأصل، إذ أن الأصل هو أن يتقدم البرلمانيون أنفسهم بمشروعات قوانين، تعبر عن احتياجاتهم واحتياجات ناخبيهم، أو على الأقل يعبر عن انتماءاتهم الحزبية، أو يمثل ترضية لناخبيهم.

والشيء المؤسف، أن ذلك الأمر هو المتكرر، منذ انعقاد ذلك المجلس في دوره التشريعي الأول، وكأنه بات هو الأصل، أن يكون دور المجلس هو مشايعة السلطة التنفيذية، فيما تريده من تشريعات أو تصرفات، وكأن الناخبين قد انتخبوا أعضاءً ليس للتعبير عن إرادتهم ورغباتهم، ومراقبة الحكومة في تنفيذ سياسات تتوافق، واحتياجات المواطنين، بل تم انتخابهم من أجل ترضية السلطة التنفيذية، ومسايرتها فيما تجريه من أمور.

فهل فيما يفعله نواب البرلمان ما يدفع الناخبين إلى إعادة انتخابهم مرة جديدة؟ وهل سعى الأعضاء ذاتهم إلى حث الناخبين ودفعهم على إعادة انتخابهم من جديد، أم أن الأمر لا بد وأن يكون له معنى تغيري يتناسب مع أفعال النواب، أم أن النواب سيسعون للحصول على مباركة السلطة التنفيذية من خلال مجاراتهم لها في كافة أعمالها، وعدم تفعيل سلطة المراقبة عليها سعياً منهم لأن تكون السلطة التنفيذية ضامنة لوجودهم مرة جديدة في مجلس النواب المصري، سواء كان ذلك من خلال حزبها صاحب الأغلبية، وبغير ذلك من الطرق والأساليب غير الديمقراطية.

لكن المفزع في الأمر من خلال تعقب عمل مجلس النواب منذ بداية انعقاده في دورة 2020، أن الأمر قد انقلب إلى ذوبان للسلطة التشريعية داخل عتبات السلطة التنفيذية، التي باتت لها الغلبة في الأمر كله، وهو الأمر الذي يهدر بقوة مبدأ الفصل بين السلطات، ولو بقليل من التوازن، وذلك وفقا لما اتفق عليه معظم الفقه الدستوري في تعريفه، لذلك المبدأ حيث ذهب إلى أن المفهوم الصحيح لمبدأ فصل السلطات – كما تصوره مونتسكيو- هو الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث في الدولة، مع قيام قدر من التعاون فيما بينها، لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام، ووجود رقابة متبادلة بينها؛ لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها، دون أن تجاوزها أو تعتدي على سلطة أخرى. كما أنه يراد من خلال الفصل بين السلطات في الدولة الديمقراطية مجابهة تركيز السلطة، وتصعيب سوء استغلالها. وينبغي ضمان منع إمكانية احتكار سلطة الدولة في أحد مراكز القوى، وذلك من خلال الفصل الأفقي بين السلطات، بما يعني توزيع الشؤون التشريعية والتنفيذية، والقضائية على تلك الهيئات المستقلة عن بعضها البعض، والتي تمارس الرقابة المتبادلة فيما بينها، ولو لم يكن الأمر هكذا، فربما يستطيع الحاكم التخلص من كل رقابة فعالة، والتمتع بالتالي بسيادة غير مقيدة في وضع التعريف القانوني لوحده.

فكيف يتسنى لنا تفعيل ذلك المبدأ، وغيره من مبادئ الديمقراطية الحاكمة من خلال مجلس نواب، لم يتم تقديم حالة استجواب واحدة، ومن خلال مجلس غالبية تشريعاته تتقدم بها السلطة التنفيذية، ويكون دور النواب هو فقط مجرد إبداء الرأي في تلك التشريعات، إن لم يكن الموافقة، فهل ذلك يدعونا إلى البحث عن محاولات جديدة من خلال تعديلات دستورية، تضمن أن يكون ما تتقدم به الحكومة من مشروعات بقوانين لها حد، حتى نضمن أن تكون لدينا سلطة تشريعية فعلية، تقوم على وظيفة التشريع والرقابة.