لعبت الولايات المتحدة الدور الرئيسي في وضع الترتيبات الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط، وضمان استمرار هذا البناء الأمني. ولكن في العقود الاخيرة تغيرت السياسات الامريكية تجاه الشرق الأوسط، نحو الانسحاب التدريجي من المنطقة. شاهدت دول الخليج وفي مقدمتها السعودية، والإمارات هذا التطور في السياسات الخارجية الأمريكية بقلق شديد، خوفا من التهديدات المحتملة على أمنهم من قبل إيران ووكلائها. ولذلك أصبح تراجع الدور الامريكي من المنطقة – أو على الأقل تصور، ورؤية دول الخليج، بأن واشنطن انسحبت من المنطقة – محركا رئيسيا لعلاقات الخليج الأمنية مع واشنطن.

 انسحاب واشنطن وغضب الخليج

الانسحاب الأمريكي في المنطقة يرجع إلى سياسات الرئيسين الأمريكيين السابقين، باراك أوباما، ودونالد ترامب، في الشرق الأوسط. يلاحظ شالوم ليبنر، أنه أصبح اتجاه في الإدارة الأمريكية، منذ إدارة أوباماـ، واستمر في عهد ترامب نحو الانسحاب من منطقة الشرق الاوسط، وترك أصدقاء الولايات المتحدة؛ لإدارة أمنهم بأنفسهم. هناك العديد من الأمثلة التي توضح الانسحاب الأمريكي من التدخل في الشرق الأوسط، بداية من تراجع أوباما عن اتخاذ موقف عسكري حازم ضد نظام الرئيس السوري بشار  الأسد، إلى رفض ترامب التدخل للدفاع عسكريا عن السعودية، عقب الهجوم على شركة أرامكو للبترول بتصريحه، بأن الولايات المتحدة لا تحتاج لنفط الشرق الأوسط.

استمر تراجع الدور الأمريكي في تشكيل أمن المنطقة إلى الآن. يلاحظ مارك ليونارد، بأن العديد من الأحداث الهامة في العام الجاري مثل، الاتفاق السعودي-الإيراني، وعودة سوريا للجامعة العربية، وتدخل السعودية؛ لتهدئة الحرب في السودان، ووساطة مصر؛ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والجهاد الإسلامي، تمت دون تدخل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. وهذا نتيجة للتغير في السياسات الأمريكية الذي يراهن على قدرة حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، للحفاظ على أمن المنطقة دون تدخلات عسكرية من الولايات المتحدة، حيث أن الإدارات الامريكية المتعاقبة أصبحت أكثر اهتماما بآسيا والصراع مع الصين.

على الرغم من ذلك، استمرت إدارة بايدن بطمأنة الخليج، بإنها لا تزال ملتزمة بحماية أمن المنطقة في 2022، صرح بايدن في القمة العربية، بأن الولايات المتحدة لن تنسحب من المنطقة، وتترك فراغا تملؤه دول مثل، إيران أو الصين أو روسيا. ولكن كما تلاحظ ليزلي شافكين، بأن إدارة بايدن بالفعل انسحبت من المنطقة تاركة الفرصة للصين، على الرغم من التطمينات المتكررة من إدارة بايدن لدول الشرق الاوسط، بأن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بدورها في المنطقة. في الواقع إدارة بايدن كانت أقل اهتماما بالشرق الأوسط من سابقيه. كما يقول جوناثان بانيكوف، إنه ربما لا تزال إدارة بايدن مهتمة ببعض المسائل مثل، التوسع باتفاق إبراهام، وإنهاء حرب اليمن، ولكن أجندة بايدن للسياسة الخارجية أعطت الأولوية لثلاث مسائل رئيسية هي: مواجهة النفوذ الصيني، والانسحاب من أفغانستان، والعودة لتعزيز المركز في علاقتها مع حلافائها التاريخيين في أوروبا وآسيا. ولذلك الشرق الأوسط لم يعد على لائحة الأولويات، وإن كان هذا لا يعني الانسحاب الكامل من المنطقة، ولكن هناك تحولات سياسية في العالم بصعود الصين احتلت الأولوية على قضايا الشرق الاوسط، وهذا المنظور لن يتغير بوجود رئيس ديمقراطي أو جمهوري.

انسحاب جزئي وازعاج خليجي

ولذلك من التسرع الحكم، بأن الولايات المتحدة انسحبت بشكل كامل من المنطقة. يرى جوناثان لورد، بأنه لا يزال هناك اهتمام امريكي بأمن الشرق الاوسط. لقد وقع بايدن في 2022، على تعديلات لقانون إقرار الدفاع الوطني، أقرها الكونجرس الأمريكي يجعل البنتاجون “وزارة الدفاع الأمريكية”، يتعاون مع إسرائيل والدول العربية الصديقة منها، دول مجلس التعاون الخليجي؛ لدمج الدفاعات الجوية؛ من أجل حماية الدول الحليفة للولايات المتحدة من هجمات إيران. ثم قدم أعضاء من الكونجرس لاحقا مشاريع قوانين تعزز التعاون الأمني في المجالات البحرية والأمن السيبراني. ولكن يلاحظ لورد بأن الخليج لا يشعر بالحماس تجاه تلك الخطوات، ويراها غير كافية. فعلى سبيل المثال، لقد امتنعت الإمارات عن التصويت لقرار في مجلس الأمن يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أرجعته مصادر تعبيرا عن غضب نحو الموقف الأمريكي الذي اعتبرته ضعيفا عقب هجوم الحوثيين على أبو ظبي ورفض الولايات المتحدة تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية. كما انسحبت الإمارات من قوة بحرية مشتركة بقيادة واشنطن. بالإضافة إلى اتجاه دول الخليج نحو التعاون مع أطراف دولية وإقليمية أخرى منها الصين.

ولذلك لم تنسحب الولايات المتحدة بشكل كامل من الشرق الأوسط. ولكن تراجع الدور الأمريكي في المنطقة عن السابق أزعج دول الخليج بشدة، واعتبرته دول الخليج تخاذلا من واشطن بشأن التزامتها بحماية أمن الخليج. كان من تبعات هذا الأمر على سياسات الخليج هو البحث عن حلفاء أمنيين آخرين. فالتراجع الأمريكي أثار قلق دول الخليج وإسرائيل، مما أدى إلى التقارب بينهم سعيا لملئ الفجوة التي تركتها الولايات المتحدة. السعودية والإمارات أيضا، بدأوا في التوسع في العلاقات الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع أعداء الولايات المتحدة مثل، الصين وروسيا سعيا لتقليص الاعتماد الأمني على الولايات المتحدة.

تذبذب الخلافات وثبات المصالح

تذبذبت العلاقات السعودية الأمريكية بشكل كبير بين الرؤساء الأمريكيين في السنوات الأخيرة. هذا التوتر انعكس على العلاقات الأمنية. عقب حرب اليمن قامت إدارة أوباما، بتعليق صفقة مع السعودية؛ لبيع قذائف موجهة ردا على حرب السعودية في اليمن. ثم لاحقا إدارة ترامب وافقت على بيع الاسلحة مجددا. العلاقات في عهد بايدن ازادت توترا وجفافا، بدءا من توعد بايدن بجعل السعودية دولة منبوذة؛ بسبب انتهاكات حقوق الإنسان إلى تهديد بايدن للسعودية، بأنها ستواجه عواقب؛ بسبب تخفيض إنتاج النفط. عندما جاء بايدن علق بيع القذائف للرياض مجددا التي أعادها ترامب قبله. ولكن سرعان ما خفتت حدة هذا الخلاف، حيث وافق بايدن  في النهاية على بيع قذائف موجهة للرياض عقب زيارة الرئيس الأمريكي لجدة، ولقد بررت إدارة بايدن هذه الصفقة بكونها أسلحة دفاعية. في عام 2022، وافق بايدن على بيع أسلحة دفاعية بقيمة 5 مليارات دولار للسعودية والإمارات؛ لحمايتهم من إيران. كما أنه لا تزال هناك مفاوضات مع الإمارات حول بيع أسلحة من طائرات طراز اف – 35، وطائرات دون طيار من طراز إم كيو – 9 ريبر. تم الاتفاق على بيع تلك الأسلحة للإمارات في عهد ترامب، ولكن تم تعليق الصفقة تحت إدارة بايدن. على الرغم من تعليقها، لا تزال هناك مفاوضات جارية بين واشنطن والإمارات حول بيع الطائرات. إذا وافقت إدارة بايدن على الصفقة، ستكون الإمارات أول دولة عربية تحصل على تلك الاسلحة المتقدمة. يرى رافائيل كوهين، بأن استكمال تلك الصفقة يعود بالنفع على الولايات المتحدة، خلال تعزيز اتفاقات إبراهام مع اسرائيل، وتزويد الإمارات بالأسلحة اللازمة؛ لمواجهة إيران، ولتفادي إمكانية ذهاب الإمارات للصين وروسيا؛ سعيا لشراء مزيد من الاسلحة منهم. تلك العوامل قد ترجح اتمام الصفقة.

يتضح من تلك الصفقات، بأنه على الرغم من وجود توترات في العلاقات الخليجية الأمريكية، ولكن تظل المصالح التي تجمعهم أكثر صلابة. يجادل تاتوم ريتشاردسون، بأن هناك علاقات ومصالح أمنية واقتصادية متشابكة تمنع البلدان من إنهاء التحالف بينهم. فيظل وجود حليف لواشنطن مثل، السعودية عاملا هاما للحد من النفوذ الإيراني، والروسي في المنطقة، كما أن سيطرة السعودية على إنتاج النفط في العالم يلعب دورا هاما في تلك العلاقة، بالإضافة إلى أن صفقات السلاح مع السعودية تعود بالأرباح على صناعة السلاح الأمريكي. أما على الجانب الآخر، فالسعودية لا تزال تعتمد أمنيا على الولايات المتحدة، حيث إن الولايات المتحدة هي مصدر أكثر من 73% من واردات السعودية من السلاح والذخيرة.

لذلك، كل من واشنطن ودول الخليج يرون منفعة أمنية واقتصادية متبادلة ومترسخة، لن تنهيها خلافات مؤقتة. حتى الآن دول الخليج ترحب بالحماية الامريكية، وتطالب بعودتها مجددا، كما كانت في السابق. لقد طالب أنور قرقاش (مستشار الرئيس الإماراتي) الولايات المتحدة بتقديم التزامات أمنية واضحة، وقاطعة لحماية أمن الامارات. كما أنه في الشهر الجاري أشار تقرير لوال ستريت جورنال، بأن هناك مفاوضات بين السعودية والولايات المتحدة؛ حول التوصل لاتفاق للتطبيع مع إسرائيل. يتضمن هذا الاتفاق، أن تعترف السعودية بإسرائيل في مقابل عدة شروط منها، عقد اتفاق يلزم الولايات المتحدة بالتدخل للدفاع عن السعودية في حال حدوث هجوم عليها، والسماح للسعودية بشراء أسلحة امريكية أكثر تطورا، ودعم الولايات المتحدة مشروع السعودية؛ لتطوير برنامج نووي مدني. في المقابل تريد الولايات المتحدة من السعودية، أن تضع حدودا في علاقتها مع الصين، خاصة فيما يتعلق ببناء قواعد عسكرية صينية، واستخدام التكنولوجيا الصينية، بالإضافة إلى الاستمرار بالاعتماد على الدولار في تسعير النفط وليس اليوان.

لاحقا، صرح المسئولون الأمريكيون، بأنه لم يتم التوصل إلى أي إطارات بشأن التطبيع. ولكن وإن كان لم يتم الاتفاق حول التطبيع بعد، يشير هذا التقرير، إلى شعور الولايات المتحدة بالقلق من تقارب العلاقات بين الصين ودول الخليج. كما يوضح أيضا أن السعودية تضغط على واشنطن؛ من أجل أن يعود الدور الأمريكي بشكل واضح وحازم في حماية أمن الرياض.

هناك بالفعل مؤشرات تنبئ، بأن الدفء بدأ بالعودة تدريجيا بين الولايات المتحدة والخليج في الشهور الأخيرة. فلقد أوفد بايدن مسئولين أمريكيين مثل، مستشار الأمن القومي جايك ساليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، لزيارة السعودية، ومناقشة المسئولين السعوديين حول مسائل الأمن. الزيارات الأمريكية وصلت للأمارات أيضا، حيث أن جايك ساليفان زار الامارات؛ لمقابلة محمد بن زايد للنقاش حول استقرار، وسلام الشرق الأوسط، وقبلها كانت هناك محادثات بين الجنرال مايكل كوريلا، ومسئولين من البحرين، والإمارات حول الأوضاع الأمنية في المنطقة. لم تقتصر الخطوات الأمريكية في المجال الأمني على المقابلات الدبلوماسية.لقد أرسلت الولايات المتحدة هذا الشهر أيضا 3000 بحار وجندي للشرق الأوسط؛ لردع إيران وحماية سفن الخليج من الهجمات الايرانية.

تدارك الخطأ وعودة واشنطن

ربما لا تزال واشنطن ترى أن الأولوية هي ردع النفوذ الصيني، والاتجاه نحو آسيا وأوروبا. ولكن من الواضح أن إدارة بايدن أدركت خطأ تجاهل أمن الخليج، وبدأت في تدارك هذا الخطأ، خاصة مع استثمار الصين تلك الفجوة التي تركتها واشنطن للتقرب من دول الخليج عسكريا وأمنيا واقتصاديا. على الرغم من أن السعودية والإمارات يحاولون تقليص اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، وبناء تحالفات أخرى، ولكن البلدين يريان أن الولايات المتحدة تظل الضامن الأمثل لأمن المنطقة. الإمارات والسعودية يستمرون بالمطالبة بالمزيد من التدخلات الأمريكية الحازمة؛ لحماية أمن الخليج من إيران، ويضغطون على واشنطن للعودة لدورها الأمني في المنطقة. بالرغم من أن العلاقة بين الخليج وواشنطن يشوبها التوترات أحيانا، ولكن ستظل المصالح الأمنية والاقتصادية رابطا قويا يمنع التحالف الاستراتيجي من التفكك.