لم تكد تمضي 7 أشهر على اتفاق السلام بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية برئاسة، آبي أحمد، مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي بعد حرب استمرت لعامين، حتى اشتعل الصراع مجددًا في إثيوبيا. ولكن هذه المرة مع عرقية “الأمهرة” التي عاونت رئيس الوزراء في حربه ضد التيجراي.

فخلال الأسبوعين الماضيين، شهد إقليم أمهرة قتالاً بين عناصر من ميليشيات “فانو” التابعة للإقليم، وبين الجيش الاتحادي التابع لآبي أحمد، سرعان ما تحول إلى حرب بالأسلحة الثقيلة، تمكنت خلالها الميليشيات من السيطرة على مدن، وقرى بشكل كامل قبل أن يجبرها الجيش على الانسحاب إلى الجبال إثر قصف جوي عنيف.

وفي سيناريو مشابه، لما جرى في حرب التيجراي، فإن هذه المواجهات مرشحة للاستمرار لمدى زمني أطول، خاصة مع كون عرقية الأمهرة أكثر عددًا وانتشارًا، وتشابكًا مع مؤسسات الدولة المطلة على القرن الإفريقي.

ماذا حدث؟

يعود بدء الأزمة إلى إبريل/ نيسان الماضي، عندما شنت الحكومة الفيدرالية حملة؛ لنزع سلاح القوات الإقليمية. وسرعان ما اجتاحت الاحتجاجات، والمناوشات المسلحة إقليم أمهرة قبل أن تتطور المواجهة إلى اغتيال رئيس الحزب الحاكم في المنطقة.

لكن تلك المناوشات المحدودة بين الجيش وميليشيات “فانو” المسيطرة على الإقليم، تحوّلت خلال الأيام الأخيرة إلى حرب حقيقية، أشبه بتلك التي خاضها رئيس الوزراء آبي أحمد -بدعم من “فانو” نفسها- ضد “جبهة تحرير تيجراي” ما بين 2020 و2022.

و”فانو” مصطلح تاريخي في أمهرة يعني “مقاتل من أجل الحرية”.

وأمهرة، هو الإقليم الرئيسي الذي يعتمد عليه آبي أحمد، في حكم البلاد بعد طرد التيجراي من السلطة التي استحوذوا عليها ما بين 1991 و2018. وهايلي سيلاسي، آخر أباطرة إثيوبيا (1892 -1975) تنحدر عائلته من أمهرة، كما أن والدة وزوجة آبي أحمد من الأمهرة أيضًا، رغم أن والده من الأرومو أكبر عرقية في البلاد، لكنها مهمشة كذلك، وتشهد تمردًا محدودًا.

لذلك يمثل تمرد إقليم الأمهرة على سلطة آبي أحمد، مأزقًا عميقًا، بحسب وكالة الأناضول، لا يقل خطورة عن تمرد التيجراي، باعتبارهما العرقيتين الرئيسيتين اللتين تداولتا على حكم البلاد طيلة قرون.

وتجتذب ميليشيات فانو متطوعين من السكان المحليين. وكانت حليفًا لقوة الدفاع الوطني خلال حرب تيجراي، لكن العلاقة بينهما تدهورت لاحقًا؛ بسبب اتهامات بأن الحكومة الاتحادية تحاول إضعاف دفاعات أمهرة لصالح المناطق المجاورة، وهو ما تنفيه الحكومة.

وأصبح تزايد نفوذ “فانو”، والميليشيات الأمهرية، يقلق آبي أحمد، الذي يؤمن بالحكم المركزي للبلاد، بدل الحكم الفيدرالي الذي يقسم البلاد لـ11 ولاية، تضم عرقيات وديانات مختلفة.

وفي هذا الإطار، أصدر آبي أحمد، في إبريل/ نيسان الماضي، أوامره بدمج الميليشيات المسلحة في جميع الولايات في الجيش، أو الشرطة أو الحياة المدنية. وعارضت “فانو” كبرى الميليشيات الأمهرية هذا القرار، واعتبرت أنه يستهدفها بشكل رئيسي، وشاركت في المظاهرات العارمة التي اندلعت في مدن الإقليم ضد قرار آبي أحمد، بحسب تقرير BBC.

وبدأ التمرد الفعلي لفانو، التي لا تملك قيادة محددة، عندما رفض عناصرها تسليم أسلحتهم، خاصة الثقيلة منها، وبدأوا ينتشرون في بعض البلدات والمدن، ويشتبكون مع قوات الأمن والجيش بشكل محدود. لكن الأمور تعقدت بعد الكمين الذي استهدف رحلة لكبار قادة الناحية الشمالية الغربية.

ومع انضمام عدة ميليشيات أمهرية إلى فانو، غيرت الأخيرة تكتيكها القتالي، وانتقلت من نصب الكمائن، وحرب العصابات إلى الاستيلاء على المدن. وأطلق الجيش عملية عسكرية؛ لاستعادة المدن التي سيطرت عليها فانو والميليشيات الأمهرية، على غرار مدينة “بورن”، في الشمال الشرقي لأمهرة، بالقرب من الحدود مع إقليم تيجراي. لكن فانو زحفت على مدينة “لاليبيلا” التاريخية والمقدسة لدى المسيحيين الشرقيين، واستولت عليها وعلى مطارها.

لذا، في الرابع من أغسطس/ آب الجاري، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ، وفرضت حظر التجوال، ثم استعاد الجيش السيطرة على المدينتين، خلال الأيام الماضية، وشن ضربات جوية أجبرت “فانو” والميليشيات المتحالفة معها على الانسحاب، واللجوء إلى الجبال. كما استمرت الاشتباكات في أجزاء أخرى من المنطقة.

ويشكل الأمهرة نحو ربع سكان إثيوبيا، على عكس تيجراي 6% فقط. يشير محلل إثيوبي لصحيفة “ذي إيكونوميست” إلى أن “محاربة الأمهرة ليست مثل قتال الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي. الأمهرة في كل مكان”.

لماذا اشتعل الخلاف بين الأمهرة وآبي أحمد؟

حتى أثناء الحرب مع تيجراي، كانت السلطات وفانو ينظران إلى بعضهما البعض بقلق. إذ رغم أن قوات أمهرة الإقليمية كانت حليفًا رئيسيًا للجيش، ضد جبهة تحرير تيجراي الشعبية، لكن الفانو اشتبكت بانتظام مع القوات الفيدرالية في الأشهر التي سبقت الحرب، حيث كان العديد من مقاتلي الأمهرة لا يثقون في آبي أحمد.

استغلت قوات الأمهرة الحرب؛ للاستيلاء على غرب تيجراي، وهي منطقة خصبة على الحدود مع السودان، تطالب بها الأمهرة منذ فترة طويلة، بالإضافة إلى منطقة تسمى راية. تقول هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، إن الأمهرة شنّوا حملة تطهير عرقي في غرب تيجراي -تميزت بالاعتقالات التعسفية والقتل والترحيل- أدت إلى اقتلاع مئات الآلاف من سكان تيجراي.

ومنذ اتفاق السلام، ازداد قلق الأمهرة بشأن سيطرتهم على الأراضي المتنازع عليها. ويقول نشطاء أمهرة، إن مصالح منطقتهم لم يتم تمثيلها بشكل صحيح في محادثات السلام. ووفقًا للاتفاق، سيتم حل وضع المناطق المتنازع عليها “وفقًا للدستور”. يعتقد العديد من الأمهرة، إن هذا يعني أن آبي أحمد يخطط؛ لتسليم الأراضي إلى تيجراي.

وقال عضو من الأمهرة في حزب الرخاء الحاكم، بزعامة آبي أحمد لصحيفة The New Humanitarian: “كان رئيس الوزراء يقول: أثناء الحرب أن هذه المناطق المتنازع عليها، هي للأمهرة، والآن يشعر الناس بالخيانة”.

يغذي هذا الشعور بالخيانة، إحساسًا أوسع، بأن الأمهرة يتعرضون للهجوم في أماكن أخرى من إثيوبيا. ففي غرب أوروميا، ذُبح مزارعون أمهرة على يد جيش تحرير أورومو، الذي يقول، إنه يقاتل من أجل قدر أكبر من الحكم الذاتي لأورومو. ووقعت هجمات مماثلة في منطقة ميتيكل في بني شنقول، حيث يشكل الأمهرة أقلية أيضًا.

وفي ظل النظام الإمبراطوري لهيللا سيلاسي، ثم الحكومة الشيوعية، سيطرت أمهرة على الحياة الوطنية الإثيوبية. يشتكي العديد من الأمهرة الآن، من أن الأورومو قد تولوا زمام الأمور في عهد آبي، أول رئيس وزراء أثيوبيا من أورومو. حتى أن الكثيرين يزعمون أن حكومته تقف وراء هجمات على عرقية الأمهرة.

أحد سكان مدينة لاليبيلا في الإقليم، قال للصحيفة، إن فانو هم “محررين” من “حكومة الأورومو” التي يرأسها آبي. مثل هذه الآراء منتشرة على نطاق واسع. إذ قال أيضًا أحد سكان مدينة جوندر: “آبي ديكتاتور. إنه يقتل الأمهرة في كل مكان في البلاد”.

ومع ذلك، من نواحٍ عديدة، ساعد آبي أحمد في إنشاء ميليشيا فانو التي تقاتل الآن حكومته. ففي ظل حكومة إثيوبيا السابقة التي كانت تسيطر عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، تم سجن العديد من حركة فانو. لكن عندما تولى آبي السلطة في 2018، واعدًا بالديمقراطية، أطلق سراحهم كجزء من عفو ​​جماعي عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين.

وخلال الحرب مع التيجراي، استطاعت حركة فانو تعظيم قوتها وثروتها. “كان بإمكانهم التجنيد، كان بإمكانهم الاحتفاظ بالأسلحة التي عثروا عليها في تيجراي الغربية لأنفسهم، وكان لديهم دعم الحكومة في كل ما فعلوه”، يقول باحث غربي -لم يرغب في الكشف عن اسمه- مُبديًا عدم دهشته من كون فانو تقاتل الحكومة الآن: “كنت أتوقع أن يحدث هذا قبل ذلك بكثير”.

وأضاف الباحث لصحيفة The New Humanitarian: “لديك العشرات من حميدتي (قائد قوات الدعم السريع في السودان) في منطقة أمهرة، والعشرات من الرجال القادرين على بناء القوات، والحصول على بعض المأسسة من جهاز الدولة، وهذا بالضبط ما فعلته قوات الدعم السريع”.

على الرغم من أن الجيش الفيدرالي قد استعاد السيطرة حاليًا على بلدات أمهرة، إلا أن تمرد “فانو” لم ينته بعد، وفق تعبير الصحيفة. إذ من المرجح أن تستمر المجموعة في شن حرب عصابات في المناطق الجبلية الداخلية الشاسعة لأمهرة، حيث تحظى بدعم شعبي واسع النطاق.

وليس واضحًا، ما يمكن أن تفعله حكومة آبي أحمد لسحق التمرد المتزايد في أمهرة. فالبناء التنظيمي لحركة فانو فضفاض للغاية، وليس لديه قيادة موحدة. “حتى لو أرادت حكومة آبي التفاوض معهم، فمن غير الواضح من يمكنه التحدث نيابة عن الحركة”.

بالإضافة إلى ذلك، لن تجد الحركة صعوبة في العثور على مجندين من بين ملايين شباب الأمهرة الذين سئموا حكومة آبي أحمد. يقول أحد سكان مدينة كوبو، أحد مراكز القتال: “لا يمكنك القتال مع الجمهور. الجمهور يدعم فانو”.

حتى لو كان تمرد أمهرة في حالة تراجع -حاليًا- فإن التصعيد المفاجئ في العنف هو تذكير بمدى هشاشة سيطرة الحكومة الفيدرالية على بلد منقسم بشكل مرير. كما يسلط الضوء على عيوب اتفاق السلام الضيق الذي أنهى القتال في تيجراي، لكنه فشل في معالجة العديد من الصراعات الأخرى في إثيوبيا.

وقد دمر التمرد مساحات شاسعة من أوروميا، وهي المنطقة التي تضم أكبر عدد من السكان، منذ عام 2019. ولم تحرز محاولات الحكومة المتأخرة؛ لإجراء محادثات السلام هناك تقدمًا يُذكر، حسبما تشير صحيفة “ذي إيكونوميست“.

ما التأثير على دول الجوار؟

يعتقد دبلوماسيون غربيون -بحسب الصحيفة البريطانية- أن فانو ربما تحظى بدعم إريتريا المجاورة التي قاتلت قواتها جنبًا إلى جنب مع آبي أحمد في تيجراي، كما دربت قوات فانو آنذاك. ومنذ عقد اتفاق السلام يُعتقد أن آبي اختلف مع رئيس إريتريا، أسياس أفورقي. يقول أحد الدبلوماسيين: “لا أعتقد أن فانو ستتصرف بهذه الطريقة بدون بعض التشجيع من إريتريا”.

يرى عبد الرحمن سيد، الباحث في شؤون القرن الإفريقي “أن تراجع ميليشيات فانو الأمهرية من المدن الرئيسة في الإقليم أمام تقدم الجيش النظامي بأسلحة ثقيلة”، قد يضاف إلى عوامل القلق لدى النظام الإريتري، خصوصًا بعد دعمه المعلن بأحقيتهم في استعادة منطقتي “والقيت” و”راية” اللتين ظلتا لأكثر من ثلاثة عقود تحت سيطرة إقليم تيجراي.

ويعتقد -في حديثه مع “إندبندنت عربية“- أن “الدعم الإريتري لمطالب أمهرة”، المتمثلة في استعادة تلك المناطق، يتعلق في جزء منه “بالإبقاء على التواصل البري بين الإقليم وإريتريا”، بجانب إيمان أفورقي بأنها تتبع تاريخيًا أمهرة.

وأضاف، “تقدم الجيش النظامي الإثيوبي، وسيطرته على الأوضاع في أمهرة، قد يعني إضعاف أهم حليف للرئيس أفورقي”، وقد يفضي إلى انتزاع منطقة “والقيت” من سيطرة الإقليم وإعادتها إلى تيجراي المدعومة أمريكيًا، مما يقطع المنفذ البري بين أمهرة وإريتريا.

وفي حال استمر الوضع الحالي، فيرجح الباحث، أن يكون خيار الرئيس الإريتري دعم إقليم أمهرة، وتعزيز دفاعاته في الحدود المشتركة مع إثيوبيا، إضافة إلى اعتماده على حلفاء كبار مثل، الصين وروسيا عسكريًا ودبلوماسيًا، لمواجهة الضغوط الغربية.

ومن شأن تمرد فانو، أن يدفع ميليشيات مسلحة في ولايات أخرى على غرار العفر، الذين أثبتوا شراستهم في القتال خلال حرب التيجراي، إلى رفض نزع أسلحتهم، والاندماج في الجيش والشرطة، والأمر ينطبق على بقية الميليشيات في الولايات الأخرى، بحسب تقرير الأناضول.

كما أن الجيش الفيدرالي منهك من حربه ضد التيجراي، الذين أسقطوا عدة مدن في أمهرة، واقتربوا من الوصول إلى العاصمة أديس أبابا، وخوضه حربًا جديدة قد يغري جبهة تيجراي؛ لنقض اتفاق السلام، والعودة إلى القتال، سواء منفردة أم بتنسيق مع أعدائها التاريخيين (الأمهرة).

واحتدام القتال من شأنه، أن يؤدي إلى فرار آلاف اللاجئين إلى شرق السودان، الذي يعد أكثر جهات البلاد أمانًا، لكنه سيزيد من الأعباء على بلاد يحتاج أكثر من نصف سكانها إلى المساعدات الإنسانية.

مخاوف من تفكك البلاد

يتوسط إقليم أمهرة، إقليمي تيجراي في الشمال، وأورومو في الجنوب، وبينهما خصومات ونزاعات طويلة على السلطة، والحدود داخل الدولة الواحدة. لكن أمهرة لديها حدود أيضًا مع إقليمي العفر في الشرق (تعود أصولهم لشبه الجزيرة العربية) وبني شنقول في الغرب (من أصول سودانية).

وللإقليم حدود مع السودان، حيث تقوم الميليشيات الأمهرية بالتوغل في منطقة الفشقة السودانية؛ لاستغلال أرضها الخصبة في الزراعة، ما تسبب في وقوع عدة اشتباكات مع الجيش السوداني، بالتزامن مع حربه الداخلية ضد قوات الدعم السريع.

يدرك المسئولون الإثيوبيون خطورة تمرد فانو على وحدة البلاد، وإمكانية تفككها، وقيام دول جديدة على أرضها، أو انضمامها إلى دول أخرى، تربطها بها روابط عرقية وقبلية مثل، إقليم الصومال، وإقليم بني شنقول (السودان)، وإقليم العفر (جيبوتي)، وإقليم جامبيلا (جنوب السودان). لذلك دعا نائب رئيس الوزراء، إلى الحوار لتفادي حرب جديدة في ثاني أكبر بلد إفريقي من حيث عدد السكان بعد نيجيريا.

ولا يزال الملايين في إثيوبيا يواجهون انعدام الأمن الغذائي أيضًا، حتى مع استئناف برنامج الغذاء العالمي بعد توقف دام شهورًا؛ بسبب السرقة والفساد.

ولتهدئة الموقف، قال محللون -لصحيفة “نيويورك تايمز“- إنه من الحكمة أن تسعى الحكومة إلى الحوار مع الأطراف المتضررة. موريثي موتيجا، مديرة برنامج إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، قالت: “إثيوبيا هي الدولة المحورية في المنطقة، ولها حدود مع ستة بلدان، وكانت تاريخيًا بمثابة دعامة للأمن”.

وأضافت، أنه بينما القتال الأخير “في الأيام الأولى ويمكن احتواؤه”، فإن “العواقب على المنطقة ستكون خطيرة، إذا تطورت إلى تمرد بطيء الاشتعال يمكن أن يجتذب الجيران”.

يتواصل تدفق الشباب الأمهرة إلى المتمردين في الجبال والريف، ويقول شاب في بحر دار عاصمة الإقليم: “سنواصل القتال، نحن فقط بحاجة إلى أسلحة”.