في الوقت الذي ما زال فيه ملف التوافق على تسمية رئيس الجمهورية مفتوحًا بلا بوادر للحل في الأجل قريب، وصلت لبنان يوم الأربعاء الماضي منصة الحفر ترانس أوشن، للتنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط مقابل شاطئ “قانا”. تلك القرية التي ارتبط اسمها بواحدة من مجازر إسرائيل التاريخية في المنطقة، حيث قامت بضربة امتدت لعشر دقائق فقط في مارس 1996، فَرَاح ضحيتها 106 شهداء، من المدنيين، وعشرات الجرحى والمُصابين من السكان المدنيين من أهل “قانا”، وما حولها الذين لجأوا لمقر كتيبة فيجي التابعة للأمم المُتحدة تحت مَظَنةِ، أن مقار “اليونيفيل” غير قابلة للقصف، إلا أن ظنهم قد خاب فكان القصف بلا رحمة، ودون أي اعتبار لكونهم مدنيين، احتموا بمقار منظمة دولية لها قُدسيتها، لكن لا شيء من هذا أبدًا تكترث له إسرائيل. اجتمع مجلس الأمن سريعًا، بدعوةٍ من المرحوم بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة، في ذلك الوقت؛ لاستصدار قرارا للإدانة، لكن، وكالعادة، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الفيتو لإجهاضه.
تحتل شركة ترانس أوشن، التي تملك شركة شيفرون الأمريكية النصيب الأكبر في رأسمالها، المركز الثاني بين أكبر مقاولي الحفر البحري في العالم بعد شركة فالاريس البريطانية، وستبدأ بمطلع الشهر القادم في أعمال التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط مقابل قانا، فيما يُعرف بالبلوك رقم 9، وما أدراك ما البلوك رقم 9. كان لبنان قد وَقَع في أكتوبر 2022 اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بعد سنتين من المفاوضات التي كانت الولايات المتحدة ترعاها، لتدخل شركة توتال إنرجي الفرنسية بعد ذلك في مفاوضات مع الدولة اللبنانية، حيث أبرَم الطرفان في يناير الماضي اتفاقًا تقوم بمقتضاه الشركة الفرنسية بأعمال الحفر والتنقيب. دخلت توتال بعد ذلك في كونسورتيوم، وَقَعت في إطاره اتفاقًا ثلاثيًا مع شركة إيني الإيطالية، وشركة نوفوتاك الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في لبنان، إلا أن الشركة الروسية انسحبت من الاتفاق الثلاثي؛ بسبب الحرب الأوكرانية؛ لتحل محلها شركة قطر للطاقة في الاتفاق الثلاثي، والذي قام الكونسورتيوم بموجبه باستئجار معدات ترانس أوشن؛ لإنجاز أعمال التنقيب. يتوقع خبراء الطاقة في لبنان أن تنتهي أعمال التنقيب بنهاية هذا العام، لتتضح بشكلٍ جَلِىٍ معالم الثروة، حيث لا يوجد أي تأكيد حتى الآن للحجم المتوقع من مخزون النفط والغاز بالبلوك رقم 9.
يتفاءل اللبنانيون -بحذر شديد- بنتائج التنقيب المُتَوَقَعة، فتدهور الأوضاع الاجتماعية، وتردى الأحوال الاقتصادية، وخلو منصب رئيس الجمهورية، بخلاف بطء التعاطي الدولي مع بعض الملفات الإقليمية العالقة، كلها أمور قد تعوق أي إمكانات؛ لأن تسهم الاكتشافات -إن وُجِدَت- بقدرٍ ملموسٍ في تعافي الاقتصاد اللبناني المأزوم، وذلك لعدة أسباب يتداخل فيها الاقتصاد بالسياسة. فاتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، كان قد نُصَ فيه على أن يقوم المُشَغِل (الكونسورتيوم الذي تقوده توتال إنرجي) للبلوك رقم 9، بإبرام اتفاق منفصل مع إسرائيل؛ لتقاسم الحصص والكميات المُكتَشَفَة، وهو أمرٌ يرهن قيمة عوائد النفط، والغاز اللبنانية المُتَوَقَعَة بتفاوضٍ لا دخل للدولة اللبنانية فيه، إذ هو يتم بين طرفين خارجيين أحدهما عدوٌ صريح العداوة. فقد جاء بالبند الخامس من القسم الثاني باتفاقية ترسيم الحدود ما نصه: “يدرك الطرفان أن إسرائيل ومُشَغِل البلوك رقم 9 يخوضان بشكل منفصل نقاشات؛ لتحديد نطاق الحقوق الاقتصادية العائدة لإسرائيل من المَكمَن المحتمَل. وستحصل إسرائيل على تعويض من مُشَغِل البلوك رقم 9 لقاء الحقوق العائدة لها من أيّ مخزونات محتمَلة في المَكمَن المحتمَل لهذه الغاية، ستعقد إسرائيل ومُشَغِل البلوك رقم 9 اتفاقية مالية قبيل اتخاذ مُشَغِل البلوك رقم 9 قرار الاستثمار النهائي. ويتعيّن على إسرائيل العمل بحسن نية مع مُشَغِل البلوك رقم 9؛ لضمان تسوية هذا الاتفاق في الوقت المناسب. ولا يكون لبنان مسئولًا عن أي ترتيب بين مُشَغِل البلوك رقم 9 وإسرائيل ولا طرفًا فيه”.
يثير الاقتصاديون اللبنانيون مسألة أخرى؛ بشأن استخدام تلك العوائد، فهناك من يأمل في إيداعها بصندوق سيادي للأجيال القادمة، وهناك من يتوقع استخدامها لسداد ديون لبنان الطائلة، وربما يدفع الواقع الاقتصادي الأليم إلى استخدامها؛ لسداد الاحتياجات التي عَدَدَها القائم بأعمال حاكم المصرف المركزي في بيان أصدره يوم الخميس الماضي؛ لتذهب مع الريح، كما ذهبت مليارات الدولارات من ودائع اللبنانيين على مدار عهد الدكتور رياض سلامة، الحاكم السابق للمصرف المركزي، الذي امتد لثلاثين عامًا كاملة، انتهت بتجميد أمواله وأربعة من شركائه. ففي يوم الخميس الماضي، أصدر الدكتور وسيم منصوري، القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان المركزي بيانًا مثيرًا، جاء فيه أن الاحتياطي من الأموال السائلة يتضمن مليارًا و530 مليون دولار نقدًا، في خزينة المصرف المركزي، و3 مليارات و114 مليون دولار بحسابات جارية، و3 مليارات و711 مليون دولار في شكل ودائع لأجل، و218 مليون دولار كأوراق مالية دولية. من ناحية أخرى، أوضَح البيان أن الالتزامات الخارجية تتضمن 275 مليون دولار نقدي، لحسابات القطاع العام بالدولار، و8 ملايين دولار لحسابات القطاع المصرفي بالدولار، و125 مليون دولار؛ لرصيد حقوق السحب الخاصة المتوفر للاستعمال، و96 مليون دولار اعتمادات مستندية مفتوحة من قبل مصرف لبنان، و660 مليون دولار قروض لجهات عربية، و106 ملايين دولار ودائع عربية.
هل تكون اكتشافات النفط والغاز المُحتمَلة في البلوك رقم 9 الشهير هي مفتاح حل أزمات لبنان الاقتصادية، أم تكون بداية لصراعٍ يتخذ شكلًا جديدًا في المنطقة؟ هذا ما ستتضح معالم الإجابة عليه بنهاية هذا العام.