باختصار شديد: لم تتوفر للمماليك سلطة فردية مُطلقة، ومن ثم لم يتوفر لأي منهم القدرة على ممارسة الظلم المطلق، السلطة المملوكية دائماً كانت لها حدود بمقدار ما كانت عليها من قيود، ومن ثم فإن مظالم المماليك كان لها ما يصدها عن الشعب سواء من جهة المتنافسين على السلطة من باقي المماليك، أو من جهة القضاء كمؤسسة مستقلة عن السلطة التنفيذية، أو من جهة المظلومين أنفسهم حيث كانت تناقضات النظام المملوكي وتركيبة المجتمع المصري تسمح للمظلومين  بهوامش واسعة من الاحتجاج طلباً للإنصاف ورفع ما يتنزل عليهم من مظالم. لم يحدث أن تمتع سلطان مملوكي بحكم فردي مطلق من منتصف القرن الثالث عشر حين هزموا لويس التاسع في المنصورة 1250م ومن بعده هزموا التتار في عين جالوت 1260م حتى مطلع القرن السادس عشر حين انهزموا أمام العثمانيين 1517م، كذلك لم يحدث أن تمتع أي بك مملوكي ولا عصبة مملوكية بحكم فردي مطلق في إطار السيادة العثمانية حتى مطلع القرن التاسع عشر، فقاعدة الخلع العاجل أو القتل العاجل التي كان المماليك يحسمون بها عملية انتقال السلطة والتداول الدموي عليها كانت تكفل أمرين: أن القائم في الحكم يتحسب من الوقوع في المظالم، وأن القادم إلى الحكم يبدأ مهام سلطته برفع المظالم، ومن راح ومن جاء كلاهما ينشد حسن الذكر بين الناس.

الحكم الفردي المطلق عرفه المصريون مع مطلع القرن التاسع عشر ثم تجدد مع منتصف القرن العشرين، الحكم الفردي المطلق بدأ مع الدولة الحديثة دولة محمد علي باشا وذريته من بعده، فالباشا وذريته هم الذين وضعوا قواعده، ثم تعمق الحكم الفردي المطلق مع إعلان النظام الجمهوري وتداول ضباط من الجيش على منصب الرئاسة عبر سبعين عاماً من 1953 – 2023م. هذه الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتى وقت كتابة هذه السطور ظاهرتين غير مسبوقتين:

1 – الظاهرة الأولى: هي تمكين الحاكم الفرد من سحق خصومه ثم محق منافسيه ثم تدمير حلفائه، بصورة تمكنه من السيطرة المطلقة على رجاله المقربين من أهل ثقته، ثم يسيطر بهم على المؤسسات، ثم المؤسسات تسيطر على مفاصل الدولة، ثم الدولة تسيطر على الشعب، ثم الشعب على الهامش البعيد مهمش ومستبعد. 2 – الظاهرة الثانية: هي تحزيم الشعب بأحزمة شديدة الفتل من خلال بيروقراطية إدارية وأمنية ذات قبضة من حديد تحيط بالشعب من فوقه ومن تحته ومن خلفه ومن أمامه، تحيط به من كل جهاته وفي كل أوقاته، فهو دائما مكبل مغلول مقيد مفعول غير فاعل متلقي غير ذي مبادرة ومن يبادر ينتهي بالعقاب. هاتان الظاهرتان هما أهم ما يميز الدولة الحديثة منذ تأسست حتى يومنا هذا.

الدولة الحديثة كانت وما زالت دولة الحكام ومن حولهم من ذوي الامتيازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا هي حديثة بشيئين: بالاسم الحديث ثم بالقهر الحديث غير المسبوق للشعب، وتكون دولة حديثة فعليا عندما تتحول من دولة حكام يقهرون المواطنين إلى دولة مواطنين يختارون الحكام ويحاسبونهم ويولونهم ويعزلونهم بالدستور والقانون عبر التصويت الحر في صندوق الانتخاب.

ترتيب السلطات في نظام الحكم المملوكي كان يسمح بمقدار كبير من الفصل ثم التوازن بينها، وكان هذا أهم الكوابح المانعة للحكم الفردي المطلق منعاً حاسماً.

1 – رأس السلطة كان الخليفة العباسي المقيم في القاهرة، تحت حماية ورعاية وكفالة ووصاية حكامها من المماليك، ولم يكن الخليفة غير اسم بلا مضمون فعلي، مجرد إضفاء الشرعية الدينية على الحكم في عصور كان الدين- عندنا وعند غيرنا- أهم مصادر الشرعية السياسية، كان بعض السلاطين يستبدل الخليفة، وبعضهم يعتقله، وبعضهم يضيق عليه، وبعضهم يحرمه من مزاياه المالية والمعيشية، كان الخليفة مجرد صورة لا أكثر ولا أقل.

2 – السلطة التنفيذية العليا يمثلها السلطان المملوكي، وهو إما خلع من سبقه وإما قتله فجلس مكانه على كرسي السلطنة أو جاء بتوافق من القيادة العسكرية العليا لأمراء الجند من كبار قادة المماليك، ومصيره في يد أقرانه وتلاميذه من المماليك لو شاءوا خلعوه أو اعتقلوه أو قتلوه، هم مستعدون لذلك، وهو يعرف ذلك، فهذه هي الآلية المعتمدة للتغيير السياسي والتداول على السلطة.

3 – ثم سلطة القضاء، حيث قضاة المذاهب الأربعة، كان القضاء في الدولة الفاطمية شيعياً والقضاة من فقهاء الشيعة لأكثر من قرنين، ثم في الدولة الأيوبية ألغى صلاح الدين القضاء الشيعي وعزل القضاة الشيعة وعين مكانهم قضاة من المذهب الشافعي، ثم مع الدولة المملوكية قرر الظاهر بيبرس أن يكون للقضاء مجلس أعلى من كبار قضاة المذاهب الأربعة، هذا المجلس كان مستقلاً عن السلطان، كما كان مستقلاً عن كافة مستويات السلطة المملوكية، لم يكن على القضاة من سلطة إلا سلطة الشريعة وكانت هي القانون المعمول به ثم سلطة الضمير وقد اشتهر كثير منهم بالاستقلال والقوة والنزاهة والزهد والعدالة والورع، كما كان منهم من هو مستعد لمجاراة السلطان.

4 – ثم القيادة العسكرية العليا، تتكون من عدد من الأمراء يبلغ ستة وعشرين أميراً، ومن بينهم يتم اختيار ستة أمراء لشغل المناصب العليا في الدولة.

– قدرة السلطان المملوكي على فرض كلمته وإملاء إرادته، كان يتم اختبارها بين مستويات تركيبة الحكم ومؤسساته ومراكز القوة الفاعلة فيه، من القوة الشكلية لكنها رمزية ولا استغناء عنها عند الخليفة، ومن التصديق القانوني الذي يمثله القضاة الأربعة كسلطتي تشريع وقضاء معاً، ثم موافقة وتمرير وتنفيذ القيادات العسكرية العليا بمن فيهم الستة الذين يجمعون بين الصفتين السياسية والعسكرية.

– ولنأخذ بعض الأمثلة من بعض القرارات الكبرى:

1- الدولة المملوكية- مثلها مثل الدولة الأيوبية- كانت دولة عسكرية، بطبيعة التحدي التاريخي الذي أحاط بالمنطقة، حيث غزوات الصليبيين من الغرب، وغزوات المغول التتار من شرق، عجزت الدولة الفاطمية عن المواجهة فسقطت، نهضت الدولة الأيوبية بالدور، ثم بعد وفاة صلاح الدين انقسم أشقاؤه وتشرذم أحفاده وحارب بعضهم بعضاً وتحالف بعضهم مع الفرنج والتتار ضد بعضهم الآخر، وتطوع أحدهم وأعاد من جديد  بيت المقدس للصليبيين دون قتال، فما حرره صلاح الدين منهم سلمه لهم حفيده، فسقطت الدولة الأيوبية مثلما سقطت من قبلها الدولة الفاطمية إذ عجزت كلتاهما عن الاستمرار في مواجهة التحديات العسكرية.

هذا الدور قام به المماليك خير قيام، كانوا آلة عسكرية لا تتوقف عن الحرب، صدوا الصليبيين، ثم صدوا التتار، تاريخ عسكري من أمجد ما يكون، لكن هذه الآلة كانت تحتاج إلى تمويل، والتمويل كان يعني أن تمتد أيدي الحكام إلى ما في أيدي المصريين أو الشوام أو الحجازيين أو اليمنيين أو أي من الشعوب التي انضوت تحت سلطنة المماليك، ومد الأيدي إلى ما في جيوب الناس من السهل تسويغه وتبريره بالجهاد في سبيل الله ونصرة دين الله والذود عن حرمات المسلمين ومواجهة أعداء الدين. لكن المؤسسة القضائية- كمؤسسة ثم كأفراد- كان لها موقف حاسم، يغل يد السلاطين عن تجريد الناس من أرزاقها، ويحمي أموال الناس أن يتم استباحتها بدعاوى دينية ومبررات عاطفية، كان رأي القضاء يدور حول الفصل التام بين الاقتصاد العسكري والاقتصاد المدني، وكانت القاعدة القانونية عندهم تقوم على: الإنفاق على الحرب يكون من بيت المال، ثم من الاقطاعات التي يملكها المماليك لهذا الغرض، ثم من أموال المماليك التي غنموها من الحروب وكنزوها لأنفسهم في قصورهم وقلاعهم، هذه هي مصادر التمويل العسكرية كما رآها القضاء. ثم قالوا: إذا فرغ بيت المال، ثم إذا فرغت الاقطاعات، ثم إذا فرغت الثروات الخاصة بالمماليك والتي غنموها من الحرب، ثم إذا وصل المستوى الاقتصادي للمماليك إلى درجة التساوي مع المستوى الاقتصادي لعامة الناس، ففي هذه الحالة يجوز الأخذ من أموال عامة الناس لتمويل نفقات الحرب. هذا ما لم تحدث مداهمة مباغتة ويفاجأ الناس أن العدو قد دخل عليهم بالفعل، ساعتها كل الأموال تكون في خدمة الحرب.

فكرة أن يتبرع الناس للحرب أو يفرض السلطان عليهم تمويل الحرب من جيوبهم مشروطة بأن تفرغ مصادر التمويل من خزائن الدولة ثم من خزائن القوات المسلحة ثم من خزائن كبار القيادات ثم عندما يتساوى المستوى الاقتصادي والمعيشي للعسكريين مع نظيره للمدنيين، ساعتها فقط يجوز اللجوء لأخذ الأموال من جيوب الناس، هذه فكرة جبارة وعبقرية وعقلانية وتقدمية ومتحررة وحديثة، ولو قال بها أحد- في أيامنا هذه- لتم على الفور اتهامه في وطنيته وانتمائه وولائه وديته وأخلاقه.

– في ص 361 من الجزء الأول من تاريخ المقريزي “السلوك لمعرفة دول الملوك” يقول أنه لما زحف هولاكو نحو الشام، أرسل ملكُ حلب رسولاً إلى مصر، يستنجد بعسكرها، فانعقد مجلس حرب في القلعة، حضره السلطان المنصور علي ( عمره خمسة عشر عاماً وتولى بعد أن قتلت شجر الدر والده السلطان عز الدين أيبك) كما حضره اثنان من القضاة الأربعة هما قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، وقاضي القضاة الشيخ العز ابن عبدالسلام الملقب بسلطان العلماء، كما حضر عدد من كبار القادة العسكريين في مقدمتهم نائب السلطان سيف الدين قطز، وكان الغرض من الاجتماع الحصول على موافقة القضاة على اللجوء إلى جيوب المصريين لتمويل نفقات الأعمال العسكرية.  فرد العز بن عبد السلام وقال: “إذا لم يبق في بيت المال شيء، أو أنفقتم الفوائض الذهب ونحوها من الزينة، وتساويتم مع العامة في الملابس سوى آلات الحرب، وإذا لم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس لدفع الأعداء. إلا أنه إذا دهم العدو، وجب على الناس كافة دفع العدوان بأموالهم وأنفسهم، ثم انفض الاجتماع”. انتهى كلام العز بن عبد السلام، وقد رفض – كسلطة تشريعية وقضائية- أن يمنح السلطة التنفيذية والقيادة العسكرية الإذن باستباحة أموال الناس تحت مبررات الحرب.

2 – السلطان لم يكن يملك من القرار شيئاً قل أو كثر، كان القرار الفعلي بيد نائب السلطان سيف الدين قطز، وقد قرر أمرين لضرورة الحرب: أولهما خلع السلطان بدعوى عدم أهليته لقيادة المملكة في وقت حرب، وبالفعل اعتقل السلطان وأم السلطان وشقيق السلطان وأودعهم في السجن، ثم القرار الثاني ضرب بعرض الحائط فتوى القضاة وجمع الأموال من الناس. ثم تفرغ لمواجهة ما هو أخطر، فقد جاءه تحذير ممن هولاكو يدعوه للتسليم وعدم القتال وإلا نال مصر ما نال غيرها من احتلال ثم تدمير وتخريب وقتل وإذلال، وقال له هولاكو: نحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى.  قطز واجه الإنذار بعظمة الرجال وهمة العظماء من القادة كما تتجلى في لحظات الخطر وقرر أنه لا مفر من الاستعداد للحرب، غير أنه فوجئ أن الأمراء والقادة العسكريين الكبار – كما يقول المقريزي ص 371 – “غير راضين بالخروج كراهةً في لقاء التتر”. وفي ص 372 “طلب الأمراء وتكلم معهم في الرحيل للحرب، فأبوا كلهم عليه، وامتنعوا من الرحيل، فقال لهم: يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلوا أموال بيت المال وأنتم للغزو كارهون؟!”. وفي ص 273 “ثم لما وصل الملك المظفر سيف الدين قطز بالقوات إلى غزة جمع الأمراء وحضهم على قتال التتر، وذكرهم بما وقع لأهل الأقاليم من القتل والسبي، وخوفهم من وقوع مثل ذلك، وحثهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد”. وفي ص 375 “واستولى الملك المظفر على سائر بلاد الشام كلها من الفرات إلى حدود مصر، وأقطع الأمراء الصالحية والمعزية وأصحابه بقطاعات الشام”. وكما خلع قطز السلطان الذي قبله واعتقله، قتله بيبرس وتسلطن مكانه، وبينما كانت القاهرة تتزين لاستقبال السلطان المظفر، نودي في الناس بحكم السلطان الظاهر بيبرس، فاغتم الناس.
لكن أول قرار اتخذه بيبرس، كان الغاء قرارات قطز، التي جمع بها الأموال من الناس لتمويل الحرب، ورد للناس ما كان قد أُخذ منهم، ففرح الناس بالسلطان الجديد، ونسوا دم السلطان القديم.

وهذه آلية مهمة وفعالة لرد المظالم ورفعها عن الناس، فما أخفق فيه القضاة، نجح فيه تداول السلطة، نجح فيه السلطان الجديد، وهي آلية ردع ذاتي من داخل نادي الحكم والسلطة العسكري المملوكي المغلق، في ص 378 يقول المقريزي “وكانت القاهرة قد زُينت لقدوم الملك المظفر قطز، والناس في فرح ومسرات بقتل التتر، فلما طلع النهار نادى المنادي في الناس: ترحموا على الملك المظفر، وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس، ثم في آخر النهار بالدعاء للملك الظاهر – تغير اللقب في المساء عن الصباح – فغم الناس ذلك”.

نصل إلى المهم، إلى رفع المظالم، يقول “وكان قطز قد أحدث في هذه السنة حوادث كثيرة عند حركته لقتال التتر، منها تصقيع الأملاك وتقويمها، وأخذ زكاتها من أرباحها، وأخذ ديناراً من كل واحد من جميع الناس من أهل إقليم مصر، وأخذ من التركات الأهلية ثلثها، فأبطل الملك الظاهر جميع ما أحدثه قطز، وكتب به توقيعاً قُريء على المنابر، فكان جملة ما أبطله ستمائة ألف دينار، فسر الناس ذلك، وزادوا في الزينة “. انتهى الاقتباس من المقريزي.

فرحة المصريين برفع المظالم تسبق فرحتهم بالنصر ومن انتصر كما تسبق اهتمامهم بمن قتل ومن قُتل ومن خُلع ومن تولى، وأوجزها المقريزي في كلمتين: فسُرَ الناس بذلك، وزادوا في الزينة.

لم يعرف المصريون الحكم بالكرباج – كعقيدة سياسية رسمية وعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم- إلا في دولة محمد علي باشا وذريته من بعده، كذلك لم يعرف المصريون- في تاريخهم كله- التوسع في السجون وتضخم الغدد الأمنية والقمعية وأدوات القهر والرقابة والترويض مثلما حدث مع تأسيس النظام الجمهوري وحكم الرؤساء القادمين من صفوف الجيش والمنحدرين من أصلاب أمهات وآباء مصريين أباً عن جد. محمد علي باشا جاء به الشعب وفق شرطين: العدل والشرع. فكان كل همه التخلص من المفاهيم الثلاثة، مفهوم الشعب، مفهوم العدل، مفهوم الشرع أو القانون، وأحل نفسه – كولي للنعم- محل ذلك كله، وتم نسج أسطورة الدولة الحديثة والعبقري مؤسسها كصك غفران مجاني لكل جرائمه في حق المصريين. كذلك جاءت الجمهورية بعد عقود من كفاح الشعب في سبيل الاستقلال والدستور والحريات والديمقراطية والحكم البرلماني وحرية الصحافة واستقلال القضاء والتوازن بين السلطات وحماية الملكية والعدل الاجتماعي، فأهالت الجمهورية التراب على كل ذلك التراث، وأحلت شخص رئيس الجمهورية كقيمة عليا ووحيدة،  يتم فيها اختزال فكرة الوطن والوطنية، ويتحول المواطن إلى مجرد لفظ منزوع القوة الذاتية، ليس له في ذاته معنى، إلا التكيف الاضطراري مع الهوامش الضيقة من الحرية كما يسمح بها الرؤساء من ضباط الجيش ، الدولة الحديثة- بكل عهودها- مصهر إجباري وبوتقة اضطرارية لنزع روح الحرية والعدل والمبادرة من أنفس المصريين. الدولة الحديثة تنفرد بأمرين لما يكونا قبلها: الحكم الفردي المطلق طالما نجح الحاكم في التخلص من خصومه وحلفائه معاً فيخلو له الجو تماماً، ثم تحزيم الشعب بحزام الصمت والخضوع كشرط للأمان والحياة في سلام.

قيمة العدل كانت هي أول ضحايا الدولة الحديثة، إذ أدى الحكم الفردي المطلق مع الخضوع الشعبي العام إلى سيطرة الحاكم على كل تفاصيل الحياة، وأحل فكرتي النظام والانضباط محل فكرتي العدل والحرية، فلم يوجد من يحمي قيمة العدل والحرية سواء من داخل مؤسسات النظام أو من داخل قوى المجتمع، وكلما أوغلت الدساتير في تعظيم قيمتي العدل والحرية كلما كان وجودهما- في الواقع- عند أدنى مستوياتهما.

لكن قبل الدولة الحديثة، من الأيوبيين إلى المماليك إلى العثمانيين، ورغم كل مثالب العصور الوسيطة، كانت فكرة العدل ومعها الحرية، تجد بعض الحماية في: أن الشريعة- أي القانون- ليست من صنع الحاكم ولا من برلمان يسيطر عليه الحاكم، وهذه في حد ذاتها كانت تضع الحواجز بين ما في هوى الحاكم من نزوات وبين قدرته الفعلية على تحويلها إلى قرارات يسري مفعولها على الناس. ثم هذا الاستقلال للقانون عن الحاكم كان يترتب عليه استقلال سلطة القضاء عن سلطة التنفيذ، فكان القاضي يستطيع أن يقول للسلطان الأيوبي أو المملوكي لا ثم لا ثم لا دون أن يترتب على هذا الجهر بالحق عقاب أو تنكيل أو عزل من منصبه.

في ص 95 من الجزء الثاني من تاريخ جلال الدين السيوطي “حُسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة” يحكي عن مواجهة قاضي القضاة الشيخ مُحيي الدين النووي مع السلطان بيبرس، فيقول أن السلطان ” ظلم أهل الشام غير مرة، وأفتاه جماعة من القضاة والفقهاء بموافقة هواه، فقام الشيخ مُحيي الدين في وجهه، وأنكر عليه، وقال له: أفتوك بالباطل”، ثم يقول “وكان – أي السلطان بيبرس- بمصر مُنقمعاً تحت كلمة قاضي القضاة الشيخ عز الدين ابن عبدالسلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى أن السلطان عندما مات الشيخ قال: لم يستقر أمري – أي حكمي- إلا الآن”.

استقلال القانون أو الشريعة مع استقلال القضاء، كان من شأنهما أن يكون القانون فوق السلطان وليس السلطان فوق القانون، فقد وقع نزاع بين السلطان وأحد الأمراء على ملكية بئر ماء، يكون من أملاك من؟ السلطان أم الأمير؟، وقد مثل الخصمان – على قدم المساواة – أمام القضاء، وقد حكم القاضي للسلطان، ليس لأنه السلطان، ولكن لأنه أثبت بالأدلة أنه هو – دون خصمه – مالك البئر محل النزاع. يقول السيوطي “حضر السلطان في يوم الثلاثاء تاسع رجب سنة 660 هجرية، إلى دار العدل، في محاكمة، حول بئر، بين يدي القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، فقام هو وغريمه بين يدي القاضي وتداعيا، أي ادعى كل منهما ملكيته للبئر، وكان الحق في جانب السلطان، وله بينة عادلة به، فانتُزعت البئر من يد الغريم، وهو أحد الأمراء”.

العدل والظلم في الحكم والسياسة ليسا مجرد فضائل أو رذائل شخصية أو فردية، لكن هي بالدرجة الأولى توازن بين السلطات، لهذا اهتدت الديمقراطيات الغربية إلى عدم تمكين سلطة من الهيمنة على باقي السلطات وتسخيرها لرغباتها، ولذا تم غل يد السلطة التنفيذية من الهيمنة على السلطتين الوازنتين: التشريع والقضاء، ثم السلطة الشعبية وهي الرأي العام.

– صادر السلطان بيبرس أملاك بعض أهالي دمشق، واعتقلهم جميعاً، حتى يثبتوا امتلاكهم لهذه الأراضي والعقارات والمواشي وغيرها. رفض قاضي القضاة محيي الدين النووي ذلك الإجراء من السلطان، وقضى بأن الناس ليس عليهم إثبات ملكية ما في أيديهم، إذ يكفي أنها في أيديهم، ويكفي أنها انتقلت إليهم من أهليهم، ويكفي أن كل واحد يعلم أن هذه ملك فلان من الناس، ونصحه أن يطلق سراحهم جميعاً من الاعتقال، وأن يرد إليهم أملاكهم، وختم رسالته بالقول ” من في يده شيء فهو ملكه، ولا يحل (للسلطان) الاعتراض عليه، ولا يُكلف بإثبات، فإن غالبهم ورثوا هذه الأملاك عن أسلافهم، ولا يُمكن تحصيل كتب شراء (أي عقود بيع وشراء) وقد نُهبت كُتُبُهم (في الحروب).

– كما أرسل قاضي القضاة مُحيي الدين النووي إلى بيبرس رسالة مطولة ينصحه بإبطال المكوس والمظالم التي يئن تحتها الناس، فرد عليه بيبرس بغرور وبعنف، من الغرور أنه لا يجوز لقاضي القضاة أن يتجرأ على القائد صاحب الانتصارات والفتوحات والغزوات في سبيل الله، ثم بعنف فيه تهديد ووعيد. فرد قاضي القضاة بجرأة أكبر، وبقوة أشد. فعن جهاد السلطان والذين معه من الأمراء والأجناد، قال له أن ذلك له مقابل من اقطاعات وامتيازات مالية يتمتعون بها وينفردون بها ولا يشاركهم فيها أحد، ومن ثم لا يجوز لهم الجور على ما في أيدي الناس، قال القاضي للسلطان “جهاد الأجناد مُقابلٌ بالأخباز المقررة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع أو غير ذلك، وعلماء الإسلام متفقون على ذلك، وبيت المال بحمد الله معمور”. (هنا بيبرس كان يعيد انتاج مظالم قطز التي سبق هو ذاته أن ألغاها بعد أن قتل قطز وتسلطن مكانه).

أما عن تهديد السلطان ووعيده للقاضي، فقد رد عليه القاضي بالقول “أما أنا في نفسي، فلا يضرني التهديد، ولا ما هو أكثر من التهديد، ولا يمنعني ذلك من إسداء النصيحة للسلطان، فإني اعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيث كنا وألا نخاف في الله لومة لائم”. انتهى كلام قاضي القضاة ص 101 من الجزء الثاني من تاريخ السيوطي “حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة”.

الحديث مُستأنف الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.