الجدل الذي تشهده أوروبا في أعقاب أي محطة سياسية، أو اجتماعية أو حتى رياضية، حول علاقة الانتماء للوطن بالجنسية، تكررمؤخرا عقب قرار السلطات السويدية بحث إمكانية سحب الجنسية، من مواطنين سويديين في حال ارتكابهم جرائم بعينها، أو إذا حصلوا عليها بطرق ملتوية.

والحقيقة، أن هذه القضية طرحت في أكثر من بلد أوربي، واستهدفت، ولو ضمنا الأوربيين من أصول مهاجرة أو عربية، وهو الموضوع الذي طرح في أكثر من محطة، شهدتها عواصم أوروبية كبرى، عقب الجدل الذي دار حول قيام كثير من لاعبي المنتخب المغربي ممن يحملون الجنسية الأوروبية، باللعب لصالح بلدهم الأصلي المغرب في إعلان واضح، بأن حمل جنسية بلد لا يعني بالضرورة الانتماء له.

والحقيقة، أن النقاش الذي دار في أكثر من بلد أوربي في دلالات اختيار لاعبين يحملون الجنسية الأوربية، أن يلعبوا تحت راية بلدهم الأصلية التي لم يعيشوا فيها، وبعضهم لا يتكلم بشكل جيد لغتها، فتح قضية التمييز في أوروبا، ليس فقط  فيما يتعلق باختيارات اللاعبين، إنما أيضا المشجعين، حيث هاجم العديد من السياسيين تشجيع كثير من الفرنسيين من أصول عربية لفريق المغرب، حين لاعب فرنسا في كأس العالم، واعتبروا ذلك عدم ولاء للبلد الذي يعيشون فيه ويحملون جنسيته، وعايرهم البعض الآخر بالمساعدات التي يحصلون عليها من قبل الدولة، والتأمين الصحي وشبكات الضمان الاجتماعي وقالوا، إن هؤلاء حصلوا على الجنسية الفرنسية؛ من أجل الحصول فقط على هذه الامتيازات، وليس انتماء لفرنسا.

وجين اندلعت الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا في شهر يونيو الماضي، في أعقاب مقتل الصبي الفرنسي من أصول جزائرية (نائل) على يد أحد رجال الشرطة، فتح أيضا بصورة أخرى ملف الفرنسيين من أصول مهاجرة؛ لأن 90% ممن ألقي القبض عليهم في حوادث العنف التي تلت جريمة القتل، كانوا يحملون الجنسية الفرنسية على عكس العقود السابقة، حين كان أغلب المهاجرين لا يحملون الجنسية الفرنسية.

وقد أدت حادثة مقتل الصبي نائل إلى فتح ملف ثالث، يتعلق بعلاقة الشرطة بحملة الجنسية الفرنسية من أصول مهاجرة، خاصة بعد أن ارتفعت أعداد من ماتوا على يد الشرطة بطلقات نارية مميتة في عامين؛ نتيجة “عدم الامتثال” للأوامر الشرطية إلى 18 شخصا، وهو من أعلى الأرقام في أوروبا، لأن القانون يبيح للشرطي استخدام سلاحه في حال، شعر بتهديد مباشر أو في حالة الدفاع عن النفس، وليس عدم الامتثال للأوامر.

يقينا، هذه الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا، وتشهدها أوروبا من حين إلى آخر لها بعد اقتصادي، ولكن الجانب الأكبر منها يتعلق أساسا بالتهميش الاجتماعي والثقافي، وشعور قطاع واسع من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة؛ بأنهم لا يعاملون مثل الفرنسيين أصحاب البشرة البيضاء، وترسخ لديهم قناعة، أن المؤسسات الفرنسية عنصرية والشرطة تستهدفهم، وأن المنظومة الحاكمة دفعتهم للعيش في الضواحي مهمشين، يعانون من التمييز والبطالة؛ بسبب لون بشرتهم أو أسمائهم حتى لو كانوا يحملون الجنسية الفرنسية.

والحقيقة، أن هناك كثيرين من تيارات اليمين القومي المتطرف، اعتبرت أن هؤلاء “الفرنسيين المهاجرين” غير قابلين للاندماج؛ بسبب خلفيتهم الثقافية والدينية، وأن الجريمة والعنف متأصلان فيهم، وخرجت مقولات “الإرهاب الإسلامي”؛ لتوصيف أي عملية إرهابية يقوم بها مواطنون أوربيون من أصول عربية، حتى لو كانوا “أرباب سوابق”، ولم يدخلوا مسجدا، واعتبروها فرصة للقول، إن هؤلاء لا ينتمون لفرنسا، ويجب سحب الجنسية منهم.

الحقيقة، أن حوادث العنف والجريمة التي يرتكبها أوربيون من أصول مهاجرة، عادة ما تثير ردود فعل مختلفة عن تلك التي يرتكبها الأوربيون أصحاب البشرة البيضاء، وأصبح هناك من يطالب بسحب الجنسية من أي أوربي من أصول مهاجرة، يرتكب جرائم أو يمارس إرهاب، وهنا يُخلي الجانب الغربي مسئولية منظومته السياسية، والثقافية في التمييز بين مواطنيه على أساس خلفياتهم الثقافية، مما يدفع بعضهم لارتكاب مثل هذه الجرائم.

إن الجريمة البشعة التي ارتكبتها الممرضة البريطانية لوسي ليتبي (33 عاما) في قسم الأطفال بأحد مستشفيات مدينة تشيستر الإنجليزية، وقامت بقتل 7 أطفال رضع حديثي الولادة، حيث قامت بحقن الأطفال بالأنسولين، وأحيانا بحقن الهواء، أو دس الحليب بالقوة في أفواههم، ومن بين الضحايا توأمان قُتلا في غضون 24 ساعة، ورضيع يقل وزنه عن كيلو جرام واحد، كما حاولت قتل 6 رضع آخرين، وأدينت على جرائمها، وحكم عليها أول أمس بالسجن مدي الحياة.

هذه الجريمة الاستثنائية في بشاعتها، لم تدفع أحدا للمطالبة بسحب الجنسية البريطانية من الممرضة البيضاء، إنما أدينت بحكم ناجز وعادل وأغلق الملف، ولنا أن نتصور ما ذا سيكون رد الفعل، لو كان مرتكب هذه الجريمة ممرضة من أصول عربية، لكان تم استدعاء كل الأحكام القيمية عن ثقافتها وأصولها وحتى اسمها، ولكانت تعرضت لحملة عنصرية تطالب في النهاية بسحب الجنسية البريطانية منها.

فلا زال كثيرون يتذكرون، كيف أن انتصارات المنتخب الفرنسي في كرة القدم تُحول معظم اللاعبين الذين من أصول إفريقية إلى أبطال، وكيف أن خسارتهم تُحولهم إلى أجانب، وغرباء وتطالب بعودتهم إلى بلادهم رغم جنستهم الفرنسية.

من المؤكد، أن بحث سحب الجنسية من مواطنين أوربيين، كما يطالب بعض السياسيين في عدد من البلدان الأوروبية، سيطبق أساسا على من هم ذوي أصول مهاجرة وأجنبية، لأن هذا التوجه سيكون امتدادا، لتصور متصاعد يعتبر، ولو ضمنا أن هؤلاء “الأوربيين المهاجرين” يتمتعون “بمواطنة منقوصة” لا يشار إليها في الأوراق الرسمية، إنما هي بسبب الممارسة في الوقع، مما سيجعل على الأقل لفترة قادمة حمل جنسية بلد غربي، لا يعني بالكامل الانتماء له؛ نتيجة وجود منظومة سياسية واجتماعية وثقافية سائدة، لا تزال تميز  بين الأوربيين من أصحاب البشرة البيضاء، ونظرائهم من أصول مهاجرة.